كثيرون هم الذين يعرفون تايلاند كدولة سياحية ذات طبيعة خلابة وكثيرون هم الذين يترددون على هذه البقعة الساحرة من الأرض لقضاء إجازاتهم المتنوعة السياحية منها والطبية والاقتصادية إضافة إلى الترفيهية المختلفة ، إلا أن القليل فقط هم الذين يعلمون شيئا من تاريخ تلك المملكة الممتد إلى عصور مضت وعن علاقة هذه الدولة بباقي البلدان وتحديدا العربية الإسلامية ، فعلى الرغم من أن العرب اعتادوا قضاء إجازاتهم في ربوعها إلا أنهم يجهلون تاريخها وحضارتها وطبيعة التناسق السكاني والتمازج الروحي القائم بين أهلها منذ قديم الزمن ، ونستطيع القول أن بعض وسائل الإعلام العربية أساءت إلى تايلاند قديما عندما تناولت قضية إقليم الجنوب "فطاني "وتطورت الأحداث فيه ، وصورت الأمر على أنه حربا ضروسا بين المسلمين والبوذيين لتحشد رأي عام إسلامي موجه ضد السياسة الداخلية بينما يستطيع أي زائر أو مراقب للأحداث أن يرى نقيض ذلك تماما فمسألة الجنوب تكاد تنحصر في مسرب اقتصادي أو مسربين ولا علاقة للدين بهما لأن مطالب الجماعات الانفصالية هي اقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى وليست دينية فالمسلمون في الجنوب يشكلون 80% من السكان ولهم مالهم وعليهم ما عليهم من حقوق وواجبات وحريات دينية لم يمسها أحد ، فلم نسمع أن المساجد أغلقت ولا الصلاة منعت ولم نعلم نحن ولا غيرنا أن الحكومة التايلندية على اختلاف مسؤوليها قد منعوا مساعدة أو معونة أو ما شابه بل على العكس تماما هناك عشرات المدارس الإسلامية والجامعات والمعاهد الدينية والهيئات والمنظمات الإغاثية الإسلامية منها والإنسانية ، كما أن العديد من ممثلي تلك المنظمات من عرب ومسلمين يتجولون بكل حرية في الزمان والمكان الذي يريدون ولا يعترضهم أحد وليس هناك أي مبرر للترويج بأن المشكلة في جنوب تايلاند هي مشكلة إسلامية بوذية لأن الكل يعرف عكس ذلك وتطورات الأحداث مع مرور الوقت وتقلب الزمان كان شاهدا على ذلك ، وهنا انصح إخواني من الإعلاميين بنقل الصورة الحقيقية عن الأوضاع في تايلاند وخاصة إقليم الجنوب لأن الجماعات التي تنتهج العنف في الجنوب عديدة وليست واحدة والمسألة لها جذور و تدخلات خارجية حسب بعض التقارير الإعلامية العالمية.
التايلنديون قسمان : ملايو وسيام ويتركز الملايو في جنوب البلاد ومعظمهم من المسلمين وهم بطبيعة الحال ينتمون لشعوب الملايو إقليميا "ماليزيا وإندونيسيا "ومن حولهما وأما الوسط والشمال فالأغلبية من السيام وهم بوذيون ومسلمون ومسيحيون وللمسلمين في تايلاند حظوة عند البلاط الملكي ومحبوبون بحكم التعايش والمواطنة وبحكم التاريخ فالمعروف أن الملك الخامس قد استنجد بالمسلمين أثناء الغزو البورمي لتايلاند فاستجاب سلطان المسلمين آنذاك وأرسل له عشرة آلاف مقاتل ساندوه وقاتلوا معه حتى استرد حقه ومن وقتها لقي المسلمون معاملة طيبة وتعايشوا مع البوذيين في أمن وسلام وحتى هذا الوقت لم تشهد مناطق الوسط والشمال والشرق أي توترات أو مشاكل ذات طابع طائفي أو ديني ، ويكفي أن نعرف أن عدد المساجد في بانكوك وحدها يبلغ 175 مسجدا رسميا عدا المصليات والمساجد الغير مرخصة والتي لا تمسها الدولة إضافة إلى أن القوانين التايلندية لا تسمح أبدا بالتطاول على الأديان وكل من يشتم دينا أو رسولا معرض لعقوبة