باسم حمودة ومعادلة البساطة والعمق
بقلم: أحمد مكاوي
أن تجتمع البساطة والعمق أمر صعب , لكنه في الحقيقة أمل كل شاعر ونجد أن بلوغ المراد في هذا لم يتحقق إلا لقلة من الشعراء تمكنوا من زمام رؤاهم فأمدوها بماء اللغة , بعد أن فهموا معنى تجربتهم الشعرية .
وباسم حمودة من هذا الصنف في شعره وما يمكن أن نختلف عليه فقط عند باسم هو الحفر في صوره والوقوف على ما وراء اللغة وهو ما يدخل في مجال التأويل والقراءة لكن لا يمكن بحال أن نختلف في شاعرية هذا الرائي ..
باسم في تعامله مع المرأة الغامضة/ اللعوب/ الجميلة /المتسلطة /المتعِبة.. شاعر في كل هذه الحالات وغيرها يلين حتى يصبح كالنسمة ويقسو حينا حتى تشك أنه يتعامل مع امرأة ! وهو في كل ذلك يملك شاعريته ويتقن اللعبة الفنية.. من مدرسة نزار لكنه لم يتماه فيها ولم يسرقه نزار , فهو باسم في لغته , باسم في تجربته , باسم في صوره , ولم يأخذ من نزار إلا البساطة في الوصول إلينا , والعمق هو سمة الروعة التي يسكبها في نصوصه .
ومن أراد أن يتأكد من ذلك فليقرأ معي من قصيدة ( أمامك كل النساء خفر)
أُراهنُ حينَ اُحبُكِ ,
أني لسوف أُضيفُ لشعري جميلَ الكلامِ ,
وحلو المعاني ,
وأحلى الصورْ ..
واكتبُ اسمَكِ فوقَ جذوعِ الشجرْ ..
و أعصر بين يديكِ الثمرْ ..
وارشفُ من شفتيك السَّكَرْ ..
فقولي بربِكِ ..
ماذا وممن تخافينَ حينَ يشيعُ الخبرْ ..
فأي جمال هذا في معناه الذي نحاوله ونرجوه حين نخاطب حبيباتنا ,وأي بساطة في مبناه ,لكنه جمال ينسجه خيال باسم في لغة تفهمها وتهواها اللواتي بل وتهزهن هزا !!
وانظر معي في نفس القصيدة قوله:
أحذرُ انكِ أُنْثى ,
وأنكِ شمسٌ على سطحِ أحلى قمرْ ..
ولستِ كغيرِكِ تُنسى ,
وأن النساءَ اللواتي يملن إليَّ هواءُ ,
وأنتِ أشدُ النساءِ خطرْ ..
فهو هنا يعرف أنه يتعامل مع إحدى النساء , ولكنها ليست ككل النساء! وأصدق ما في هذا المقطع قوله :
وأنتِ أشدُ النساءِ خطرْ ..
وأما في قصيدة امرأة العزيز والعنوان في حد ذاته حكم من شاعرنا على النساء !يقول:
عيناكِ أخطرُ ما رأيتُ ..
وآسفٌ ..
فيداكِ مخلبُ قطةٍ ..
والسوءُ أنكِ تركبي أذنيَّ
ودنوتِ كالسرطانِ من جسدي
ومن أذنيَّ
هي الغواية إذا وظيفة كل امرأة وهي إحداهن تعمل بما فطرت عليه ! ويكفي خطرا فيها ما تقوم به عيناها ، أما أنفاسها وهي تهمس في إذنه فآه مما تفعله في قلبه !!
لكنه وهو يدافع عنه يستمرأ الغواية يعرف أنه :
ما عدتُ يا امرأةَ العزيزِ بمفردي
فاللهَ يسترُ سوءتي
وأعوذُ بالرحمنِ منكِ فلستُ إنساناً شقيّا
لكنها لم تتراجع :
فطلبتِ مني أن يظلَّ الأمرُ في ما بيننا سِرِّيا
وشككتِ أنَّ الناسَ
تعرفُ أمرنا .. فصرختِ
كالبلهاءِ في َّ..
" اتركْ يديَّ سأندهُ الشرطيَّ ".
هي النهاية التي لا تتقنها إلا النساء!!
