يقول عنها صاحبها الروائي وليد إخلاصي :
(( بدت روايتي " باب الجمر " للوهلة الأولى ، وكأنها بحث عن بابٍ غائبٍ أضيفه إلى أبواب حلب التاريخية المعروفة ، أو أنه بابٌ متخيَّلٌ ، أدخل منه إلى حقيقة التاريخ الاجتماعي للمدينة ..
لكن الأمر على ما يبدو أبعد من هذا بكثير .. )) ..
" الرواية قبل الأخيرة : أحاديث للكاتب 1987 " .
ويقول : (أنا برأيي ، ليس هناك من قانون للرواية ، لأن كل رواية تخلق قانونها ) ..
" من حديث مقابلة خاصة معي للكاتب وليد إخلاصي " .
هذه الرواية ، هي واحدة من محاولاتٍ روائية كثيرة تسعى إلى " تأصيل " الرواية العربية ، والابتعاد عن النمط الأوروبي الكلاسيكي ، وإيجاد نوع من الرابط الحي ، بين نمط التفكير الشعبي ، وعملية القص أو السرد ، أو البناء الروائي عند الكاتب ..
وليست هذه أول المحاولات ، بل سبقها " زهرة الصندل " ، وبشيء أكثر هندسة في " الحنظل الأليف " ذات الطابع التجريدي ..
وتقوم رواية " باب الجمر " ، على عالم من الطقوس والحكايات والاحتفالات والأحلام والرجاءات والمخاوف الوثيقة الصلة بالروح الجماعية الشعبية ، التي تعيد اكتشاف الحكاية الشعبية السورية ..
وما يميز هذا العمل ، هو : حضور روح المكان ، بخصائصه الاجتماعية وروحه الشعبية ..
وليست أسطورة حديثة أن نبتكر حارة على غرار حارات حلب القديمة ، ونسميها " باب الجمر " ، لأن ذلك مألوف في النثر الروائي العربي ..
لكن ما يلفت النظر في هذه الرواية ، أن " روح المكان " بمعنى " فضائه الشعري الروحي الاجتماعي " تحضر على نحو مميز ، وتشكل بعدا أساسيا يوجه عالمها الروائي برمته ، و" يستحضر الروح الحلبية المحلية " كما يرى الدكتور فؤاد المرعي ، وهي " عمل فني يستحضر مكانا حلبيا يعطيه النكهة الحلبية " ويُبنى بروح محلية شعبية ..
إن المكان في " باب الجمر " ينهض في فضاء السرد الحكائي المشار إليه أعلاه " عالم من الطقوس والحكايات و ... و ... " ، وهذا ما يجعله وثيق الصلة بالبنية النفسية الشعبية للجماعة ..
إن أسلوبية السرد الحكائي هنا ، هي تعميم فني لعلاقات حضورية في الواقع .. وما يوضح ذلك ، هو قيام الرواية على عالم من المتضادات :
عالم الجماعة الشعبية : أحمد النساج ، الصالحاني ، محبة الجمر ..
في مقابل عالم السلطة ، الذي هو عالم " الأسطورة العائلية " لـ " آل الراس " ..
ونجد هذا التضاد على مستوى الإشكالية الروائية في شكل الصراع ما بين : ثنائية عالم مقهور ومستغَلّ وفقير وجاهل ، وعالم آخر ، يملك المعرفة ، ويملك في الوقت نفسه ، المال والقوة والسلطة ، والقدرة على تجهيل الآخرين واستغلالهم عن طريق جهلهم ..
وقد يبدو أن الصراع قائم بين المعرفة والسلطة ، وهنا ، قد تلعب المعرفة ـ إذا وجدت في عالم المقهورين ـ دورا تقدميا وتاريخيا ، ولكنه في رواية " باب الجمر " ضاعت المعرفة ، وظل المقهورون في انتظار عودتها يوما ما ..
إن السلطة ، لا تعارض إلا تلك المعرفة التي توقظ الفقراء ، وتؤدي إلى زعزعة الوضع الذي تستفيد منه ..
والكاتب هنا ، يبني عالما يقوم على ركيزتين أساسيتين :
الأولى : هي حي " باب الجمر " .
والثانية " هي " أسرة الراس " .
حي باب الجمر ، حي للفقراء ، يلتقي فيه أناس كثيرون ، تجمعهم صفة واحدة : كثرة الأبناء ، والفقر ..
في مقابله : أسرة " آل الراس " بأعمدتها المختلفة التي تسيطر على الصناعة والتجارة والمال والزراعة ..
