أمة مستقبلها في ظلال ألاعداء
الجدل يملأ الفضاء السياسي العربي حول إيران أنكون معها أم ضدها، هل هي عدونا التاريخي الفارسي أم سندنا في مهمة التحرير واستعادة الأرض؟..
لا يهمنا عدد الأسئلة ولا إجاباتها، فقط يهمنا تفكيك العقلية التي تكمن وراءها، وتعلن هذه العقلية بكل الوضوح أن العرب في خطابهم السياسي والإعلامي ونهجهم التنموي الاستراتيجي لا يقدرون على التحرك بمحض إرادتهم، ولا يبادرون إلى فعل شيء أو استصدار موقف دون الاتكاء على قدرة جهة أخرى والاهتداء بتعليماتها..
التاريخ يقول إن العرب الذين حاربوا الدولة العثمانية بجلد وصبر لم يتحركوا بقناعة أمة لها مصالح وأرادت أن تنتفض على حكم تحكّم في الرقاب أربعة قرون كاملة، وإنما انتفضت لأن بريطانيا أرادت لها أن تنتفض وتتحرر.
وفعلا انتفضت وزادت أوجاع الرجل المريض وساعدته على أن يُنقذ نفسه ويجري عملية قيصرية حولته من امبراطورية متهالكة إلى دولة قومية معتزة بذاتها وعلمانيتها، لكن الانتفاضة العربية ضد العثمانيين وضعتهم تحت الانتداب البريطاني وكانت لعبة أنجليزية ذكية فضحت غباء وجهاء العرب في تلك الحقبة وتواضع إدراكهم.
فليس أسوأ من امبراطورية الرجل المريض غير استعمار الامبراطورية التي لا تشرق عليها الشمس التي سلمت فلسطين إلى عصابات آتية من أصقاع دنيا لتعيث فيها فسادا وتقتيلا.
لم يتحرر العرب من وضع المتهالك ولا أنقذوا أنفسهم بأن اختاروا علمانية شبيهة بأتاتورك، ولا ديمقراطية الذين استعمروهم ولا رهانهم على البراغماتية في العلاقات الاقتصادية والسياسية، فقط احتفظوا بخاصية ظلت تاريخا طويلا عنوانا عربيا ثابتا، وهي الحاكم المستبد العادل، هذا الذي يتصرف في كل شيء بما يحلو له ويوزع ضيم سلطته عدلا بين الناس.
والصورة ذاتها بدأت تتشكل الآن، وإنْ تغيّرت الوجوه والفواعل، فإسرائيل والولايات المتحدة يضغطان على العرب لخوض حرب جديدة بالوكالة والنيابة عنهما ضد إيران، والاستجابة جاءت سريعة وحماسية من أكثر من جهة عربية رسمية وشعبية..
اقرأوا جيّدا الصحافة العربية ومواقع الأنترنت وستكتشفون أن الحرب، التي من المستبعد أن نخوضها عسكريا لتواضع خبراتنا وإمكاناتنا وتقاليدنا، بدأت فعلا على المستوى الفكري والسياسي والإعلامي والنفسي واستجمعنا من ذاكرتنا المفردات والشعارات والنعوت والأوصاف التي تقول إننا على حق وأن حربنا مع إيران ستكون قصاصا من تاريخها وحاضرها ومستقبلها.
إننا نريد أن نخوض الحرب مع إيران ليس لأنها قوة إقليمية يمكن أن تبتلع أمتنا النائمة في العسل الأمريكي الإسرائيلي، وإنما انتقاما من ذاكرة ورموز وطيف مفاهيمي وديني ومذهبي لقرون قديمة، ما زلنا نراها عنوانا للمجوس والحركات المذهبية الإسماعيلية والصفوية والبويهية ولا نراها قوة اقتصادية وعسكرية إقليمية نحدد الموقف منها وفق المصلحة والحسابات والتوازنات.
ولعل السر الحقيقي لأزمتنا الراهنة كأمة هو أننا نتحرك ونحكم على الظواهر والأشياء وفق مقاييس شعورية واعتبارية تنتمي إلى التاريخ.
هل إن الأزمة في العراق ناجمة فقط عن الدور الإيراني المثقل بمدلولات الذاكرة؟ وهل أن إيران وحدها التي ساعدت الإدارة الأمريكية على غزو العراق سنة 2003؟
وهل يكفي العداء التاريخي والاختلاف المذهبي مع إيران مبررا كي نخلي ساحة أمريكا ونبرر غزوها ونستعد كي نتفق معها ونقبل وجودها الظاهر والخفي في العراق؟ وهل الأسلحة النووية الموجودة بالقوة "الافتراضية" تجيز لنا أن نُلغي خلافنا الاستراتيجي مع إسرائيل والاستعمار الأمريكي المبطّن ونحولهما إلى خلاف ثانوي؟
هذه الأسئلة تحاول أن تُعيد القضية إلى بُعدها السياسي الاستراتيجي وتخرج بها من دائرة الإثارة وأدبيات الحنين المذهبي والإثني، وهذا يعني أن اختلاف العرب مع إيران من المنظار الثقافي والديني والتاريخي ليس أكبر مدى واستشكالا من اختلافها مع إسرائيل أو بريطانيا أو الولايات المتحدة.
