الطريق الى دولة مدنية يمر عبر دولة متخلفة شمولية
مدير الشركة الالمانية وأمبراطور المستشفى العراقي :
من الطبيعي أن أشعر بانبهار عالي حين أعلم ان مدير شركة نوفارتس الالمانية لصناعة الادوية قام بنفسه بربط حذاء موفدة عراقية ضمن وفد عراقي , لانها كان يتعذر عليها الأنحناء كونها ترتدي بدلة أمان ثقيلة الوزن . أشعر بأنبهار عالي لان في بلدي ثقافة مختلفة وطبيعة مجتمع مختلفة فالمدير في بلدي يرى أن هكذا فعل يقلل من قدره امام الاخرين . وأذا تهور المدير وفعل ذلك فلا بد أن تجد من يقول عنه ضعيف الشخصية .
الأنبهار بنمط الحياة الاوربية وطبيعة الفرد الاوربي فضلا عن الأنبهار بالتطور العلمي أمر طبيعي في مجتمعنا خصوصا ما يتعلق (بالبساطة لدى الشخصيات رفيعة المستوى وذات المكانة الاجتماعية العالية). وحين يكون الحديث منصبا عن (روح التعاون والالتزام بالقانون). وسبب تأثرنا بهاتين النقطتين أكثر من غيرهما هو أفتقادنا لها بشكل ملحوظ .
قبل فترة كنت في زيارة لمريض في احدى المستشفيات وكان يرقد في قسم الأنعاش . وصادف ان مدير المستشفى كان يقوم بزيارة دورية لردهات المستشفى . وما فاجأني هو أنه كان يتجول برفقة حمايته الشخصية الذي كان يرتدي البدلة العسكرية ويحمل سلاح رشاش . وحين كان يمر أمام المدير شخص غير منتبه لوجوده , كان الحماية يدفعه جانبا ليخلو الممر من أي شيء ممكن أن يعيق مرور المدير . تخيلوا المنظر (مدير تخلو تعابير وجهه من اي أنسانية يدخل الى قسم الأنعاش برفقة حماية مسلح ومدجج بالعدوانية وسوء الأخلاق ) حتى لو كان هناك أمل في شفاء مرضى الجلطة والذبحة , سينهيه هذا المنظر البشع للمدير المجرد من المهنية والحماية المجرد من الأخلاق . سالت احد العاملين في المستشفى عن سبب دخول المدير الى قسم الأنعاش برفقة حمايته فقال لي ( أنا أعمل في المستشفى منذ سنوات طويلة وهذه أول مرة أشاهد فيها مدير بهذه الدرجة من الرعونة ودخوله الى الانعاش برفقة حماية مسلح يعد سابقة لم يسبقه لها أحد)
يبدو أن أرضنا غير مؤهلة لانبات (البساطة والتواضع ) للأستهلاك البشري في الوقت الحالي على الأقل . تنبت أحيانا من تلقاء نفسها كعشبة برية ضارة سرعان ما تستأصل من رعاة هذه الارض لانها شاذة عن محاصيلهم . أذا برز مسؤول يتمتع بمقدار عالي من التفاعل الاجتماعي سيتحول الى ظاهرة وسيعاني من الاستعداء من أقرانه لأنه بالنسبة لهم عشبة ضارة تستهلك مياه محاصيلهم .
لا بد لك أن تنبهر بالتواضع والبساطة من المسؤول رفيع المستوى لأنها اخر ما تتوقعه من الراعي ولا أقصد راعي الغنم بل أقصد راعي الرعية . ان المسؤول في بلادنا يعرف جيدا ان التواضع صفة حميدة . لكن الموضوع لا يتعلق بالمعرفة بل بطريقة التفكير والطبيعة الذاتية التي تولد من رحم المجتمع . فكثير من الناس يمتدح صفة لكنه لا يتمتع بها أو يذم صفة لكنها يتصف بها . فالمسؤول لا يشعر بحاجة لتملق الشعب لأنه يستطيع البقاء في السلطة دون أن ينزل الى الشارع ودون ان يكون مثابر في عمله ودون أن يهتم بهموم الناس .
