من ذاكرة المقاعد الدراسية
مرض النوستلوجيا او الحنين الى الماضي الذي لا يكاد الا ويصيبُ كل شخص شرقي على وجه المعمورة ، ويؤكد المختصين بأن اصابة الشرقيين به ناتجة لكون الشرق هو منبع الثقافة والادب والفلسفة والاديان والتي هي من الاسباب الرئيسية لعمل العقل الباطن بتراكمات الذاكرة بتقلباتها وانكساراتها ونجاحاتها واخفاقاتها ، والشخص العراقي جزءاً من تلك البيئة لذا نراه شديد التعلق بالماضي لدرجة انه يقارن معظم مسيرته واوقاته المفرحة والمحزنة بالماضي بقوله للمثل الدارج " وين ايام كبل .....وين ايام هسا " فنجد مثالاً ان جيل من مَن عاصروا الخمسينات من القرن الماضي يخبرون جيل الستينات عن الهدوء والسكينة والبساطة التي عاشوها متناسين العوز والجهل والمرض الذي كان متفشياً بينهم ، اما جيل الستينات فيخبرون جيل السبعينات عن الثورة الصناعية والزراعية التي حدثت بينهم وصدق النوايا في تطبيق الاشتراكية على كافة مناحي الحياة متناسين الانقلابات العسكرية ومشانق الاعدام التي غيرت فيما بعد جميع القيم والاسس التي نشىء عليه الفرد في تلك البقعة من الارض ، جيل السبعينات كان يخبر بكل فخر جيل الثمانينات بان اليونسكو قارنت الدراسة في البلد في زمنهم ووازته بمستوى الدراسة في الدولة الاسكندنافية وتناسى هذا الجيل بان ذلك العقد ايضاً كان جيل التصفيات السياسية والمحاكمات الوهمية وجيل التمهيد لبناء دولة الحزب الواحد ، جيل الثمانينات كان يخبر وبحسرة جيل التسعينات بأنهم كانوا يلبسون الثياب المستوردة ويشبعون اكلاً صحياً وينعمون بكهرباء مستمرة الا انهم تناسوا ان تعداد جيلهم القليل ناتج من نيران الحروب العبثية التي دخلوها كحطب لها ، جيل التسعينات يخبر الجيل الحالي بأنهم كانوا لا يعرفون معنى كلمة الارهاب والتفخيخ والعبوات اللاصقة والناسفة الا انهم تناسوا ان الجوع والذل و الفقر الذي واجهوه بسبب الحصار الاقتصادي لا يقارن بأي معانات مشابهة على الارض.
وانا قطرةٌ من هذا البحر اتذكر كما يستذكر الجميع وبذاكرة المغترب اشياء اتصورها هامشية في خزينة ذاكرتي المليئة بألاف الصور وتطالب ان اترجم ولو بعض منها على الورق ، اجدها هامشية لانها لا تتجاوز الثواني في سردها الشفهي لدرجة انها لا تستحق السرد لكن الغريب انها تبقى عالقة في مكان اجهله في الذاكرة ، جمعت اليوم ابسطها في نظري ومن مقاعد الدراسة وسأبدء حسب التسلسل الزمني للوقائع عسى ان تتعلق بعضاً من قصص بسيطة اخرى في ذاكرتي لحلقات اخرى :
1
يشاركني التذمر صديقي مراد لكوننا ورغم شطارتنا في الدرس الا ان المعلمة اختارت لنا المقعد الثاني في الصف من جهة اليسار قرب النافذة وتتقدمانَ كل من سارة وحزنة في المقعد الاول ,لا اخفي ان الطفلتان شاطرتان في الدرس وصغيرتا البنية مثلنا الا انه من المفترض كما نستوعبه اننا يجب ان نكونَ على المقعد الاول ( الرحلة الاولى ) لاننا ذكور !.