أما المعرفة التي يحملها " محبة الجمر " ، فإنها تتطور في الخطاب الروائي ، من معرفة بدائية حدسية تتواصل مع الطبيعة ، إلى فعل اجتماعي ينتهك بأسئلته حرمة الأسطورة العائلية لآل الراس ، ويكون محبة الجمر ضحية هذه الأسئلة ، وشهيدها ، لأنه ينتهك حرمة سيطرة رأس المال الطفيلي والبيروقراطي في حارة " باب الجمر " الذي يستمد قوته أيضا من استمرار تلك الأسطورة ، وذلك جوهر البطولة الشعبية التي يمثلها محبة الجمر بملحميتها الحكائية ، مصاغة بخيال شعبي ..
والواقع ، أن محبة الجمر لم يولد على غرار أبطال الخيال الشعبي فحسب ، بل كان في موته شيء من ذلك أيضا ..
فالخطاب الروائي ، لم يقل : إن محبة الجمر قد مات ، بل ، يشي بأنه غاب ، وسيعود ثانية ..
ولم يتفوق محبة الجمر على " الصالحاني " بالمعرفة ، ولكنه تفوق عليه في شعبيته وذكائه وجرأته ، هذه الصفات التي تجعلنا نحكم على وليد إخلاصي ، بأنه منسجم حتى نهاية الرواية في تصويره لشخصية محبة الجمر ، التي لم تستطع " جمانة " ـ بكل ما تملكه من إغراء ـ أن تحرفه عن مطالبه .. لماذا ؟؟ لأن الكاتب يرى في محبة الجمر" المُخَلـِّصَ " الشعبي ، ذا التصميم والجرأة والشجاعة والذكاء والقوة .. وهذه هي صفات الشعب ..
ولهذا ، لا تنطبق على الكاتب وليد إخلاصي تصنيفات جاهزة ، لأنه " رجل مفاجئ " ..
إن النص الروائي يطرح هيمنة كاملة لأسرة " آل الراس " على مجتمع حارة " باب الجمر " ، بحيث أن هذه السيطرة لا تمس عالم العلاقات الحضورية الاجتماعية ، وإنما تمس العلاقة الشعرية أيضا ، بمعنى الفضاء الروحي والنفسي والحكائي ..
إن ما يبدو من أصالة في أعمال وليد إخلاصي ، وخصوصا في : باب الجمر وزهرة الصندل ، هو مظهر محدد من مظاهر الدفاع عن الروح الشعبية ، وهذا لا يخفف التجريدية الذهنية لبناء المكان ـ الأمكنة ، ولبناء الشخصيات ، إنما يمنحها طابعا وثيق الصلة بخصائص اللغة ، بل ، بخصائص الوعي الحكائي ..
وكما رأى الدكتور فؤاد ، فقد " استخدم الكاتب كل معارفه في كتابة هذه الرواية ، حتى أثقلها بالأفكار ، وجعل حوارها تكثيفـًا لوعي كامل من مرحلة تاريخية معينة ، مُساقا بلغة شعرية في كل جمل الحوار " ..
وهذه الشاعرية : " بعيدة عن الترهل البلاغي العقيم " ..
وبرأي محمد جمال باروت : " فالبلاغة والرواية نقيضان .. والرواية ليست فن كلمة ، بل ، فن بناء وسرد وشخصيات ومشاهد وحوادث وأمكنة " ..
ويسرد لنا الكاتب التفاصيل الجزئية لكل ذلك ، بحميمية في إطار عرض ملحمي حكائي ..
وفي معظم روايات وليد إخلاصي ، نجد الصراع بين مفهومين أخلاقيين متناقضين ، وهذا ما يطبع إبداعه بطابع ذهني واضح ، لكن هذه الذهنية لا تقلل من حيوية عالمه الروائي الذي يبنيه بمقدرة مهندس معماري محترف ومجتهد ..
وتتضح هذه الذهنية أكثر في " باب الجمر " رغم أن الصراع بين الخير والشر ، " لا يمكن أن يحسم في جولة واحدة " ..
لقد أراد وليد إخلاصي أن يكتب ـ في هذه الرواية ـ تاريخ المدينة ، تاريخ حلب ، لكن ، ليس كالتاريخ الذي كتبه " الغزّي ، أو الأسدي ، أو الطباخ " ، إنه يكتب ما يقول عنه :
" هذا تاريخي ، صار أنا " ..
1994
التعليقات (0)