أن نمط حياة مجتمع اخر لا يمكن محاكاته بهذه السهولة فقد اخذ منهم الوصول أليه وقت طويل وجهد عالي . ومروا بمراحل عسيرة وقاتمة قبل أن يصلوا أليه . ولا يمكن ألتزام مجتمع اخر به أختياريا بهذه البساطة . نحن نتأثر بالصفات الحميدة عند الاخرين بشكل من الاشكال وتعجبنا ونحكيها لغيرنا من باب التندر والمقارنة وأن كانت مقارنة غير عادلة وليست في محلها لسبب جوهري سيتضح لاحقا . المؤكد أننا نتأثر بالصور التي تحوي مشهد مؤثر لكن مع شديد الأسف لا نستطيع بهذه البساطة تقليدها وتطبيقها على أرض الواقع . ليس لأننا من نوعية أخرى من البشر بل لسبب اخر .
أن من يمارس السلطة الان لا أعتقد انه حتى سيستانس بقصص واقعية تتحدث عن البساطة والتفاعل العالي مع الانسان العادي . من الممكن أن يكون أطلاع من سيكون مسؤول مستقبلا على هكذا أنماط أكثر تأثير وأكثر جدوى الى حد ما من أطلاع شخص يتربع على كرسي السلطة. لا يمكن أن نعلم مستوى تأثير كلمة او جملة ذات مغزى في شخص مهما كان هذا الشخص . فلا يمكن التكهن بمستوى تأثر الانسان وأتجاه هذا التأثر سلبا او أيجابا . فكثيرا ما يكون الانسان غامض وخارج حدود التوقع .
التخلف الاجتماعي والدولة الشمولية :
تقطع الشعوب وقت طويل نسبيا لتصل الى نمط حياة معين . الشعوب التي تعيش بنمط حياة ديمقراطي مثلا لم تصل أليه ألا بعد تجربة أنماط اخرى مختلفة تماما عن الديمقراطية . ويبدو ان هناك دورة حياة زمنية تأخذ أجيال لتصل بشعب ما الى نمط حياة مستقر ومريح . وكما هو واضح فان الشعوب لا تمر في نفس التجارب بالتزامن . فهناك من يبدأ من حيث انتهى الاخر لكن المعضلة أنه يمر بأغلب ما مر به الاخر من تجارب دون أن يتمكن من أختزال بعض المراحل المريرة . قد يحدث أختصار للزمن بشكل نسبي لكن لا يمكن الخلاص من المراحل التي تعدها الشعوب السباقة مراحل حزينة ومؤلمة .
لماذا تكرر الشعوب تجاربها ؟ ولماذا تعيد نفس الخطوات للوصول لنتائج معروفة مسبقا من الجميع و حصلت سابقا مع شعوب أكثر قدما ؟ أمر منطقي انك لا يمكن أن تبني الطابق العشرين قبل بناء الطابق الارضي في أي بناية . لكن لماذا أعيد بناء بناية تم بنائها قبل 300 عام بنفس الطريقة وبنفس المواد وبنفس الخطوات خطوة بخطوة وقدما بقدم وخطا بخطا ؟
جماعات سرية مسلحة طائفية . جماعات سرية مسلحة عرقية . محاولات لتأصيل الحس الطائفي العرقي . أعمال عنف منظمة طائفية عرقية . حملات رعب منظمة موجهة ضد الاخر . لا أقصد فيما سبق بلدي العراق بل أقصد الولايات المتحدة الامريكية في القرن التاسع عشر .