لم تسعفنا لغتنا العربية بمبادرة معلمتنا (باسمة جاسم بليش ) في الانتقال الى المقعد الاول ولم يكن من السهولة اقناع التلميذتان ترك المقعد الاول لهيبته الا ان خطتنا المرسومة قد تنجح لو اتـقنا التطبيق ، وبالفعل بدت بوادر النجاح حينما طلبت المعلمة كتابة حرف الباء على السبورة فتطوعتُ كأول مشارك بعد عشرات الصيحات التي تصرخ " ست ,ست , ست" وكتبتُ حرف الباء بتفنن بعد جهد جهيد لأحصل على حصتي من السكاكر وكانت عبارة عن مصاصة والتي بواسطتها سأبدء الخطة ، حال جلوسي على مقعدي جاملني صديقي مراد بالقول : " والله اجمل ب شفته بحياتي " مشيرا بأصبعه على حرف الباء المكتوب على السبورة ، نزعة الغرور بدت علي عندما بداتُ امضغ المصاصة بعد ان قضمت جزءاً صغيراً منها ولأستغل لحظة انشغال المعلمة بالتلاميذ وادس ما تبقى من المصاصة بدبقها بين شعر سارة الاسود كتهديد اولي بان المقعد الاول لايناسبها!.
لم تمضي دقائق معدودة وتكشف سارة المسكينة فعلتي لتبكي وتشكي لصديقتها حزنة ، انتبهت المعلمة للحادثة فشرحت حزنة على الفورالموقف الحاصل مع صديقتها ،الغريب انني بكل براءة الاطفال وسذاجتهم انكرت الفعلة علما انني الوحيد الحاصل على الحلويات الى لحظتها !.
بحكمة الكبار لم تعاقبني معلمتنا الطيبة بل قامت بتحويل سارة وحزنة الى الطرف الاخر من الصف وعلى المقعد الاول ايضاً وجعلني مع مراد في المقعد الاول كما كنا نبتغي.
الطريف انه وبعد مرور اشهر على السنة الدراسية كنا نشكي لبعضنا البعض ( انا وزميلي مراد ) بأن المقعد الاول في الطرف الايمن افضل من من مقعدنا لان تلك الزاوية من الصف لا تتأثر بانعكاس ضوء الشمس على السبورة !.
2
كنت سعيداً للغاية حينما رايت والدي لاول مرة بملابس غير عسكرية اذ تسرح للتو واصبح معلما في المدرسة التي اتعلم فيها والاسعد انه دخل الى صفي دون معرفة سابقة لي بالامر وما ان دخل حتى بدءَ بكتابة " التوعية الوطنية " والتي تكون عادة عبارة عن انتصارات الجيش العراقي في الحرب مع ايران دون خسائر طبعا ، كتبها في احد الزوايا الصغيرة للسبورة في وقت كان كل التلاميذ ينظرون الي ويشيرون بحركات دلالة على التهنئة والفرح وكنت ارد بأبتسامات الواثق لدرجة ان رفيقي في المقعد ( خلف شرف ) كان يرد على اسئلة البعض منهم لكثرتهم ويجاوبهم بالقول " نعم نعم اكيد انه هو والد صلاح " ، لم تنتهي التساؤلات والحركات الى ان انهى والدي كتابة ملاحظاته على السبورة والتفت الى التلاميذ ومن ثم تقدم نحوي ليطلب مني ان افتح يدي لعصاته الرفيعة التي كان يحملها ، نهضت بأستغراب وكـُرمت للمرة الاولى في حياتي الدراسية بأربع مساطر ضربا .
في الحقيقة كانت المساطر الاربعة مؤلمة للغاية لكنها كانت كفيلة لعودة الهدوء الى الصف ونهاية لتوزيعي للابتسامات المجانية على زملائي التلاميذ.
بالعودة الى ورقة اليوم فأني قد بعثت المقالة لأحد اصدقائي ليعطيني رأيه بالمقالة قبل النشر فبعث لي الرد مختصراً بعدها بأيام قليلة بالقول " وين مقالاتك كبل ...وين مقالاتك هسا " !.
وللذاكرة قصصٌ اخرى .
صلاح حسن رفو
التعليقات (0)