السجن التي قد تصل إلى عامين كما أن المسلمين في تايلاند ممثلون في البرلمان والوزارات والحكومات المتعاقبة إضافة إلى وصولهم إلى أعلى المناصب في الدولة والجيش ويمثل المسلمين رسميا شيخ الإسلام وهو بمثابة المفتي العام لدى الدولة العربية والإسلامية وله مساعدين وأعوان وأبوابه مفتوحة أمام الجميع علما أن أئمة المساجد في تايلاند يتقاضون راتبا شهريا من الدولة ولهم مجلس ومركز إسلامي دعوي وتحاول الحكومة التايلندية باستمرار رعاية شؤونهم والسماع لمطالبهم وتلبية كل احتياجاتهم وهذا ما حدا بالعديد من الدول العربية والإسلامية إلى مراجعة مواقفها تجاه ما يحدث في الجنوب فالتقارير المغرضة التي تدعي أن المواجهة دينية لا أساس لها من الصحة وقضية الجنوب متداخلة كتداخل الجماعات المتقاتلة هناك حتى أن المراقبين والمهتمين بالشؤون التايلندية لا يعرفون حتى الآن ما هي مطالب تلك الجماعات فحسب الإحصائيات الرسمية وتقارير المنظمات الدولية فإن حكومة تايلاند أعطت الأولوية في التنمية لأقاليم الجنوب الثلاثة من بنى تحتية وشق طرقات ومستشفيات ومدارس ومعاهد وجامعات ومساعدات تنموية ومشاريع خيرية وغيرها .ويمكننا القول أن التايلنديين متفقون فيما بينهم ومتجانسون ومتحابون ومتآلفون ومتآخون ومتراصون وإن مايحدث في جنوب البلاد لم يؤثر في تلك العلاقة الطيبة فيما بينهم وقد أكد لي أكثر من مسؤول في تا يلند أنهم لن يسمحوا لأي عميل أو مريض كائنا من كان أن يشق صفهم أويزعزع ثقتهم بأنفسهم ، ومن المؤكد حسب رؤيتنا بأنهم شعوب مفطورة على المحبة ومتعودة على الهدوء ومحبة للأمن والسلام حتى في عمق خلافاتهم السياسية فالتصحيح الذي قادة الجنرال سونتي رئيس الأركان السابق وبالمناسبة هو من "مسلمي تايلاند" كان بمباركة من الملك إذ أن الجميع في تايلند حكومة وشعبا مسؤولين ورعايا يخضعون لسلطة الملك المطلقة والمقدسة وهو محبوب جدا عند كافة فئات الشعب واختلاف أجناسهم وأطيافهم وتم بهدوء تنصيب رئيس الوزراء الجديد وقتها "سورايوت جولانون" بينما خرج تكسين جينوات رئيس الوزراء السابق خارج تايلند دون إراقة دماء أو توترات أو مشاكل أو ماشابه كما يحدث عند البعض في تلك الحالة ولابد من القول أنه عند العمل الرسمي والحكومي لايتم الحديث عن مسلم وبوذي أومسيحي فالكل يعمل من أجل تايلند والكل في خدمة الوطن والملك وهذا هو سر هدوء تايلاند وشعبها ، ولنعد الآن إلى عنوان المقال . . في وسط بانكوك يقع شارع " سكومفيت3 "وهو المعروف باسم شارع العرب لكثرة تواجد العرب فيه حتى تكاد تظن نفسك في أحد الشوارع العربية فعلا فالمطاعم والفنادق واللوحات والأغاني وبائعي الشاورما واللباس التقليدي العربي بوجه عام والخليجي على وجه الخصوص والعطورات العربية من العود والعنبر والتجار على اختلاف درجاتهم كل هذا انحصر في شارع العرب إضافة إلى البارات والملاهي والليالي الحمراء لأن العرب في تايلاند واحد من ثلاثة إما سائح علاج وهم كثر لشهرة تايلاند بالعلاج والمستشفيات والأطباء المميزين أو تاجر عطورات وأقمشة وألبسة وذلك للجودة والرخص أو سائح متعة وهم قلة وهنا لابد أن نذكر أن القوانين الرسمية تمنع الدعارة في تايلاند وكل ما يحدث يكون تحت ستار أسماء أخرى ويخطئ من يدعي أن دخل تايلاند الأساسي من تجارة الدعارة ويكفي أن