بعد أنتهاء الحرب الاهلية ظهرت مجموعة من المنظمات السرية التي تهدف الى اهداف مختلفة منها منظمات تدعو الى مواجهة المد الكاثوليكي القادم من أوربا مثل (جمعية حماية أمريكا )التي تنادي بالوقوف بوجه الهجرة المتزايدة من الكاثوليك القادمين من النمسا وايطاليا والمانيا وقاموا ببث الاشاعات لتهييج الناس ضد الكاثوليك ومنها : ( ان البابا يطالب بحرق كل منزل ليس كاثوليكي ) لتخويف المجتمع من الكاثوليك الذين يتبعون البابا . وبذلك تكون عمليات العنف ضدهم مبررة وما هي الأ دفاع عن الوجود .
وظهرت أيضا (جمعية كوكلوكس) التي تدعو الى مواجهة كل ما هو ليس (بروتستانتي وأبيض) أي أنها عنصرية مزدوجة طائفية عرقية فضلا عن دعواتها الى مواجهة البيض البروتستانت المتعاطفين مع السود وتعرف الجماعة باسم (k.k.k) ولهم طقوس معينة ويقومون بنشاطاتهم ليلا وبملابس بيضاء ويركبون الجياد ويغطون وجوههم بقماش أبيض وكانوا يهددون السود بتخويفهم من خلال وضع جماجم بشرية في بيوتهم وكانوا يبثون أشاعات وحجج لكسب الرأي العام كبثهم لفكرة (أن نساء البيض مهددات من قبل السود) ليكون هجومهم في نظر العامة كدفاع عن النفس .
لماذا يكرر الأنسان نفس التجربة (مع أختلاف التفاصيل والتسميات) وبنفس الخطوات ؟ ولماذا يصر على المرور بنفس المراحل مع علمه المسبق من خلال الاطلاع على تجارب الاخرين ان هناك خطوات كثيرة لم تكن في محلها ولم تكن مهمة وليست ألا هدر للأرواح وللجهود وللوقت .
يبدو ان الأطلاع على تجارب الاخرين وحده غير كافي ويبدو أن ما نراه خطوات سلبية وغير مفيدة هي من صلب الطبيعة البشرية الميالة للأنحياز والعدوانية والتطرف لجهة ما حتى لو كانت نادي كرة قدم .
ما حصل في أمريكا قبل قرنين من الزمن تكرر بشكل من الاشكال في أماكن أخرى (مع أختلاف المسميات والتفاصيل)وما حدث في أوربا في القرون الوسطى من الجرأة على تقمص شخصية الله وسلب ارادة الانسان وحياته بأسمه يحدث الان بمسميات اخرى .
أحداث وتيارات فكرية وحركات أجتماعية تتكرر دائما وأبدا بمجمل فكرتها وبتفاصيلها الدقيقة أحيانا . وقد يصل التشابه أحيانا الى درجة يصعب فيه أن يصدق , فتجربة تنظيم القاعدة مثلا الذي ولد في نهاية القرن العشرين تشترك مع تجربة ال (k.k.k) التي ولدت في القرن التاسع عشر في فكرة عميقة وجوهرية وأساسية وهي ألغاء الاخر وتحقيره وتقديس الذات ورفعها الى درجات عليا . قد تكون المقارنة غير عادلة وليست في محلها لو دخلنا في التفاصيل لكن مجمل الفكرة واحدة في التجربتين . وهي الغاء الاخر وتحقيره .
هل كان من الضروري ان تمر ألمانيا بهتلر وبالحزب النازي وهل كان من الضروري ان يجتاحها الجيش الامريكي لتصل بعد عقود من الزمن الى ما هي عليه الان ؟ وهل مرور العراق بصدام وتجربة حزب البعث ومروره بأجتياح أمريكي يعني أنه سيصل بعد عقود الى ما وصلت اليه ألمانيا ؟ لا يوجد من يملك جواب مهما كان مسلحا بكم هائل من المعلومات ومهما كان مسلح بمقدار عالي من الذكاء .
