سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهم الأسس التى وضعها، وبنى قوام إخوانه وأصحابه الكرام عليها، هو نبذ العصبية، لأن العرب فى زمانه وأوانه صلوات ربى وسلامه عليه، كان أهم ما يحرصون عليه العصبية القبلية – ابن عمى، وأخى ، وابن أخى – وهذا كان أهم شئٍٍ عندهم. وكان صلى الله عليه وسلم - أخذها بالتدريج – جعل الأخوة هى الأخوة فى الدين والإيمان، والعقيدة والأخلاق والمعاملات، } إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ { (10-الحجرات).
حتى أنه صلى الله عليه وسلم لما آخى بين المهاجرين والأنصار – وكان من غرائب نورانيته وشفافيته صلوات ربى وسلامه عليه هذه الؤاخاة – كانوا يتوارثون، الأخ المهاجر كان يرث فى أخيه الأنصارى، والأخ الأنصارى كان يرث فى أخيه المهاجر، إلى أن استقرت الأمور ونزل قول الله عزَّ وجلَّ: } وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ { (6-الأحزاب)، واستقرت الأخوة ولكن لا يتوارثون بعضهم البعض.
فأسس أحوال إخوانه أجمعين فى الله ولله عزَّ وجلَّ، حتى أنه بذاته الشريفة صلوات ربى وسلامه عليه – سيدنا على ابن عمه، وتربى فى بيت عمه، يعتبر أخاه، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لأم سيدنا على - السيدة فاطمة – يا أمى، بعد أمه، وكان يقول: ( فاطمة بنت أسد أمى بعد أمى)، ومع هذا لما جاء يؤاخى بين المهاجرين والأنصار - حتى يرفع نعرة العصبية – بعدما وزَّع جميع الأصحاب بعضهم مع بعض إخواناً، فتبقى سيدنا علىّ، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنت أخى فى الدنيا والآخرة)، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: (علىٌّ أخى فى الدنيا والآخرة).
آخى نفسه مع سيدنا علىّ، أما الأخوة فى النسب والحسب ليس لها شأن، والأخوة الآن هى أخوة الإيمان، وجعلها العمدة فى هذا الباب، فهى اللباب الذى يجمع الأحباب، لأن الله عزَّ وجلَّ عناها وخصَّها فى كل خطاب: } وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا { (103- آل عمران).
أخوة الرُّوح، وأخوة القلب، وأخوة النسب الإيمانى، وأخوة الدين، وأخوة العقيدة، لأنها الأخوة الباقية، لأنها أخوة فى الدنيا والآخرة، وكان صلى الله عليه وسلم يوصى أصحابه بأن يجعلوها هى الغاية، وتحكى كتب السير الأعاجيب، من ذلك أن سيدنا مصعب بن عمير رضى الله عنه فى غزوة بدر مر بأخيه، وكان اسمه أبا اليقظان أسيراً فى يد مسلم، فالتفت إلى أخيه المسلم وخاطبه بشأن أخيه بن أمه وأبيه غير المسلم، وقال له: استوثق بأسيرك هذا جيداً، فإن أمه غنية وستفديه بمال كثير، فلا تجعله يهرب، فقال له أخوه: أهذه وصيتك بأخيك؟ فقال له: أنت لست أخى، إنما هذا هو أخى، والإسلام فرق بيننا.
ما هذه الأحوال يا إخوانى!! وما هذا المُنى؟ هذا هو الإيمان. } لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ { (22- المجادلة).
لا يودون حتى أباءهم ولا إخوانهم ولا عشيرتهم إذا كانوا مخالفين له فى النهج والعقيدة التى جاء بها خير المرسلين صلى الله عليه وسلم. حتى أصحاب رسول الله عند سماعهم لهذه الآية طبقوها بكل عناية، سيدنا أبو بكر رضى الله عنه رأى ابنه عبد الرحمن فى صفوف الكافرين، فجرى خلفه، وابنه يهرب ، يجرى خلفه بالسيف وهو يهرب، فلما دخل فى الإسلام قال لأبيه: أنا فى غزوة بدر كنت أهرب منك، وأنت تريد أن تقتلنى؟ حتى يعلم الله عزَّ وجلَّ أنه ليس فى قلوبنا هوادة لمشرك.
