ظهر الانزعاج على وجه اندرياس عندما طالت المسافة في البحث والجلوس على كرسياً لمقهى لأدعوه لفنجان قهوة في مركزالمدينة كما عاهدته ، اذ انني ومنذ اكثر من نصف ساعة اتجول امام بعض المتسوولين والتقط لهم الصور وهم يغنون ويمثلون ، فأشهرهم برايي هو ذلك الشاب الذي يتزين بملابس الهنود الحمر ويعزف بشجن بالغ موسيقاهم (خرجت هذه الموسيقى من اطارها المحلي بعد نجاح موسيقى فيلم اخر رجال الموهيكانز) اذ يملك هذا الشاب بعض الادوات الخشبية البدائية الغريبة ويستخرج منها اصواتاً والحاناً تشد الناظرين وتسعدهم فيدفعون له بعض القطع المعدنية من السنتات واليورات ، وبمسافة ليست ببعيدة صورتُ شاباً وقد صبغ وجهه بألوان شبيهة بالنحاس وقد ارتدى ملابس غريبة بنفس الالوان يظهر للمتلقي بأنه تمثالٌ معدني موضوع على قارعة الطريق وما ان ترمي له بعض النقود حتى يقوم بحركة بطيئة بيده دلالة على شكره لك ، وليس ببعيد عن هذا الشاب تسمع احدهم صادح الصوت بأغاني كلاسيكية باللغة الايطالية مع الة الاكورديون ليجلب اكبر عدد من المستمعين ليحصل على رضا بعضهم ويحصل على قليل من المال.
هذا المنظر يكاد يتكرر في مركز معظم المدن الالمانية وهذا الذي ادى الى انفعال صديقي وسؤاله لي : آلم ترى في حياتك متسولين لتلتقط صوراً لهؤلاء ؟! .
لم اكن اريد لحظتها ان اشرح لصديقي بانني توارثتُ حب الموسيقى لدرجة التقديس وتوارث جاري كرهها لدرجة التحريم
فأجبت مباشراً: بالتاكيد رايت الكثيرين منهم ولكن متسولينا يختلفون كثيرا عن متسوليكم !.
الفضول يجعل المرء يقع في فخ السؤال دائماً وهذا العامل جعل اندرياس يسألني : وكيف هم المتسولين لديكم ؟
_(اوووه ) الجواب على هذا السؤال متشعب نوعا ما ، فأستطيع القول بأن التسول هو ارث حضاري لدينا او يمكنني القول بأننا عبارة عن شعب متسول ، وللتسول لدينا انواع واشكال مختلفة فمثالاً ليس غريباً ان ترى معظم خريجي الكليات والمعاهد يتسولون على باب اغلب البنايات الحكومية على شكل طوابير ليحصلوا على فرصة عمل علما ان المسؤول عن تعيينهم على الاغلب يكون شخصاً امياً او حاصلاً على شهادة مزورة .
اندرياس (وقد ارخى عضلات فكه السفلى ممتعضاً)_ آتمزحُ معي ...هل يعقل هذا ؟!
_ نعم ، ليس هذا فحسب بل انك قد تجد شخصاً يستجدي عطفاً من دوائر الرعاية الاجتماعية للحصول على راتب تقاعدي بحجة انه اعرج لكونه اصيب في المواجهة الفلانية برجله دفاعاً عن الوطن او القضية وتراهُ في نفس الوقت متطوعاً كجندي او ضابط في الفوج التابع لقوات التدخل السريع.
اندرياس_ رغم نية هذا الشخص الصادق في ان يكون عنصراً مهماً في الدفاع عن الوطن لكن قد يكون هذا سبباً في عدم استتباب الامن في بلادك .
_حقيقة انت تفكر بشكل جيد لكن دعني اكمل لك ، هناك الكثيرين من ابناء منطقتي يتسولون على ابواب الاحزاب بكل فخر لانها اصبحت مهنة تدر الكثير من المال دون تعب فالمرء لا يحتاج سوى ان يكتب سيرة ذاتية مستنسخة من سيرة جاره عن نضاله في الجبل (علماً ان الاخير ايضاً لم يبرح التلة القريبة من منزله ) وان يختمها بأسماء الشهود من رفاقه المناضلين ويفـُضل ان لا يكونون على قيد الحياة لكون اذاغضب احدهم منه وهم يلعبون( الدومينو) سوف يوشي عليه ، كذلك يجب عليه الوقوف في طابور الانتظار ، والنقطة الاهم ان يغلف اوراق ملفه باللون الاصفر.
اندرياس مقاطعاً _ وماعلاقة الغلاف الاصفر بالمسالة؟
_لاتقاطعني ارجوك فكما هناك غلافٌ اصفر هناك غلافٌ اخضر ايضاً اذ لدي قريب كـتبَ في سيرته النضالية بانه كان ينقل البريد للحزب منذ اكثر من ( 45 )سنة واغلف الملف باللون الاخضر وحصل على مبتغاه من المال .
اندرياس _ وما الغريب في الامر؟!
_ الغريب ان الحزب لم يكن قد تأسس قبل (45) سنة!.
اندرياس(وقد مل )_ لقد اتعبتني بحوارك ، هل ستطلب لي القهوة ام ارحل ؟
_ها نحن قد وصلنا الى المقهى وهذه فرصة ان احدثك ونحن نشرب القهوة عن ملة يستجدي كل مثقفيها ومسؤوليها وكل رموزها الاجتماعية والدينية من اجل وزارة شكلية.
اندرياس(مندهشاً ) _ وهل لديكم وزارات شكلية ايضا ؟..وماذا تقصد بالتسول الوزاري ؟
_بالتأكيد سأشرح تفاصيل القصة لك الان.......
هنا نظر اندرياس الى ساعته ونهض ساخطاً وغادرني خاتماً للحوار بالقول : لقد تأخرت على موعد قطاري ولا اريد قهوتك ....لا اريد قهوتك، وسأدفع حسابك ايضاً ايها المتــــ....س.......ول !
_ماذا قلت ؟
اندرياس _ لا شيء....... لاشيء......الى اللقاء .
صلاح حسن رفو
التعليقات (0)