تعلم أن ثلثي السواح العرب هم من زوار المستشفيات ويتوزع الثلث الباقي ما بين تجارة ومتعة وسياحة نظيفة إلا أن مظاهر الفتيات والنوادي الليلية في شارع العرب هي التي جعلت البعض يطلق على الشارع اسم " شارع جهنم "حتى عرف بهذا الاسم على الرغم من أن كلمة بانكوك في اللغة التايلندية تعني مدينة الملائكة ، ولا شك أن العرب مخطئون في نظرتهم الأولية لتايلاند حيث أنهم يستحضرون اللهوواللعب والدعارة وغير ذلك بمجرد ذكر تايلاند وإذا اخذ الحديث مجرى الدين والحريات العقيدية يستذكون أقاليم الجنوب المضطربة وبهذا فان تايلاند ظلمت عند العرب ولا تزال تظلم مرتين مرة في تصنيفها كدولة تشجع الدعارة والانحراف وتارة في اتهامها بقمع الحريات الدينية استناداً غلى أحداث الجنوب والذي يطلق الحكام على تايلاند من شارع جهنم أو كما يقولون "نانا" هو كمن يحكم على تلال التفاح من حبة واحدة معطوبة فتايلاند اكبر من بانكوك بكثير والأخيرة اكبر من شارع نانا بمئات المرات وأما إقليم الجنوب المعروف باسم فطاني فله حكاية أخرى وسنذكرها لاحقا ولكننا يجب أن نشير هنا إلى الانقلاب الذي قاده الجنرال سونتي قبل حوالي سنتين كان له اثر بالغ في حياة تايلاند وهذا لان رئيس الوزراء الجديد سورايوت قد بادر إلى تصحيح الأوضاع الخاطئة التي كانت سائدة في عهد تكسين وهو ما طلبه جلالة الملك من رئيس وزراءه الجديد بشكل واضح فوضع عملية تصويب الأوضاع والعلاقات التايلندية – العربية والإسلامية في سلم اولوياته ، وفي زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية أثناء تأدية فريضة الحج أكد رئيس الأركان الجنرال سونتي لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أن تايلاند ستفتح صفحات جديدة بيضاء مع أشقاءها وإخوانها من باقي الدول الصديقة والشقيقة وان أوامر الملك تقضي دائما بإعطاء الأولوية للعلاقات الطيبة والأخوية بين تايلاند وجميع دول العالم وتدعو للحوار والتفاهم والتنمية الداخلية وما شابه وهذا ما جعل المراقبين والمهتمين بالشؤون التايلندية يؤكدون أن عهداً جديداً مميزا قد بدأ في تايلاند وبأوامر مباشرة وصريحة من جلالة الملك. والمعروف كما ذكرنا أن التايلنديون منقسمون إلى عرقين ملايو وسيام ومنهم المسلمون بطبيعة الحال ويمكننا القول أن الانتماء العرقي لدى المسلمين اكبر من الانتماء الديني إذ أننا نجد أن السيام تعايشوا بسلام مع البوذيين في مناطق الشمال والوسط والشرق بينما فشلت الدولة في تهدئة الأوضاع في إقليم فطاني والذي ينتمي كليا إلى العرق - الملايو- والمسلمون في غير فطاني لا يؤيدون أعمال العنف في الجنوب ولا مطالب الجماعات الإسلامية المتنوعة. بل ويشكون من أن المساعدات الإسلامية والعربية لمسلمي تايلاند غالباً ما تذهب إلى الجنوب وان العالم الإسلامي يتناسى أن هناك مسلمين في باقي أنحاء تايلاند بحاجة إلى مساعدة. ونستطيع القول أن أكثر من 80% من مساعدات الدول الإسلامية والعربية والجمعيات والمنظمات الاغاثية والإنسانية والإسلامية على اختلافها وتنوعها تخدم مسلمي جنوب تايلاند انطلاقا من ماليزيا المجاورة وان الدول الإسلامية عموما والعربية على وجه الخصوص وقعت تحت تأثير الدعاية الفطانية في الخارج والتي يقودها عناصر معارضة تنشط في عدد من الدول الإسلامية منها ماليزيا