وسيدنا عمر رضى الله عنه، بعد المعركة ما انتهت، وكان فى أيدى المسلمين سبعين أسيراً، فقال: يا رسول الله أعطى لكل واحد منا قريبه يقتله بيده، حتى نُعلم الله أنه ليس فى قلوبنا هوادة لغيره. ما هذه العقيدة – يا إخوانى؟ وفى يوم القيامة: } فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءلُونَ { (101-المؤمنون). وعندنا فى عرف الصالحين، وفى سلم المتقين، لايكون الرجل رجلاً حتى لا يكون فى نفسه هوادة لغير الله عزَّ وجلَّ.
إذا كان يريد أن يعطى قريبه بعطاء، أو أخاه بهبات، أو أحد أصحابه بجزاء، فلا ينفع فى عالم الصالحين، لأنه إذا كان سيقوم بهذه الأعمال فى عالم البوار، فما بالك عندما يقيموه أمين مخازن على كنز من كنوز الأنوار، أو على كنز من كنوز الأسرار!! هل يجوز أو يليق أن يعطى منها للأشرار أو الفجار أو الذين لا يستحقونها ولا يستطيعون الحفاظ عليها؟ إذاً فقد خان الرسالة والأمانة.
فلا بد من البداية، أن يرتب أمره أن ليس عندنا إلا الله ورسوله، لا يعطى عطاءً إلا لمن ميزه الله وأعطاه إلهاماً فى قلبه، يعلم به أن الله حباه على من سواه. الرجل الصالح الذى أدخل ابنه الخلوة، وأعطاه الأوراد، ولم يفتح الله عزَّ وجلَّ عليه، فأعطاه أوراداً أخرى، وفى النهاية قال له: يا بنى لو كان الفتح بيدى لكنت أنت أول مريد عندى فى الطريق، ولكن الفتح بيد الله يؤتيه من يشاء. } يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ { (74- آل عمران).
والرجل الذى يقيم ابنه مكانه ويعلم أن هناك من هو أعلى منه مقاماً، وأكثر منه خشية لله، يكون قد خان الأمانة. قال e: ( من ولى أمر المسلمين على رجل منهم وفيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله). من الذى يحمل الأمانة: } إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ { (13- الحجرات). ولذلك سيدى عبد القادر الجيلانى رضى الله عنه يقول: (وُلِدَ لى ثلاث عشرة ولداً، فما وُلِدَ لى واحدٌ منهم فاعلمونى، إلا وكبرت عليه أربع تكبيرات). يعنى يصلى عليه صلاة الجنازة، حتى لا يكون فى قلبه أى نصيب، ويؤثره به - وهو معيب – على قلب مطهر من الله عزَّ وجلَّ قريب.
هذا هو حال رجال الله الصالحين الذين هم على نهج سيِّد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم - رضى الله عنهم أجمعين. زوج ابنته وابن عمه وأشجع الصحابة وأثبتهم فى المواقف، لما جاء سيدنا العباس قبل الموت يقول يا رسول الله: خصنا بالأمر هذا فنحن عائلتك وأهلك، فقال له صلى الله عليه وسلم: (يا عباس يا عماه، إنها أمانة لا تستطيع القيام بهذه الأمانة). عمه!! كان بمثابة أبيه، ولكن هنا لا يكون التحيز، } وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى { (3، 4 - النجم).
وآخر اختبار يتعرض له الرجال قبل تمام العطاء، وأخذ الحظوة والنوال، يختبرونهم بمن لا يحبونه، ليروا ماذا سيفعل معهم؟ إذا منعهم حقوقهم، فلا يستطيع أن يثبت فى مقام الرجال. أنا أحبُّه أو لا أحبُّه، ليس له إلا حقُّه الذى صرح له به سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نزيد عن: } قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ { (55- يوسف)، يعنى أمين مخازن، وإذا لم يصرح له رئيس مجلس الإدارة بالصرف، هل يصح لأمين المخزن أن يتصرف؟ أو لا يعطيه أمين المخزن لأنه ليس بينه وبينه وُدّ؟ أبداً لايصح. ولكن أمين المخازن الإلهية، مخازن الأنوار، ومخازن الأسرار، ومخازن العلوم، ومخازن الفهوم، لابد أن يعطى كل واحد حقه، ولو كان بينه وبينه عتاب أو كذا أو كذا، فهذا لايؤثر.