فإنْ كانت إيران الفارسية "وبقية التوصيفات المثقلة بمفردات الكراهية" والتي خضنا معها صراعا مريرا في الماضي البعيد وتحتل ثلاث جزر إماراتية حاليا، فإسرائيل "كهوية دينية وليس ككيان جغرافي" خضنا معها صراعا في التاريخ القديم حمل بدوره توصيفات مثقلة بالدم والكراهية، فضلا عن استمراره إلى الآن بأكثر حده وقوة ومضاء في التهجير والاحتلال.
كما أن الصراع مع الولايات المتحدة يرتقي بدوره إلى أن يكون "حربا صليبية" – كما وصّفها السيد بوش الابن - هدفها إفناؤنا عن بكرة أبينا واجتثاث هوياتنا الثقافية والدينية والقومية، فلماذا إيران وليس إسرائيل أو الولايات المتحدة؟
من السهل علينا أن نبحث عن آلاف الحجج لنقول إن إيران عدونا الأول وقد أعطتنا قيادتها السياسية والدينية مبررات كثيرة كي ننحاز ضدها، بدءا باستمرار احتلال الجزر الإماراتية الثلاث، مرورا بالدعوات إلى إلحاق البحرين وجزء من السعودية، وصولا إلى التعاون العسكري والاستخباري مع الاحتلال في العراق.
ولعل أكبر أخطاء إيران أنها، تماما مثل الدول العربية، لم تقدر على أن تحدد عدوها الاستراتيجي وأعداءها الثانويين وغلبت عليها الدغمائية المذهبية على حساب البعد السياسي الاستراتيجي..
فطهران التي وجدت دول الخليج تعج برا وبحرا وجوا بالقوات الأمريكية قرأت الرسالة بالخطأ، وفهمت أن كسر هذا الحصار، الذي يحيط بها من كل جانب، يمر عبر مهادنة الأمريكيين وتقديم عربون الوفاء لهم، ولو إلى حين، وكان هذا العربون هو التواطؤ على العراق ودفع المعارضة الشيعية التي مولتها ودربتها طيلة نصف قرن لتصبح أداة أمريكية في الإطاحة بالبلد الجار.
ولا بد من الإشارة إلى أن إيران التي انحنت للعاصفة الأمريكية وتواطأت مع الغزو كانت وما تزال تبحث عن طرائق مختلفة لمنع المواجهة العسكرية مع واشنطن التي تقول الكثير من التقارير الأمريكية والإسرائيلية إنها تأجلت أكثر من مرة وأن طهران نجحت في توتير الوضع الميداني بالعراق وحركت الفصائل والمليشيات الموالية لها لمنع انتهاء العملية السياسية إلى استقرار في الحكم.
وهذا الوضع هو الذي فشل الرئيس بوش الابن في الخروج منه وأطاح بالجمهوريين وخاصة المحافظين الجدد، وليس هناك أفق بأن ينجح أوباما في أن يُحدث استقرارا ما في العراق حتى لو قرر الانسحاب الكامل.
وبالتالي المواجهة تتأجل وإيران لا تتخوف إلا من سلوك إسرائيلي جنوني قد يُحطّم كل العلامات الافتراضية الحمراء ويلقي بالمنطقة في أتون الفوضى..
إيران كانت أكثر ذكاء من العرب، فهي وإن بدت متعاونة مع الاحتلال وحريصة على إسقاط صدام، فقد توفقت بحكمة وجرأة في أن تربح الوقت وتشرع في حركة تسلح واسعة بعضها كان من صنع ذاتي وارتقى إلى درجة استعراض القوة، دون أن نغفل جهدها الدؤوب نحو امتلاك التكنولوجيا النووية.
الفرق بيننا وبين إيران أنها تخوض معاركها القومية بكل شراسة حتى ولو كانت على حساب العرب وبالتواطؤ مع الشيطان، فيما نحن نخوض معارك غيرنا ونتواطأ مع أعداد غير معلومة من "الشياطين" ولو على حساب أمننا الاستراتيجي، فالحرب الدبلوماسية والإعلامية الواسعة التي حركتها الآلة الرسمية وشبه الرسمية والأيديولوجية العربية هي تحضير نفسي وسياسي وإعلامي استباقي لضربة إسرائيلية مفترضة ضد إيران.
والهدف هو تحييد الشارع العربي من المعركة التي قد تحصل خلال أشهر والشعور بالعداء العميق ضد إيران والتلذذ بالهجوم الأمريكي الإسرائيلي، بلغة أدق الدخول السلس والمطيع إلى قمقم "فرّق تسد" والتصفيق لضرب إيران متناسين أن ضربها سيكون الشارة الأخيرة للمصاعب الإقليمية أمام التسيد الإسرائيلي على المنطقة، فمن يقدر على قول لا لإسرائيل والولايات المتحدة بعد سقوط العراق وضرب الآلة العسكرية الإيرانية، لا شيء سوى الهرولة باتجاه تنفيذ مقاسات مشروع الشرق الأوسط الجديد.