هناك تشابه ملحوظ في بعض الاحداث التي تشكل المفردات الرئيسية بين اللوحة العراقية 2003 واللوحة الألمانية 1945 لكن الفروق شاسعة من حيث أجمالي اللوحة . لكن هذه الفروق الشاسعة لا تنفي أن نقاط التشابه مثيرة للانتباه . (نظام شمولي يحكمه الفرد الواحد والحزب الواحد يدخل في صراعات مسلحة مع قوى عظمى تؤدي هذه الصراعات الى سقوط النظام وأجتياح البلد من قوى أجنبية) .
يقول الكاتب (العفيف الاخضر) : واقعة الدولة السلطوية ، على اختلاف درجاتها،تكررت بانتظام في عديد البلدان والقارات.مما يجعل منها قانوناً تاريخياً لا ينفع معه المدح أو الهجاء.المقاربة المعقولة الوحيدة هي محاولة فهم هذا القانون للتحكم به إلى حد ما.إذن،الادعاء بأن الدولة السلطوية "لا ضرورة لها ولا حكمة فيها"لا يخبرنا عن الظاهرة بقدر ما يخبرنا عن ذهنية القائل السحرية ومدى جهله بالتاريخ. الديمقراطية كانت دائماً ضرورية ولكنها لم تكن دائماً ممكنة.فرضها قبل توفر شروطها كان سيكون كارثة عليها هي نفسه . (1)
أطلاع مجتمع يطمح الى الديمقراطية على مراحل تحول مجتمع اخر سبقه أليها لا يمكن ان يلغي حقيقة مروره بنفس المراحل المريرة . تماما كفلم من أفلام هوليوود التي تتحدث عن معرفة المستقبل مسبقا وكيف يحاول البطل جاهدا تغيير مجريات الاحداث الى مسار اخر لكن دون جدوى مهما فعل يصل الى نتيجة واحدة .
لا فرق تكويني :
حين نحاول محاكاة الديمقراطية الاوربية فنحن في الواقع نحاكي المستقبل الغير ملموس بالنسبة لنا كمنظومة مجتمعية متكاملة . نعم من الممكن أن نعيش حاضرهم كأفراد ننسلخ من مجتمعنا لنعيش في مجتمعهم بشكل كامل . فلا يوجد أي أختلاف تكويني بين الانسان العربي الشرقي والانسان الغربي . ولو وجد أختلاف في بعض المواصفات الشكلية فهو ليس أختلاف ذو قيمة تذكر وليس ذو علاقة مباشرة بسلوك المجتمع .
فلو أخذنا طفل عراقي عمره يوم واحد من أحدى المدن النائية الغير متمدنة وأستبدلناه بطفل هولندي من مدينة أمستردام وقامت كل عائلة بتبني طفل العائلة الاخرى سنجد بعد 20 عام ان الطفل العراقي قد اكتسب كل ثقافة المجتمع الهولندي ولم يبقى من عراقيته ألا ملامح شكله والعكس صحيح أيضا فالطفل الهولندي سيكتسب كل صفات البيئة التي نشا بها . المجتمع والبيئة هي الفيصل وما يثبت كلامي هو أبناء العوائل العراقية المغتربة الذين ولدوا في أوربا وأكتسب ابنائهم كل ثقافة البلد الذي يقيمون فيه (مع بعض الثقافة العراقية المكتسبة من البيئة الداخلية – العائلة - ).
يقول علي الوردي :
البقال في نيويورك مثلا لا يمتاز في تركيب عقليته عن البقال في بغداد أو قرة تبة أو تلكيف . أن الفرق بينهما ان وجد هو أن أحدهما يستخدم في عمله مخترعات والالات دقيقة ليس له يد في أبتداعها بينما الاخر لا يستخدم شيء من ذلك ألا نادرا فالفرق أذن حضاري لا فردي وكل منهما صنيعة الحضارة التي يعيش فيها . (2)
حين تجد المسؤول الاوربي يلتزم بالقانون ويراعي مطالب شعبه ويحترمها فليس لانه مختلف نوعيا عن المسؤول العربي . فأسلافه في القرون الماضية كانوا اكثر سوء من مسؤولينا الان . لكن ما يجعله يلتزم بالقانون ويحترم رغبة الجمهور هو الرأي العام الواعي والشعور بوجود رقيب .