الرجل الذى قتل الخطاب أبو سيدنا عمر، وعندما رآه سيدنا عمر قال له: أغرب عن وجهى فإنى أكره الكفر فى الإسلام، ولا أحب أن أراك، فقال: هل تمنعنى حقاً هو لى؟ قال: لا، قال: الحُبُّ والكُرْهُ من شأن النساء ولا يهمنى، المهم أننى سآخذ حقى. } يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ { (54- المائدة) لأن الرجل الذى يتعرض لهذا الفضل – كما حدث مع سادتنا الصالحين – لماذا تترك ابنك؟ ابنك أولى، أو لماذا تترك إخوتك؟ إخوتك أولى. أنا ليس لى شأن بإخوتى أو أبنائى، فإن أبنائى وإخوانى الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وابنه جاعلين له نصيب من حق الشرع ، من المأكل والمشرب والحقوق الشرعية، لكن البضاعة النورانية الإلهية لا تكون إلا بتزكية من خير البرية صلى الله عليه وسلم.
هل ينفع لإنسان أن يفتح توكيل دون الرجوع إلى رئيس مجلس الإدارة؟ لا بد أن يكون قد جاء بأوصاف الرجال طلاب الكمال، والذين يطمعون فى درجات الولاية وحظوات الأبدال. أول شئ عندهم ألا يخطر لهم ببال أن هذا قريب أو هذا نسيب، أو هذا حسيب، أو هذا حبيب، فيخصه بعطاء أو نصيب على حساب من عينه له الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وهذه الأخوة بتلكم الشروط التى عقدها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعلها هى الأخوة الباقية، وقال فيها عزَّ وجلّ: } وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ { (71- التوبة). هذه هى أحوال المؤمنين.
أنت واقف تبيع فى محل من المحلات، وجاء رجل يشترى وأنت تكرهه، لا تستطيع أن تقول له: لن أبيع لك أبداً ... لأنها ليست بضاعتك، أنت قائم على البضاعة، بائع تبيع لمن يتعرض لهذا ومعه الاستطاعة، ومعه المهر، ومعه المبلغ الذى يشترى به، ولكن كونه يحبك أو لا يحبك هذا أمر لا يعنيه، المهم عندى أن يحب الله ورسوله، وأنا لا أريد من الناس أن تحبنى أنا، ماذا يفعلون بى أنا؟ أو ماذا أعمل لهم أنا؟ أريد منهم أن يحبوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
لكن أنا لا أملك لنفسى نفعاً فضلاً عن نفع غيرى!! ولا أملك دفع الضر عن نفسى فكيف أدفعه عن غيرى؟!! أنا أريد أن يحبوا من؟ الله ورسوله، وإذا أحبوا الله ورسوله فهذا هناى وهذا مناى، وهذا الذى أبحث عنه، وأنا أبحث عن الذين يحبون الله ورسوله فى أى زمان وفى أى مكان، وإن كانوا على غير طريقتنا، فليس شرطاً أن يكونوا معنا فى الطريق، أو على مذهب الإمام مالك أو ابن حنبل، ولكن المهم انهم معنا فى المحبة، يحب الله ورسوله.
لأن المحب لله ورسوله إذا تعرض للإيذاء، فيعلن الله على من آذاه الحرب، يعنى الكرب. ومن منا يستطيع أن يعادى؟ (من عادى لى ولياً فقد آذنته بالحرب).
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجملنا بجمال رجال الله الصادقين، وأن يكملنا بكمال الأولياء المخلصين، وأن يجعلنا من الذين لا تشغلهم الدنيا عن الله ورسوله طرفة عين ولا أقل، وأن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى صراطه المستقيم، ومسلك حبيبه القويم، ونهج شرعه الحكيم.
التعليقات (0)