في بلد يتمتع بحد ادنى من الديموقراطية كلبنان، يحق لكل من الاكثرية والاقلية طرح ومطالبهما وشروطهما في تشكيل الحكومة، سواء في شكلها او صيغتها او توزيع حقائبها او اعداد بيانها الوزاري... وغير ذلك من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، لكن يحق في الوقت عينه للأكثرية الرابحة في الانتخابات ان تقبل او ترفض طروحات الاقلية، فهي التي فوضها جل الشعب اللبناني ادارة شؤون البلاد وفق المبادئ والثوابت والرؤى والشعارات التي منحها ثقته واصواته على اساسها.
فمن باب حرية ابداء الرأي، لمحور الاقلية ان يطالب بالثلث المعطل الظاهر او المضمر في الحكومة العتيدة؛ ويحق للعماد عون الذي ارتضى لنفسه لعب دور الواجهة التي يتلطى خلفها "حزب ولاية الفقيه" لانتزاع وفرض شروطه ومطالبه باسم "حقوق المسيحيين" وما هي بحقوق مسيحيين ولا شيىء، انما شروط محاور وبلدان تتعارض مصالحها ومصلحة الدولة اللبنانية... يحق للجنرال ان يطالب بخمس وزارات وبوزارة الداخلية والاتصالات بل والمال والعدل وسواها وبتوزير الراسبين كذلك... لابأس، كما يحق له رفع سقف مطالبه وشروطه اكثر من ذلك عندما يرى او يلحظ من الاكثرية تجاوبا او رضوخا او انكسارا امام ما يطلبه، فلا مانع من ابدائه الرغبة في الحصول على كافة الحقائب الوزارية والمناصب الرسمية بما فيها الرئاسات: الاولى والثانية والثالثة، هذا من حقه وحريته في نظامنا وان تنافى مع المنطق. وفي المقابل، هناك دستور يجب ان يطبق واعراف ينبغي ان تراعى وقوانين لا بد من فرضها وارادة ناخب يلزم احترامها، ولقوى الاكثرية حق رفض تلك المطالب المتعلقة بالحكومة العتيدة او الموافقة عليها، بمقتضى نتائج الانتخابات النيابية. اما نظرية المعارضة في "بقاء القديم على قدمه" في تشكيل الحكومة، فباطلة من اساسها، لأنها تكرس تسوية الدوحة الآنية على حساب اتفاق الطائف الدائم، بقيام حكومة وفق نتائج 7 ايار2008 وليس 7حزيران 2009.
لكن، هل فكرنا ما الذي يحول دون تشكيل الحكومة الى يومنا هذا بعد دخول مخاض ولادتها شهره الخامس، مع مضي اكثرمن130 يوما على تكليف النائب سعد الحريري زعيم الاكثرية النيابية تأليف حكومة ما بعد الانتخابات؟!
الجواب البديهي الذي سيطرق اذهان الجمهور السيادي الاستقلالي، هو ان من يحول دون تطبيق الديموقراطية وتشكيل الحكومة اللبنانية، هو محور الاقلية ممثلا بـ"حزب ولاية الفقيه" تحديدا، الذي يلمح باستخدام سلاحه مجددا في الداخل حال تشكيل حكومة اكثرية خالصة او حكومة لايوافق عليها، وذلك ابتداء من بروفة حوادث عائشة بكار الارهابية في 28 حزيران 2009 عشية بدء الرئيس المكلف استشاراته مع الكتل النيابية، وصولا الى قول احد قياديي الحزب انه: "في حال تشكيل حكومة اكثرية ستكون حبرا على ورق، هذا ان بقي لهم ورق"!!
لا شك ان تحميل الاقلية وقائدها "حزب ولاية الفقيه" مسؤولية ما يزيد على 130 يوما من الفراغ الحكومي، جواب واقعي ومنطقي، لا خلاف بين العقلاء على ذلك، لكن ينبغي ان لانغفل عن وجود محور ثالث فضلا عن محورَي الاقلية والاكثرية يتمثل برئيس الجمهورية، الذي يملك من الصلاحيات الدستورية ما يكفل حل تلك الازمة الحكومية التي يريد محور الاقلية تحويلها الى ازمة نظام، بعد نجاحه وامعانه في زعزعة دستور الطائف تمهيدا لاظهار قصوره وعدم صلاحيته لحكم البلاد وصولا الى استبداله بنظام ظلامي يتناسب وتوجهات المعارضة، وذلك من خلال قفل مجلس النواب قرابة السنتين، وتعطيل انتخاب رئيس للجمهورية ما يزيد على ستة اشهر، واليوم صوبوا سهام انقلابهم المتدحرج والمتدرج نحو الحكومة والرئاسة الثالثة بعد خمسة اشهر من عرقلة تأليفها.
