الاحساس بالراحة الحقيقية و الرضا في خضم هذه الحياة الصاخبة المعقدة المتعبة، هو أمر أقل مايقل عنه"بعيد المنال" رغم ان نفر من الذين يأخذهم التشاؤم بعيدا جدا يصرون على أنه"من سابع المستحيلات".
الضجر و السأم و الاحساس بالاحباط و الکآبة يحيط الانسان کدائرة محکمة الاغلاق ولامنفذ منها سوى الاسوأ، وأحيانا يجد او يصنع الانسان لنفسه ثمة عالم و يتصوره مثاليا او على الاقل مناسب و مريح له، لکن هذا العالم الوردي سرعان ماتمزقه أشواك واقع فج ليعيده قسرا الى آجم التعاسة و الملل و عندها يردد بأسى و لوعة: أن عمر الاوقات السعيدة أقصر من القصير!
وليس من باب المصادفة أن تحظى کتابات المتشائمين بإهتمام غير عادي من جانب الناس من مختلف الطينات و الشرائح، الشاعر الکبير أبو العلاء المعري الذي رافقه التشاؤم طوال عمره و أختتم حياته بالوصية أن يکتب على قبره: هذا ماجناه علي أبي ولم أجن على أحد! أما شوبنهاور فقد کان يومئ الى کلبه قائلا: هذا شوبنهاور الکبير! و في رواية"الجحيم" لهنري باربوس والذي بالامکان أعتبارها من أبدع ماکتبته الانامل الانسانية عن حالة التشاؤم و الاحساس بالضجر و السأم، فإن بطل الرواية يلجأ الى غرفته في الفندق ليغلق الباب على نفسه و يخلق عالما محدد الابعاد أفقه الوحيد هو فتحة الباب التي من خلالها يرى الحياة و تفاصيلها المختلفة عندما يجعل من مراقبته لمجريات الامور من خلال ثقب الباب حلقة التواصل الوحيدة بينه و بين الحياة، لکن فرانز کافکا يمضي أبعد من باربوس عندما يضع القارئ أمام حالة غريبة جدا بالتحول الغريب لبطل الرواية ومنذ البداية الى حشرة کريهة ضخمة، وکأن کافکا يريد القول بأن لامناص من السأم و الضجر وان قدر الانسان يکمن في رضوخه غير المشروط لکابوس الحياة من دون أدنى مقاومة وتعرض ماهيته الانسانية للتشوه.
الضجر و السأم و التشاؤم بعينه قد يأتيك في صورة ضيف ثقيل او عمل إجباري او زواج فاشل لامناص من المضي قدما به إکراما لمبدأ"العيب"، أو في عدم الموفقية بنيل ثمة أمور کان المرء يحلـم بها، او قد يطل عليك في إحساس إنطوئي غريب ينازعك في أعماقك و يشعرك بالوحدانية والاخفاق في التواصل مع الوسط الاجتماعي لأسباب کثيرة أهمها إفتقادك لثمة رابط او روابط ضرورية معهم، لکن، قوة الاحساس بالضجر و السأم و الکئابة قد تتفاوت من حالة لأخرى او من انسان لآخر، غير أنها وفي کل الاحوال إحساس ثقيل يکاد أن يکون في العديد من الاحيان بقوة الکابوس.
"من کان قد تشوه
أو کان يموت بطيئا...فليتقدم"
کلمات وجيزة للشاعر الکبير مظفر النواب، لکنها معبرة جدا بمعانيها الانسانية المجسدة لروح و جوهر حقيقة و ماهية الوجود الانساني، ذلك أن الدوائر المغلقة"أيا کانت"، والتي تحاصر الذات الانسانية و تمنع نقاء و صفاء الحياة عنه، تدفع الانسان لدفع ضريبة باهضة جدا على حساب جوده و حياته ذاتها، ضريبة يتنازل بموجبها و رغم أنف عن الکثير من ماهيته و معدنه الانساني ليعيش الحياة وفق مايجب وليس وفق مايرغب او يتمنى!
التعليقات (0)