انهيار الامن الفكري!:
منذ انتهاء الحرب الباردة عام 1990 انهار الستار بين القطبين وتحول العالم الى قرية صغيرة تلاشت فيها الحدود والقيود المفروضة... اصبح الامن الفكري مهددا بالانهيار بعد ان كان محاطا بستار حديدي بسبب الثورة التكنولوجية الهائلة والتي كانت من ابرز مظاهرها هو ثورة الاتصالات وبخاصة الانترنت التي لا تعترف بالحدود الدولية وتعقيداتها واجراءات الدول الحمائية!.
الامن الفكري: هو القيود الامنية المفروضة على العقول ويمنع عنها كل روافد الثقافة المتعددة ماعدا الفكر والسلوك المنهجي الذي تعتقد به الانظمة واجهزتها الامنية الذي يلائم طريقها في الحكم،وكل ما يخالف تلك المنظومة الفكرية السائدة هو كسر لجدران الامن الفكري ذو البعد الواحد والذي هو جزء من منظومة الامن القومي المتشعبة حسب ذلك الرأي الهزيل الذي يمليه اعمدة الاستبداد والتقليد المشوه في العالم!.
لقد كانت عملية مسخ وتشويه العقول والطبائع والقلوب واعادة قولبتها قسريا من خلال جعلها تابعة للسلطة هي اكبر مهمة في التاريخ واكثرها اهمية لما لها من تأثير بالغ على ديمومة الحكم وجعله اكثر سهولة من خلال خلق اجيال جديدة لا ترى من المناهج الفكرية المتعددة الابعاد سوى منهج السلطة دون الاهتمام بتحليله ضمن وسائل العلم المختلفة وعليها بالتالي اتباعه دون رؤية المناهج الفكرية الاخرى التي تكون غالبا اقوى وامتن في المقدمات والادلة والبراهين والنتائج!...فالخوف من الاخر وبخاصة من فكره التنظيري هو دلالة على هزيمة اولية كبيرة ومقدمة لضعف معرفي واخلاقي ظاهرين،والنتائج سوف تكون بالتالي مرعبة وتؤسس لمرحلة انهيار فعلي لا يمكن الخلاص منها الا بنهضة كبرى تبذل لاجلها الارواح!.
ارهاب فكري وليس امن فكري!
حذر خبراء الامن ومنظريه في العالم العربي قبل فترة طويلة من اندلاع موجة الثورات المعاصرة في عام 2011،من تهاوي نظرية الامن الفكري التي يعتقدون بأهميتها البالغة! وكان لدى البعض املا في ان يوقفوا زحف الافكار والقيم الجديدة التي شاعت بسرعة في تلك المجتمعات المغلقة خارجيا وداخليا! ولكن المفاجأة الكبرى كانت في انهيار نظامين كانا من اقوى تلك الانظمة اعتقادا وتطبيقا للامن الفكري واكثرها حرصا على استمراريته.
مهما كانت درجة المراقبة والاجراءات العقابية المرادفة لها فأن مصيرها الانهيار الحتمي تحت ضربات التقدم العلمي المتغلغلة التي اختصرت العالم وجعلته يعيش في بوتقة واحدة،بالرغم من ضخامة الميزانيات المخصصة لها!... واكثر الانظمة انعزالية وقمعا مثل انظمة كوريا الشمالية وكوبا وبقية الانظمة العربية ليست مطلقا النجاة من المصير المحتوم في الانهيار التام،ففي النهاية تنتصر الافكار الحرة او المستمدة من المجتمع على ما سواها من الافكار المفروضة والدخيلة!.
لقد كانت الرقابة والخطاب الدعائي سائدا ومستغلا للتطور الا ان تسارع وتيرة النمو المخترقة لحواجز الحدود قد جعل مهمتها مستحيلة وحول نظرية الامن الفكري الى مجرد ماض اسود لا يمكن الرجوع اليه،والاحداث المأسوية المنقولة مرئيا او صوتيا في العالم العربي قد حركت الشعوب المجاورة للبحث عن وسيلة خلاص تنقذها من الظرف الطارئ الذي اصبح دائما!.
وسائل الاعلام والثورات ساعدت على تبني خطابات متعددة غالبا تكون مخالفة للموجود،وحالة الحرية الان في تونس ومصر على سبيل المثال ساعدت على نشر التراث الضخم المخالف للسلطة السابقة،واكيد ان النتائج سوف تكون مذهلة بسبب العطش الطويل الامد لكل المعلومات الجديدة في مختلف الحقول المعرفية وبخاصة الرغبة في تفعيل الارادة الحرة!.
