باقة ورد للزنود السمرا
عمر عبدالرحمن نمر
العلاقات العامة/ تربية قباطية.
عرق العامل رأس ماله... عرق العامل عنوان جده ... عنوان زمانه ومكانه.. وكل ممارساته في الزمان والمكان.. عرق العامل صديقه، يهطل عند الصبح... إذا تنفس، وعند زقزقة الطيور في أوكارها الصباحية... ويهطل في الضحى، وهو يحول طاقته إلى إنتاج، أو صيانة، أو تغيير حال بآخر، ويهطل وهو مكب على عمله، إذا انتصف النهار، وانتعل كل شيء ظله... عندها يرفض عرقاً كأنه الجمان... وربما تمرد مجرى العرق على السيلان، فيبقى صامداً متحجراً... على الجبين العالي... يرسم تجارب الزمن على خدود يابسة... عرق العامل – أعزائي- إثبات ولاء، ووثيقة عطاء، وشهادة انتماء... من الذات... لمحيطها...
معطاء... ينسى نفسه، وهو يضرب حجراً صلداً بفأس... فيرتد الشرر ضاحكاً من ضرباته، فيعيد الكرة، ويثبت للوجود... أن القدرة تصوغ المعجزة... وينشر خشبة استعصت على النشر... ويقهر إصراره عنادها، ويحصد القش في ظهيرة يوم صيفي قائظ، والبرغش يهاجم أذنيه من كل حدب وصوب... وسنابل القمح الذهبية تتمايل أمام منجله، وتطرب وهو يغني لصديقه المنجل:
منجلي يا منجلاه راح للصايغ جلاه
ما جلاه إلا بعلبة يا ريت العلبة هناه...
إنه هو... الذي لا ينظِّر لإنتاج فحسب... بل يفعل كل الإمكانات من أجل خلق واقع جديد... إنه هو، ولكم أن تتخيلوه في حالاته.. واحد في تجليات كثيرة... إن عمل أكل، وإن ضاقت به السبل، قلب الجميع له ظهر المجن، وحرمه صاحب الدكان من حقه لتسجيل اسمه في دفتر الديون، إنه من شمر عن ساعديه، وصارع السبع، واستل اللقمة من فمه، ليطعمها لأفراخ في بيته زغب الحواصل، ثم لم ينس ليلاً أن يردد لحن موال شجي... لمسمار فولاذي... داعب قدمه... فعشقته، وأدماها... ونام في انتظار رزقة أخرى في الصباح...
العامل الفلسطيني... في ظلمة الليل... وفي كل ليلة... يحمل زوادة في يد... وفي الأخرى راية عز للوطن... ويسافر بروحه يبحث عن رزق حلال يتكسب منه... ولسانه لا يتوقف عن الدعاء الملائكي...
مسكين... العامل الفلسطيني... ما زال يسافر كما سافر الرجال الرجال في الشمس... حين استقلوا الخزان، أو جبالة الباطون، أو براد خضار... يقطع الحدود مهرباً... يحمل كفنه على عاتقيه... يعمل مهرباً... خائفاً... مترقباً كلاب جلاوزة الطغيان، التي تستهدف حياته... وحرمانه... وحياة أبنائه...
ينام في السهول البعيدة المشققة ، يضلل الكلاب فتنهشه الأفاعي، وينام كما العصافير فوق الأشجار... ويحلم كما العنقاء... بين القبور... ليتأمل النص والبطولة... ويجيب عن سؤال واحد: أريد أن يحيا أبنائي... يخاف أن يدق الخزان... حتى لا تسمعه... الكلاب النابحة الجامحة... والتي لا تشتم إلا رائحة عرق العامل الفلسطيني... ولا تلتذ إلا بنهش لحمه النيء...
أتذكره مرة... دلفت إلى بيته... وجدته يبكي بحرقة... والوجوم يسود تفاصيل الحياة... وابنته طريحة الفراش... تعاني من زنار نار... يطوق جسداً غضاً طرياً... أشار إليها... وقد رافق العرق دمعاً... وقلب كفيه وخاطبني: لماذا؟... حينها شعرت بكل الأشياء تصغر من أمامي... وتصغر... حتى الأفق أضحى أسود...
في عيد العمال... العيد بملايين الأعياد... العيد... بعدد حبات العرق... كل الدنيا أعياد... يا فارس الدنيا... فالحجارة التي زينتها تبتسم لك... وأوراق الأشجار اليانعة التي شذبتها تعدك بالورود العبقة، والشاكوش اللامع في الشمس يدغدغ مشاعرك... وأسمى معانيك... ويرسم خريطة مجد... ورسالة... كل الحروف تبتهج سيدي، وهي تكتب عنك، وتصف أحلامك، وطموحاتك البسيطة الحلوة...
عذراَ... سيدي... إنه عيدك... سرقوه منك... فأنت مغبون... كل الناس تعيد في عيدك... وتبتهج في يومك... إلا أنت سيدي... فأنت منكب في ورشتك... وكأن الأمر لا يعنيك... مفارقة عجيبة والله...
هل يعقل أن لا نكرم العامل في الأول من أيار... نشد على يده... ونغني معه، ونشاطره حكاياته...ونساعده في شحذ فأسه؟.. إنه شغالة نحل مجدة، تطير من عمل لآخر... ومن ورشة لأخرى، تجمع الرحيق لنا جميعاً... ولا تأخذ منه إلا الفتات...
لقد عانى... دفع صحته وشبابه في سبيل أسرته الصغرى... ودفع عمره وحياته في سبيل بناء وطن كبير... هطلت دماؤه... كما هطل عرقه... لم يبخل بروحه... استشهد... كما هم الأبطال... استشهد وهو يسعى... ويمشي في مناكبها... حاملاً الراية...
سادتي... العامل يحتاج لدعم وإسناد؛ أعطوه أجره قبل أن يجف عرقه، ولا تمطلوه، ولا تبخسوه حقه، أعينوه على تعليم أبنائه، وتربيتهم... وفروا له تأميناً صحياً... وجمعية حقيقية ترعى مصالحه؛ ليتمكن من تطوير ذاته مهنياً... أهلوه في دورات عملية تدور في محور عمله، لتتعزز ذاته، ويدرك قيمة ما يقوم به... قولوا له: الله يعطيك العافية... وأحلى باقة ورد للزنود السمرا... وكل عام وأنتم بألف خير... وخير.
التعليقات (0)