أما في قصيدة( عامان من العشق) فيرتقي باسم في صوفيته معها إلى مصاف الأولياء الذين أعطوا ما في قلوبهم وعقولهم وانتهوا حيث ينتهي الولي الواله يقول :
قررتُ أنْ
أُبقيكِ فوقَ الذاتِ
لم تُبقِ لي عيناكِ
إلا عالماً ،
متميزا ً،
متناغمَ الأصواتِ
لم تُبقِ لي عيناكِ
غيرَ مشاعرِ العشاقِ
بعدَ توحدٍ ، وشتاتِ
عيناكِ سبعةُ أبحرٍ ،
شتويةِ الأنواءِ ،
والأمواجِ مضطرباتِ
للهِ سرٌّ أنَّنَا
نشتاقُ ـ كالرُعناءِ ـ
ما في الحبِّ من لعناتِ
نشتاقُ ألفَ
عقوبةٍ جسديةٍ
ونصيرُ كالأزهارِ حمراواتِ
ويتوحد فيها و بها حتى يقول :
عامانِ .. أستفتيكِ
عني ـ كُلَّما أشرقتِ ـ
بين النفيِّ والإثباتِ
عامانِ .. يا تُفَّاحتي
مرّا بنا ..
لم أدرِ في عامينِ أم لحظاتِ
هي الغيبة في حضور الذات التي توحد فيها ولم يعد يحس بمضي الزمن الذي يحكم الجسد لكنه والروح التي سافرت فيها أشرقت بين النفي والإثبات !!
أما الروعة في هذه القصيدة فنجدها في قول باسم :
يا كوكبي الدريَّ
جئتُكِ داعياً
فنسيتُ باسمكِ
كُلَّ معتقداتي
أَكَفَرْتُ أنْ مارستُ
فيكِ مشاعري
أمْ " إنما الأعمالُ بالنياتِ "!!
هنا يدخل الحديث النبوي في نسيج النص فلا تحس أبدا بالتمحل أو القصدية بل العفوية الرائعة هي التي حكمت أن تأتي به هنا فزاد النص جمالا على جمال
لتأتي النهاية في غاية الروعة والجمال عندما يسائلها ويطلب منها بعد ذلك حين يقول :
هل أنتِ حينَ أُحِبُّ
ربَّةُ عاشقٍ ؟
فإذن : (أُحبُّكِ )
ابتغي الحسناتِ
أم أنتِ شيءٌ غامضٌ
ومقدرٌ لي أنْ أموتَ ،
وأرفعَ الراياتِ
مَيْتٌ أنا في الحُبِّ يا تُفَّاحتي
إياكِ ـ أنتِ ـ
وحرمةَ الأمواتِ
إن باسم في هذه القصيدة ولي من أولياء الحب يتوحد في محبوبته ويفترق يطلب ويسأل ويقرر أنه على حبه باق مهما كانت الحياة ومهما طوى العمر خطاه !
وفي قصيدة (عيناك بالدنيا) نرى باسم مستسلما لعينيها لا يرى في نفسه إلا تابعا يأتمر بما تأمر ولا يجد لنفسه حولا ولا قوة يقول فيها :
أنا من يومِ عينييك نسيتُ النومَ والدنيا
مُري قلبي بأن يغفو .. ولا يسَْهَرْ
مُري قلبي بأن يفعل ْ
لكنه عندما يؤمر أن يكف عن السهر لينساح في النوم كما يفعل الناس نجده :
عصت عينايَ ما تؤمرْ
والسبب أوضح من أن ينكره المحب لأنه هنا لا يخجل مما ألم به , بل و يعترف بأنه الأقوى والأقدر يقول :
هو الحُبُّ الذي يجتاحُ أشياء
ولا يُبْقي على الإطلاقِ أحياء
هو الأقوى هو الأعلى هو الأقدرْ
هو الحُبُّ الذي يأتي بلا إذنٍ
ويُوقِعُنا بما نحذرْ
هكذا هو المحب وهذا هو باسم عندما يكون في حضرة العيون !!
وباسم مع العيون يصبح طفل لا حول له ولا قوة يقول في قصيدة (ما هو اسمك) :
أسقطت عيناكِ جرحى
كدتُ من عينيكِ أُقتلْ
مغرمُ العينينِ ظمآنٌ ،
دعي الظمآنَ ينهلْ
إنني من فِرْطِ سحرِ
العينِ أثملْ ..
فهو يقر أنه من فرط سحر العيون يسكر والسكران في عرف الجميع لا يستطيع أن يميز أو أن يكون مسؤولا عن فعله فهل لها بعد ذلك أن تحاسبه عن قول قاله أو فعل أتاه ؟!
أن باسم وهو يتعامل مع المرأة ينتمي للذين يعتبرون المرأة أجمل ما في الوجود ! فهو يكني بها عن الوطن ويخاطبها امرأة من لحم ودم وهي الرمز والأسطورة وهي الربة التي يتلو لها الأوراد وهي الحبيبة والقريبة من كل ما يحلم به بل هي الحلم
باسم شاعر يعزف على نغم البساطة ببراعة تجبرنا على الغوص إلى الأعماق كي نستخرج اللؤلؤ الذي تحرسه المحارة التي لف بها باسم معانيه
إن شعرية باسم حمودة تتجلى في بساطة ألفاظه وروعة صوره لذا لا أجد فيه إلا الشاعر الذي استطاع أن يكون هو ...
التعليقات (0)