قدم مستر ج . س. سكوت المفتش الاول للتعليم بمصلحة المعارف،مذكرة عن التعليم الى مدير مصلحة المعارف في مايو 1932م، وقد كان صاحب اتجاهات في الاصلاح فدعا للتجديد والتطوير، وفي اتجاهاته خروج على نظام الحكومة التقليدي، وكانت مذكرته جادة في اجراء تغيير جذري يعيد النظر في المنهج ليعمل على تنمية ملكات الطفل وتزويده بمعارف ذات قيمة في واقعه، ومن اجل ذلك لابد من اسلوب ملائم في تدريب المعلم واعداده ليواكب التطور في المنهج الجديد. وفي ذلك المناخ نبعت فكرة ترييف التعليم من اجل التنمية ونقل الكلية الي مكان ريفي.
وقع الاختيار (في 18 اكتوبر 1934م) على بخت الرضا وهي آنذاك منطقة ريفية خلوية الي الشمال من مدينة الدويم، علي بعد ثلاثة كيلومترات. ومدينة الدويم هي عاصمة مديرية النيل الابيض سابقا، احدى مديريات الاقليم الاوسط في ما مضى، وتبعد مدينة الدويم عن الخرطوم مسافة تبلغ 200 كلم الى الجنوب، وبالقرب من المنطقة التي اختيرت لإنشاء معهد بخت الرضا في 18 اكتوبر 1934م، كانت تسكن امرأة عجوز، تسمى (بخت الرضا) وقد سمي المعهد باسمها وامتد في مساحة تبلغ حوالي 400 فدان.
ورغم ان بخت الرضا اصبحت تمثل واحدا من احياء المدينة، الا انها ما زالت في استقلالية جغرافية تامة عن المناطق المكتظة بالسكان، مما يوفر لساكنيها التزاما جماعيا برسالتهم وتعاونا تاما. كانت رسالة بخت الرضا الاساسية هي اجراء اصلاح في التعليم الاولي بأسلوب يجعله يلائم متطلبات تطور سكان الريف السوداني في اعداد وتدريب الدارسين علي طابع الحياة الريفية. وكانت مهمتها وضع تجربة وتنقيح المناهج الملائمة للمرحلة الابتدائية. وقد اتسم اداء بخت الرضا في ذلك بأن تحفظ كل شعبة محتويات المنهج وتكتب الدروس بصورة مبدئية، ثم تجري تجربة الدروس بمدرسة بخت الرضا الابتدائية، وتناقش الدروس ليتم تعديل ما يجب تعديله، وتعاد تجربتها مرة اخرى بمدارس المعهد او غيرها من المدارس، ثم يقر المنهج بصفة نهائية ويطبع الكتاب بعد ذلك، كما تتم طباعة مرشد ملازم للمدرس يوضح طريقة تدريس ذلك الكتاب. وكان ذلك العمل يأخذ عامين او اكثر، وكان منهج المرحلة الاولية بأكمله قد استغرق خمسة عشر عاما.
كانت المناهج في رضا ترعى حيوية الطفل وتقدر رغباته في حرص على كشف القدرات الخاصة وصقلها جريا وراء ان يتعود التلميذ التفكير السليم والاعتماد على النفس وقوة الملاحظة والمثابرة وحب المعرفة وتقدير وحب العمل اليدوي، وكان المنهج بذلك متكاملا نافعا جذابا،مستمدا من بيئة الطفل مراعيا امكانياته المتاحة.
وقد اخرجت بخت الرضا مرشد التعليم الاولي الذي ازدان بطريقة المشروع بعد ان نقحت واعدت لتغرس احسن الصفات في التلميذ، وتكون واسطة العقد بين كل علوم الاولية كما امدت النظار في مختلف المدارس بموضوعات خصبة مناسبة، وزودتهم بالكتب. كان لبخت الرضا اعظم الاثر في ربط المدرسة بالمجتمع، حيث احدثت تطورا هائلا في تحسين الكم والنوع للمعلم والمتعلم وعملية التعليم والتعلم في كل انحاء السودان، وربطت التعليم بالريف فأحدثت طفرة في مجال التعليم الابتدائي، وشهد لها بذلك على المستوى المحلي وعلى المستوى القومي والعالمي، فأصبحت رضا ذات شهرة طيبة في ذلك.
وكان من اقوى ما رسخته رضا، تجربة النشاط المدرسي في مجالات متعددة منها الجمعيات المدرسية، واندية صغار المزارعين، والمعارض، والمعسكرات والرحلات المدرسية، والمسرح المدرسي ، والمكتبة المدرسية ومكتبة التسليف التي كانت تشجع علي البحث بتوفير المراجع.
من الناحية الاجتماعية، قامت الكثير من الا ندية في بخت الرضا، منها نادي المعلمين ونادي الفرق التجديدية، ونادي سادسة، ونادي العمال ونادي كلية المعلمين الوسطى والذي اصبح بعد ذلك يسمى بالمركز الثقافي. ولربط التلميذ بعد تخرجه بما يفيد المجتمع، قامت بخت الرضا بمحاولة فتح مدرسة زراعية صغرى تسمى الثانوية الصغرى، لمن فاتهم حظ الدخول في المدارس الثانوية العليا ليقفوا على احسن الوسائل واساليب الزراعة حتى يطوروا عمل آبائهم في الحقول، ولكنها لم تستمر كثيرا لاهتمام الناس بالوظائف اكثر من الجانب العملي.
كما قامت بخت الرضا بإنشاء اندية للصبيان بدأتها بافتتاح نادي الصبيان بالدويم ، عام 1945م، وفي 1947م، تعددت بالقطر وقد اعد معهد بخت الرضا فرقة تدريبية لمرشدي اندية الصبيان، وكانت الفكرة يقصد منها حفظ التلميذ بعد تخرجه من الاولية في مناخ اجتماعي عملي مثمر، بعيدا عن الانحرافات الخلقية. فيتعلم بعض الصناعات ويجد مجالا للعمل المسرحي والثقافي. كما ابتدعت بخت الرضا فكرة تعليم الكبار وبدأت حلقاته للنساء والرجال1942م، وذلك لإنجاح التنمية الريفية، احدى وأهم قناعات المعهد. وقامت حلقة محو الامية بقرية ام جر 1944م، وانتقلت التجربة الى الجزيرة المروية عام 1954م، كما بدأ التعليم النسوي الذي قاده المعهد بقرية ام جر في عام 1945م، في مجال رعاية الطفولة والامومة والاقتصاد المنزلي، واخيرا انتقلت مؤسسات تعليم الكبار الى الخرطوم عام1952م، وتولاها قسم خاص واخيرا تولاها مجلس خاص بمحوالامية.
ان افتتاح نواة مكتب للنشر كان مجالا واسعا وابتكارا كبيرا في معهد التربية ببخت الرضا 1946م، وكان يقوم بنشر العديد من المجلات والكتب منها مجلة الصبيان، ومجلة ا لكبار، ومجلة بخت الرضا، وكتب حلقات محو الامية وتحرير مجلات دورية لصبية المدارس وللكبار المبتدئين في القراءة ، كما كان يختص بإنتاج الوسائل السمعية و البصرية، واصبح يقوم بطباعة مجلة بخت الرضا طباعة حديثة. كما يتم فيه انتاج كتيبات للثقافة العامة ولمحو الامية للكبار. وقد انشأ المعهد فرعا لمكتب النشر بجوبا لسد حاجة المديريات الجنوبية، حتى نقل اخيرا مكتب النشر الى الخرطوم واصبح تابعا لرئاسة الوزارة
التعليقات (0)