يقول الوردي :
يحكى ان زوجة وزير للمالية في احدى بلاد الله الراقية أحتاجت الى شيء من العملة النادرة أذ كانت مريضة وتريد ان تسافر الى منطقة من مناطق العملات النادرة وخشي زوجها ان يوقع على ورقة المبلغ الذي تحتاج أليه وذهبت الزوجة الى حيث وقفت مع سائر الناس تنتظر دورها أمام شباك المصرف المختص فلعلها تحظى منه بشيء يكفيها . أن هذا الوزير لا يختلف عن هارون الرشيد من حيث طبيعته البشرية . كلاهما يدعي انه يخشى من الله ويطلب الحق والحقيقة . سبب الفرق أن الرشيد كان يفعل ما يشاء فلا يحاسبه أو يعارضه أحد . أما صاحبنا الوزير فهو يابى أن يوقع على ورقة بسيطة من أجل زوجته المريضة لأنه يخشى أن يسمع بذلك الرأي العام فينتهز حزب المعارضة الفرصة ويعلنها عليه دعاية فاضحة لا تبقي ولا تذر . (3)
العادات الاجتماعية الحسنة :
أن العادات الاجتماعية الغربية التي نجدها مثيرة للدهشة مثل عدم رمي الاوساخ في الشارع أو الالتزام بالقانون والنظام بشكل طوعي وبرغبة شخصية لم تاتي بيوم وليلة . وهي نتاج جهد سنوات طويلة من العناء أحتاجت منهم أجيال .
نموذج من الواقع :
لنفترض ان الدولة في العراق فرضت قانون دفع غرامة مالية وسجن لمدة ثلاث أيام على كل من يرمي الاوساخ في الشارع . ووفرت كمية كافية من سلات المهملات كي لا يتذرع من يرمي الاوساخ بعدم وجود مكان مخصص . وتشددت في تطبيق هذا القانون الى أعلى الدرجات . وتم تطبيقه بشكل فعلي . وذاق من يرمي الاوساخ طعم دفع مبلغ 50 دولار غرامة وذاق طعم السجن 3 ايام . لم ولن يفكر مرة أخرى في رمي الاوساخ . طالما ان القانون مطبق بشكل دائم .وبقوة وكلما فكر في رمي الاوساخ في الشارع سيتذكر الألم الذي عاناه من فقدان حريته وفقدان أمواله .
أول شيء سيعلمه لأبنه هو أن رمي الأوساخ أمر معيب وفيه عواقب وخيمة لأنه أنكوى بنار العقوبة . أما أبنه فانه لن يكون كوالده فالحال عنده مختلف فهو تربى على أن رمي الاوساخ أمر معيب يعاقب عليه القانون . ولن يمتنع لأنه شعر بالم الحبس أو الغرامة . بل لأنه تثقف على هذه الثقافة ونشا عليها . ماذا عن أبن الابن ؟ ابن الابن سيكون أكثر ألتزام وأكثر طواعية في تطبيق هذا القانون لأنه وجده عادة أجتماعية دارجة ووجد ان من يرمي الأوساخ في الشارع منبوذ من البقية ويعتبر غير متحضر . وهكذا تتحول النظافة في الشارع الى عادة أجتماعية . بأختصار قوة القانون والانكواء بنار العقوبة المادية والمعنوية هو من يشيع ثقافة معينة ويجعلها دارجة بين أبناء المجتمع كالنار بالهشيم وليس الكلام المثالي .
لا يوجد مجتمع متحضر بطبيعته ولا يوجد مجتمع متخلف بطبيعته . مستوى التخلف ومستوى التحضر يعتمد على معطيات الواقع . فالأوربيين كانوا يوما ما فوضويين وأنتجوا سلطة دموية تقمع الرأي الاخر وتحرق صاحبه بالنار بكل أريحية .