ولكن الأوضاع الحالية مع التصحيح الأخير الذي قاده رئيس الأركان أخذت تتغير نحو الأفضل إذ أن مبعوثين كثر من الجمعيات والمنظمات العالمية زاروا تايلاند وأقاموا فترات فيها واعدوا تقارير مغايرة تماما عما كانت عليه الأحوال سابقا ، يقول بعض المهتمين أن مسلمي تايلاند من مناطق الوسط والعاصمة والشمال الشرقي هم أحوج بكثير للمساعدة من إقليم الجنوب وهم أجدر وأحق بها خاصة وأنهم مسالمون ويعملون بصمت ولا تصلهم أي مساعدات إنسانية أو إسلامية هم بحاجة إليها ويرى آخرون أن المساعدات يجب أن تذهب إلى المناطق التي تعاني من النقص والحرمان وسوء الأحوال الاجتماعية والأمنية وغيرها وهذا ينطبق على مناطق محددة في الجنوب وليس كل الجنوب ، أنا شخصيا زرت الجنوب والتقيت عددا كبيرا من المسئولين في فطاني ويالا وغيرها واطلعت على عدد كبير من المشاريع التي تمولها بعض الدول العربية والإسلامية كما أن المنظمات الاغاثية لها دور فعال في المنطقة ومكاتب متنوعة ومنتشرة في محافظات الجنوب الرئيسية الثلاث بينما شاهدت أثناء سفري براً إلى لاوس أن مخيمات اللاجئين المسلمين تخلو من ابسط مقومات الحياة وكذلك الحال بالنسبة لمنطقة الحدود مع بورما والتي يعاني المسلمون فيها من الحرمان واقصد مسلمي بورما الذين هربوا إلى حدود تايلاند وأقاموا في مناطق الحدود وهم بالمئات وهم منسيون تماما سواء من قبل المؤسسات الاغاثية العالمية أو الإسلامية وليس لهم نصيب أبدا من أي مساعدات خارجية. ولا بد من الإشارة إلى أن تايلاند تسعى في عهدها الجديد الذي بدأ بعد حركة التصحيح الذي قادها الجنرال سونتي وباركها الملك وقتها إلى فتح صفحات جديدة في علاقاتها العربية والإسلامية وهذا ما أكده الجنرال خلال زيارته للملكة العربية السعودية وأداءه فريضة الحج وهذا ما أكده لي أيضا عدد من الوزراء والمسئولين الذين التقيتهم في بانكوك ، وأستطيع القول أن تايلاند تضع الآن قدمها على طريق جديدة تمهد لها علاقات قوية مع الدول العربية فقد سمعت أن الحكومة التايلندية ترحب بعلاقات دبلوماسية مميزة مع بعض الدول العربية التي لم تكن لها ممثليات دبلوماسية سابقا مثل الأردن وسورية وليبيا وأنها ترحب وتقدم التسهيلات لتكون الدولة الأولى سياحيا وطبيا لمواطني الدول العربية والإسلامية فأعطت وأطلقت الحريات الدينية وسمحت بالمدارس الإسلامية التي تدرس اللغة العربية بل وشجعتها وقدمت لها الدعم ، فعلى سبيل المثال يقوم المركز الإسلامي في بانكوك بتقديم الدعم والمساعدة لكل الراغبين في دراسة اللغة العربية وكذلك تقديم المنح الدراسية في الدول العربية لأبناء تايلاند، كما تقوم مدرسة دار العلوم الإسلامية في ولاية سأشنج ساو وهي قريبة من بانكوك بتخريج عشرات الطلبة سنويا والذين يدرسون الدين الإسلامي واللغة العربية منذ الصف الأول وعلى نفس المنهج تقوم مدرسة أنصار السنة في بانكوك ومعهد الدراسات الإسلامية في بأيوتيا العاصمة القديمة بجهد مبارك حول تدريس اللغة العربية والدين الإسلامي علما أن هذه المدارس والمعاهد لا تتلقى أي دعم أو مساعدة خارجية وإنما بجهد محلي خاص ومباركة من الدولة ولهذا فان ما يتمتع به المسلمون في تايلاند من حرية وهامش عمل يفوق ما يتمتع به المسلمون في كثير من الدول المجاورة .
د. رشيد بن محمد الطوخي
التعليقات (0)