لقد كان بودي أن أتذكر أشياء لم أستطع قولها وأنا في كامل قواي العقلية لكن الذاكرة لما تزل تخونني الآن حتى بعدما أخذ حجاب الخمر يغرب عني شمس التمييز ، في كل الأحوال لا زالت ذاكرتي متوهجة وقدرتي على التركيز لا تشوبها شائبة ، آي ذلك أني نبهت صديقي ، إلى دفع ثمن البيرتين لأنني أنا الذي دفعت عنه في آخر بار ، هز حاجبيه مستنكرا ,أنا أعلم أنه في الأخير سيذعن ،بعد أخذ ورد يطير بنا الحديث نحو عوالم أخرى ، حكي لي قصة اعتبرها مأساة : قال بصوت يهده التعب وهو يحرق سيجارة : أذكر أن ذلك حدث قبل سنين لا أذكر بالضبط عددها لكن على الأرجح أنها صادفت مستوى الثانية إعدادي ، قلت حدث ذلك بمحض الصدفة الخبيثة ، فقد جاءني صديق بثلاثة كتب أراد أن يبيعها فلم يجد غيري لأني و رغم آيات الانحراف التي أوصم بها فقد كنت أيضا مثالا في تلقف كل ما يقرأ ، وكثيرا ما تنذر أصحابي في نكاتهم بذلك ،واذكر أننا ذات صبيحة طفولية لما كنا نتناطح في ملعب تركت المباراة وهمت أركض وراء جريدة طائرة ، وكم كان حظي تعسا إذ وجدتها مطلية بالخراء ، وكم ضحك أقراني حينها ولازالوا يذكرونني بذلك كلما التقينا . هذه السمعة الطيبة على كل حال هي التي ستكون مفتاح هذه المأساة التي أنا بصدد الحديث عنها ، واعذرني إذ أطلت فأنت تعرف أن ذلك لا يحدث إلا لماما حين يتمكن مني الخمر ، قلت أتاني صاحبي بثلاثة كتب اشتريتها منه بثمن أذكر أنه كان 15 درهما ، قال لي إنها ما يحتاجه ليقوم بنزهة إلى سد القنصرة الذي لا يبعد كثيرا عن مدينتي ، هكذا باركت له الفكرة وتمازحنا قليلا ودخنا نصفي سيجارة على التوالي ثم ودعني ومضى
أعقبت وأنا أنتظر ما سيحدث :
-ثم ماذا ؟
توقف عن الكلام قليلا وهو يتابع بعينيه مؤخرة غانية تتمختر وهي تدخل الحانة ، تابعتها أنا أيضا بعيناي فأرسلت نظرات كالسهم الناري مفادها هل أجلس قربكما ، طبعا لا فذلك سيكلفنا بيرتين على الأقل مقابل غنج مصطنع لا يغني ولا يسمن ، لذلك أزحت عنها عيناي وكذلك فعل صاحبي كأننا مبرمجين . ولا زلت أنتظر أن ينهي المأساة التي بدأ في سردها
-إييه : أتمم ، ماذا حدث بعدها
-ماذا حدث بعدها ، في الواقع لم يحدث شيء ذي بال ،
-ولماذا قلت أنها مأساة
-حسنا : في المساء شاع الخبر وتعالى البكاء والنحيب من جنبات بيت صديقي أحمد
-لقد مات غرقا
- أجل..أجل
صمت صديقي عن الكلام وظللت هنيهة أفكر فيما سأقوله رغم أن ذلك لا يعنيني على الإطلاق ، فعندما أموت لن يعلم بذلك سوى قلة قليلة من مجموع هذا الكون ، بعد بضعة أيام سينسونني وبعد بضعة أعوام سأطوى تماما كأنني لم أكن ، ثم تتواصل الحياة وتتوالد الأجيال ، لذلك فإن الحياة ، تماما كما الموت ، لا تعنيان لي شيئا ذا أهمية تستوجب التفكير فيه .