يقول سليم مطر :
أخيرا في أوربا سقطت تفاحة نيوتن على رأسي , واكتشفت الحقيقة : أن الاوربيين لا تدور حولهم الشمس , بل هم بشر مثلنا يدورون حول الشمس بكل طيبة تواضع . لا هم ملائكة كما يصورهم علمانيونا ولا هم شياطين كما يتوهمهم متدينونا . الفرق الوحيد بيننا وبينهم يكمن في مشيئة التاريخ والجغرافية , التي منحتهم منذ قرون فرص بناء ذاتهم وخلق عناصر قوى مادية ومعنوية تضخ فيهم الاحساس بالتفوق والهيمنة على العالم (المتخلف) هذا التفوق هو الذي يجعل الاوربيين يصمدون أكثر أمام أسباب الأنمساخ والتمزق , ويحافظون على نوع من الاستقرار الأجتماعي السياسي . اما نحن فلاننا دائما وراء أوربا . فأننا بحاجة الى أجيال وحروب وخيبات لكي ندرك ان الغرب بدا ينتبه لمغالاته في عبادة العلم والتقنيات وأحتقار التقاليد الروحية والمواريث الانسانية . (4)
شعب غير ناضج ينتج مؤسسات غير ناضجة :
الحقيقة اننا قياسا بأوربا وامريكا لسنا فقط في مكان مختلف بل في زمان مختلف ايضا . فلا يغرنكم أن العالم كله يعيش في عام 2011 فهذا التاريخ لا يعني أننا في نفس الزمن . والمقارنة بيننا ليست منصفة .
حين نقارن بيننا وبينهم في أي مجال وكأننا نقارن بين طعم صحن من الرز رفع من القدر قبل أن ينضج بصحن من الرز نضج وأكتمل وجهز للأكل . شعب غير ناضج , أنتج حكومة غير ناضجة وهذه نتيجة طبيعية .
وكوننا شعب غير ناضج لا يعني أننا أغبياء أو أدنى من مستوى البشر . فنحن نمر بمرحلة سبقنا غيرنا أليها وعبروا ألى مراحل أكثر تقدم منها . كما يمر الأنسان بمراحل عمرية . كل ما هنالك أننا في بداية الطريق وهم سبقونا على هذا الطريق . وقد تحدث متغيرات لا يتوقعها أحد ولا تخطر على بال أنسان . وهل هناك شيء أكثر غرابة من مسار الحياة وتقلباتها الغامضة والغير متوقعة ؟
يبدو أن حدوث الثورات العربية والحراك الجماهيري الواسع دليل على أنطلاقنا الى الخطوة التالية . وتنتظرنا خطوات كثيرة تحتاج الى مزيد من التجارب ومزيد من الصبر ومزيد من التضحية ومزيد من الوقت. ويبدو أن الطريق الى دولة مدنية حديثة لا يمكن الوصول اليه الا مرورا بدولة متخلفة وشمولية . أنها سنن الكون وأقداره . انها دورة الحياة .
يقول الجواهري :
نحن الذين أعرنا الكون بهجته لكنه الدهر أقبالا وأدبار
قد نسمع شاعر أمريكي في عقود قادمة يردد نفس المضمون باكيا على اطلال ماضيه التليد . من يدري؟ كل شيء جائز .
المصادر :
انظر -ي : أحمد سويلم العمري - التفرقة العنصرية - صفحة 85 وما بعدها
1- العفيف الأخضر - الحوار المتمدن – هل الدولة السلطوية ضرورة تاريخية - العدد 3312- 21-3-2011
2- علي الوردي – خوارق اللاشعور – صفحة 74
3- علي الوردي – مهزلة العقل البشري – صفحة 77
4- سليم مطر – الذات الجريحة – صفحة 14
التعليقات (0)