وهكذا ينجح أوباما بالدبلوماسية الناعمة في ما فشل فيه بوش بالقوة والصلف، أي ترسيم الحرب بالوكالة.
لكن من المهم الإشارة، هنا، إلى أن الحرب المفتوحة على إيران لا تخصها لذاتها، بل هي حرب على قوى الممانعة التي ترفض تحويل التسيّد الإسرائيلي إلى قناعة وحقيقة ماثلة، وهنا تأتي الهجمات النارية على حزب الله والتي تقودها بعض دول "الاعتدال" العربي وترسانتها الإعلامية، وينخرط فيها الدغمائيون الإيديلوجيون وبعض العامة المفتونون بالاصطفاف في حروب التاريخ والذاكرة.
ليس هناك شك في أن حزب الله حزب شيعي موال تماما لإيران فقهيا وسياسيا وشعوريا وأنه يتحرك بالتنسيق معها ويستجيب لأوامرها، لكنه حزب عربي ولبناني نهض بمهمة عجزت عنها حروبنا وقياداتنا ورموزنا وحقق أول نصر عربي لم ينته إلى استسلام ولا تسليم وجعل الإسرائيليين يشعرون لأول مرة أن وجودهم صار محل سؤال.
فما الأوْلى أن ندفع بنصر الله وجماعته إلى إيران ونقول لشعبنا العربي المناهض لإسرائيل والسطوة الأمريكية: إذا أردت مقاومة وصمودا فاذهب إلى إيران، وإن أردت تطبيعا ومهانة فتعال إلينا؟
أم نبادر إلى فتح حوار مع حزب الله ونسعى لإخراجه مما نعتبره اغترابا في الولاء ونثبت له أن أمته وقياداتها السياسية تناور بالتفاوض والمقاومة في آن وليواصل نضاله وتسلحه وبطولاته، فهو ورقتها وقت الحاجة؟
إن القرار الاستراتيجي الذي اتخذته ما تُسمى بدول الاعتدال بالانحياز للسلام بالمقاسات الأمريكية الإسرائيلية يعني آليا فتح الباب لظهور حركات رفض وانتفاضات تنظيمية سرية تستمد وهجها الأديولوجي من خطاب لا يؤمن بغير السلاح، وفي سبيل ذلك فهي مستعدة للتحالف مع أي جهة تُقدم لها الدعم المالي والعسكري والسياسي.
ومن هنا دخلت إيران بكل ثقلها على الخط واتسع التشيّع السياسي وتهمّش تأثير قوى الاعتدال في المقاومات الفكرية والسياسية العربية، وآخر المعتدلين ستكون حماس الممزقة الآن بين اعتدال يضعها في مواجهة دول عربية تريد منها إلقاء السلاح والاعتراف بسلطة تابعة تلعب دور الوكيل الإسرائيلي في تعقب المقاومين ونزع سلاحهم وتقديم قوائم فيهم عبر التنسيق الأمني الناشط جدا بواسطة الجنرال دايتون، وبين إصرارها على الاستمرار في نهج المقاومة الذي حقق لها الشعبية الكاسحة، وخاصة كونه معطى مركزيا في أرضيتها الفكرية والفقهية لا تكون بدونه أو خارجه وأي تراجع عنه أو تلكّؤ، فستشهد الحركة انشقاقات وسيتشكل على أنقاضها تنظيم أو تنظيمات جديدة تؤمن بالخيار المسلح فقط.
وليس خافيا أن حزب الله قوي وصار صاحب الشعبية الأولى والأعلى لأنه حزب مقاوم وبراغماتي ويقيم الحجة على خصومه في الداخل اللبناني والعربي، والحرب الهادفة إلى إسقاطه في انتخابات اليوم تزيد من حظوظه وتُغري الشارع اللبناني بأن يصوت له حتى وإنْ اختلف معه طائفيا ومذهبيا وسياسيا.
المفارقة أن إيران تكسب تعاطف العرب من خلال فعل نوعي في لبنان ودعم سخي للفلسطينيين، فيما نحن نحارب تأثيرها ودورها بالتآمر على المقاومات وفرض الحصار على غزة ودفع حماس إلى أن تسلك طريق فتح وتبدأ التنازلات تباعا، فأي حرب وأي مقاسات وآيات تفكير؟
إننا وإنْ كنّا نختلف كثيرا مع إيران وسياساتها في المنطقة وخاصة مقاربتها الأيديولوجية التي تلغي الاختلاف والتعدد، فإننا نؤمن بأن العرب محتاجون فعلا إلى إعادة قراءة تحالفاتهم الراهنة والاتجاه بها شرقا نحو إيران وباكستان وتركيا لتكوين حلف استراتيجي إسلامي واسع في مواجهة "يهودية الدولية" التي قد تصير يوما يهودية "إسرائيل الكبرى"، أي يهودية الشرق الأوسط الجديد، وبيننا وبين إيران وتركيا مشترك إسلامي يمكن تثويره وتهذيبه وتحويله إلى فضاء للمصلحة المشتركة.
التعليقات (0)