لم يعلق صديقي على ما قلته ، تمدد على الكرسي . وأخذ يردد مقاطع من أغنية شعبية رديئة بالنظر إلى التزامه الموسيقي ، بالنسبة لي أردت أيضا أن أحكي له قصة ، قد يكون هو الذي أوحى بها إلي ، أو شخص آخر لست أدري ، لكنها على كل حال يجب أن تحكى حتى لا تظل رهينة النسيان ، حسنا هل أنت مستعد :
- لنؤجل ذلك ودعنا نستمتع قليلا بقهقهات الإبليسات اللواتي يضج بهن المكان
رمقته بنظرة شزراء تحولت بقدرة النشوة الفاترة التي تسم عادة أولى الكؤوس إلى ضحكة ساخرة على أشياء أعرفها لكني لم أعد قادرا على تذكرها ، وفي الواقع فإن من يلج مثل هذه الأماكن الموبوءة ينعم بملكة النسيان أكثر من أي مكان اخر ، كنا جالسين خلف طاولة خشبية مربعة الشكل تحفها قطعة زجاجية أنيقة فوقها رصت أربع قناني إضافة إلى منفضة سجائر يلقي النادل ما علق بها بين الحين والحين ، ولست أدري لماذا يفعل ذلك فأنا شخصيا أفضل أن أراها ممتلئة لغاية في نفسي لا أدري بالضبط ماهيتها ، مساحة البار لم تكن كبيرة قياسا إلى عدد الرواد الذي بدا لي أكثر من أن تستوعبه رقعة ضيقة كهذه ، ربما صدق من قال أن التيساع فالخاطر ، وخاطر السكارى عادة ما يكون متسعا بدليل ذلك الجالس يسار طاولتنا والذي تحيط به سيدتين تضحكان وتشربان وتقبلانه وتدخنان من علبته ، على يميننا يرابض كهل أشيب الرأس يجلس وحيدا لكنه لم يكف عن الحديث إطلاقا ، منحني الرأس لا ينتظر صدى لكلماته من أحد ، يتحدث ليتحدث ، لا يرفع رأسه إلا حين يهم بإشعال سيجارة أو ارتشاف جرعة من البيرة ، قلت لصديقي :
- سيكون مصيرك مثل ذاك الذي يكلم الزجاجات
ضحك نصف ضحكة ثم رمقه بنظرة قبل أن يجيب :
- لا ، لا.. حتما سألوذ بمعتقد قبل أن أبلغ ذلك المبلغ
وجدتها فرصة للتوسع في الكلام ، قلت :
- لكن ألم تسمعه يقول الله أكبر ,وان لا مشكلة له مع الله ، ومع ذلك يكرع الخمرة ويحدث نفسه كأنه ممسوس ؟
لم يجب صديقي بل طلب مني أن أسرد عليه قصتي ، قلت حسنا فبدأت الحديث عن قصة أتذكر جيدا أنه هو من حكاها لي ذات مجلس ، فأردت أن أرد له سرقة قصتي الأولى :
- تعرف أن أسباب الرحيل كثيرة ، مثل غياب سبب يربط المخلوق بالحياة ، وقد بلغ بي اليأس مبلغه ذات أيام سوداء لم أجد فيها أي داعي للإستمرار ، فكان أن فكرت في العودة إلى الوراء بزيارة بيت جدتي لعلي أجد لديها من كلمات ما قد يشكل لي العزاء عن انقطاع دواعي التشبث بالبقاء ، وصلت إلى القرية منهكا يائسا لا أحيي أحدا ممن أعرفهم ولا أحاول حتى أن أزن وقع ذلك على نفوسهم فلم يعد يهمني منهم شيئ فلربما كانوا من أسباب قنوطي ولهفتي للرحيل ، بلغت منزل جدي وجدتي ، طرقت الباب ففتحت جدتي وهي تعبة مقوسة الظهر لم يكن حالها أفضل من حالي ، استقبلتني بلهفة وعانقتني وهي تبكي ، دخلت إلى غرفة الجلوس فطلبت مني أن أن أنتظر إلى أن تعد لنا الشاي ، فوق الأريكة لمحت كيسا صيدليا مليئا بالأدوية ، جدتي تعاني كثيرا ، وقد تساءلت لم كل هذا الشقاء للتشبث بالحياة ، شكل منظر الأدوية وشحوب البيت وحركات جدتي المتثاقلة اخر الأسباب التي تعجل برحيلي عن هذه الحياة..
أخذت كيس الأدوية ثم تسللت إلى سطح البيت قائلا لجدتي أني سأعود فوافقت إذ ظنت أني أريد أن أدخن ، بعد أن بلغت السطح بدأت أكرع قناني الدواء وأبتلع الأقراص الكثيرة بهيستيرية لا تقاوم إلى أن سقطت دون أن أعلم بالتحديد كمية الدواء التي ابتلعتها..
ضحك صديقي عاليا ثم أعقب :
- وها أنتذا في الجنة تكرع من أنهار الخمرة
قلت : كان عليك أن تسألني ماذا حدث بعدها :
-وماذا حدث بعدها :
وجدت نفسي فوق سرير مكبل اليدين تخترقني أوعية المصل من كل جانب وأنا أكابد لأميز رقعة انوجادي ، فجأة دخلت شابة عرفت رغم تعبي أنها حسناء لم أر لجمالها نظيرا ، ابتسمت في وجهي وقالت أن كل شيء بخير بعد أن تم تنظيف معدتي ،
ابتسم صديقي ابتسامة ساخرة:
-وماذا قلت لها
- في الواقع طلبت منها أن تنزع عني الأمصال بل ألححت عليها لفعل ذلك حتى يتسنى لنا ممارسة الجنس
ضحك صديقي عاليا ثم قال :
- يا لك من محتال فهذه قصتي حكيتها لها في مجلس بعمارة عبد الرزاق
قلت :
-والقصة الأولى قصتي حكيتها لك لست أدري أين لكني متأكد أنها قصتي
ضحكنا عاليا وطلبنا المزيد من القناني، وقد حدث كل ذلك في زمان ومكان معينين
محمد الشاوي / الخميسات / شتنبر 2012
التعليقات (0)