ان الانسان ليس عبدا حتى يقام عليه حجر فكري يحدد له منهج وسلوك مقيد وغير سوي قد يختلف عما يعتبر انه الاقرب لمنهج انسان سوي ومتحضر...كلا فهو مخير ولا يجب عليه جبر الاخر في اختياره...من هنا فأن نظريات الامن الفكري التي طرحها بعض مثقفي السلطة للبحث عن ادوات منهجية وعملية جديدة لمواجهة اي اختراق فكري ممكن ان يأتي من خارج حدود السيطرة السياسية ويهدد هيمنة الفكر الواحد سوف لن توقف الزحف الحضاري المتعدد الابعاد عن الهيمنة المفتوحة!.
الانفتاح الملزم للجميع سوف يؤدي في النهاية الى ازاحة كل فكر او منهج تسلطي يخالف الفطرة الانسانية ورغباتها المشروعة،وسوف يؤدي الى تفاعل مختلف الثقافات في بوتقة جديدة خالية من العنف ومؤسسة لمرحلة جديدة.
قد يخاف البعض من هيمنة فكر او منهج يتعارض مع التقاليد والعادات والقيم المتوارثة،وقد يكون ذلك صحيحا ولو جزئيا،ولكن الواقع يقول ان ذلك مبرر ضعيف ولا قيمة له في فرض القيود المحددة سلفا،فالانسان الواعي او البيئة المنفتحة هي اقل تأثرا وابعدها عن الطريق القويم من الانسان الجاهل والبيئة المغلقة!...بل الوقائع التجريبية اثبتت ان الجزء الثاني من العبارة السابقة هم الاقرب للتقليد التدميري الجاهل والاسهل في ترك الموروثات حتى وان كانت صحيحة! لا بل الاكثر تغريبا وضياعا من انسان البيئة المنفتحة!.
لا تستطيع ثقافة ما ان تلغي هوية شعبا ما وان تمسخ شخصيته بأسلوب ديمقراطي حقيقي...نعم قد تشذ مجموعات ما بفعل التقليد الاعمى الغير واعي ولكن الغالب عند الاغلبية هو بقاء القيم والتقاليد واستيعابهما للمستحدثات الجديدة.
ربط الامن الفكري!
الامن الفكري لا يختص بمنهج فكري او سياسي محدد،بل هو يستخدم من جميع القوى السياسية المنفردة والمتسلطة!...فيمكن ان نرى كمثال على حالة العالم العربي،ان الامن الفكري هو طاغ في ارهابه الفوقي عند بعض دول الخليج وفي نفس الوقت عند دول اكثر انفتاحا من ناحية فرض القيم التغريبية مثل تونس ومصر وسوريا! وعليه فأن ربط الارهاب الفكري هو خطأ شائع لدى الكثيرين ممن يتغافلون عن قيمهم الذاتية ويركزون على خطايا وعيوب الاخر المنافس والقريب!.
الارهاب الفكري والامن الفكري المزيف ضعف كثيرا بعد ان كان شائعا لدى اغلب بقاع الارض في حقبه الزمنية المتعارضة! ومنذ تحول العديد من دول العالم الى المنهج الديمقراطي الحر الذي يفرض التقيد بشروطه الموضوعية، فأن خطر الامن الفكري المظلم قد زال بزوال اسبابه وقد يأتي يوم تصبح فيه نظريات الامن الفكري المرعبة شاذة في القبول والعمل بعد ان كانت سائدة وهي دلالة على تقدم البشر بالرغم من الخسائر الفادحة التي تقع في صفوف طلاب الحرية والعدالة!.
الحياة السوية تفرض على الجميع ان يتسلحوا بأسلحة الوعي من العلم والعقيدة والسلوك الانساني المتحضر بغية مواجهة قوى الشر والعدوان وفرض القواعد السلوكية الاحادية التي تظهر عيوبها بسرعة بسبب تركز العيون على اقتناص الفرص لفرض ارائها!.
لقد انهار جدار الخوف والرعب ومعه انهارت جدران الامن الفكري وارهابه المستمد من طبيعته الدموية الصلبة!...ومع الانهيار سوف تكون الحياة اكثر سهولة ويسر من السابق الذي اصبح ملاذا آمنا لكافة القوى الارهابية،وسوف يكون العالم اكثر وحدة وتراصا في مواجهة المشاكل الكونية والتي لا تحصى ولا تعد بعد ان كان التركيز على الصراعات الجانبية والتي كان جزءا منها قد خرج من عباءة الامن الفكري المزيف!.
طوبى للاحرار في كل مكان وزمان!.
التعليقات (0)