ان الدور الذي يلعبه رئيس الجمهورية بات يُطمِع المعارضة في مزيد من العرقلة والتعطيل، بسبب اعراضه عن ممارسة صلاحياته التي منحه اياها الدستور، فضلا عن مواقفه وتصاريحه التي تسغلها الاقلية وتستثمرها بما يقوي منطقها التسلطي وشروطها التعجيزية!! ولنضرب على ذلك مثالين:
1- في 27 ايلول 2009، اكد الرئيس ميشال سليمان في حديث لصحيفة "الحياة"، انه "لا يعتقد ان هناك أي دور سوري او ايراني في العجز عن تشكيل حكومة لبنانية"! وأن السوريين "ليس لديهم النية بالعرقلة أبداً، وكذلك الأمر ليس لديهم النية بالتدخل بالشؤون الداخلية اللبنانية"! وعن توزير الراسبين، أكد سليمان أن "عدم توزير الراسبين ليس دستوراً، وإذا كان عُرفاً فقد خُرق مرات عدة، والمصلحة الوطنية هي الأجدر بالالتزام بها".
وقد لاحظت مصادر مطلعة عبر صحيفة "اللواء" في29/9/2009، "أن الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية من موضوع توزير الراسبين في الانتخابات، أدى الى حالة إرباك على صعيد استشارات الرئيس المكلف الذي فوجئ بهذا الموقف والذي أعلن من دون تنسيق مسبق، لكن الرئيس الحريري آثر عدم الرد عليه حرصاً على مسيرة التعاون مع رئيس الجمهورية". فقد شد هذا الموقف عصب المعارضة ودفعها الى مزيد من التصلب والعناد في مطالبها التسلطية، اذ يعد ذلك بمثابة اعطاء براءة ذمة لسوريا وايران عبر قوله انهما لايتدخلان في الشؤون اللبنانية، وفيه ما فيه من تجاهل لارادة الناخبين لناحية عدم ممانعته توزير الراسبين بحجة انه ليس عرفا.
2- وفي 27/10/2009، شدد الرئيس سليمان في حديث إلى صحيفة "الأخبار"، على أنه "لن يوقّع إلا حكومة وحدة وطنية ميثاقية، متوقعاً حصول ذلك قريباً جداً". وقد صب هذا التصريح ايضا في الاتجاه الذي يخدم اطماع المعارضة، وزاد من منسوب ابتزازها فريق الاكثرية.
ومع ابتداء تحول المراوحة الحكومية الى ازمة حكم، نرى ضرورة ان يحد رئيس الجمهورية من الخسائر، اي خسائره الشخصية كما الخسائر التي يواجهها لبنان، فيقرر لعب دور المنقذ للجمهورية ونظامها وان كان منطويا على بعض الاخطار، وذلك من خلال تخليه عن فائض الحذر الذي لديه واستعمال قلمه في التوقيع على مرسوم تشكيل حكومة تضع حدا لابتزاز حلفاء سوريا وايران، وتخرج لبنان من ازمته.
واذا كان متعذرا او ممنوعا علينا تطبيق ابسط قواعد الديموقراطية بالاستجابة لمطلب غالبية اللبنانيين الذي عبّر عنه البطريرك الماروني الذي لا يتكلم الا عندما يكون الوطن في خطر، بقوله نهاية الشهر الماضي: "فريق 14 آذار يجب أن يستلم الحكم بعد فوزه في الإنتخابات النيابية الأخيرة"، اي بتشكيله حكومة اكثرية، فلنتحول الى تشكيل حكومة اقطاب او تكنوقراط تراعي الحد الادنى من نتائج الانتخابات. وان توقيع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيل تلك الحكومة ليس انحيازا لفريق الاكثرية بحال، بل انحياز مطلق للجمهورية اللبنانية وانقاذ لنظامها الديموقراطي ودستورها المهددَين بالاغتيال، فمصلحة الوطن أهم من كل العائلات والأحزاب والتيارات.
عبدو شامي
التعليقات (0)