وأخيرا انفصل جنوب السودان عن شماله , صارت الدولة الواحدة دولتين . لقد وافق الجنوبيون بأغلبية ساحقة تقارب الاجماع عل خيار الانفصال , الأمر ليس راجعا الى شعور بالتهميش أو الغبن الاقتصادى أو الاختلاف العرقى فهذه أمور يمكن علاجها فى اطار التوافق الوطنى والولاء لخارطة الوطن , لا سيما أن التباين العرقى والدينى واللغوى موجود فى الكثير من دول العالم دون أن يؤدى ذلك الى التأثير على وحدة التراب الوطنى , والهند خير نموذج لذلك . الا أن بلادنا العربية منذ أن غزاها الاسلام السياسى فى أواخر القرن العشرين شهدت تغيرا غريبا فى معنى الولاءات , أصبح الولاء للدين يسبق الولاء للوطن أرضا وتراثا وتاريخا , وأصبح شركاء الوطن من أصحاب العقائد الأخرى مجبرين على الخضوع لتفسيرات القرون الوسطى لعقيدة غير عقيدتهم . ارتفعت فى السودان الصيحات بتطبيق الشريعة , وصار واضحا أن وحدة السودان مهددة بالخطر , وقال أحد أبرز قادته سنطبق الشريعة وليذهب الجنوب الى الجحيم , ولا أظن أن الجنوب هو الذى سيذهب الى الجحيم ولكنه ذاهب الى آفاق دولة عصرية حديثة تعلى من قيم المواطنة ولا تفرق بين الناس بسبب عقائدهم , وهذا يفسر دموع الفرح التى شاهدناها فى عين الجنوبيين وهم يحتفلون بيوم استقلالهم , ولا داعى لأن يحزن الشماليون لذلك , عليهم أن يسعدوا وينتشوا بصيحات التهليل والتكبير وهم يشاهدون سياط الجلد تنهال على جسد فتاة خرجت عن الشريعة لأنها كانت ترتدى المنطال أو وهم يسمعون أنين عامل اضطر لشرب الماء فى نهار رمضان تحت قسوة الحر والارهاق فانهال عليه الجلادون بسياط اقامة الحدود . نعم ان حرية الانسان تسبق الولاء للوطن , أنا أفتدى وطنى ووحدة أرضه بحياتى ولكنى لا أفتديه بحريتى وحقى فى الاختيار . من الممكن أن يكون الانسان مسلما متدينا وعلى علاقة وثيقة بخالقه دون أن يرغم غيره على اعتناق منهجه . وكثير من آيات القرآن تدلل على هذا التوجه - يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم ) , . ( ولو شاء ربك لآمن من فى الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونا مؤمنين ) الى غير ذلك من الآيات التى تحمل نفس المعنى . لقد كان الشعراء يتغزلون فى الخمر أيام كانت الدولة الاسلامية فى عنفوانها فى العصر العباسى . ولكن حين تعجز الشعوب عن تحديات حاضرها ويغيم أمامها المستقبل فانها تلجأ الى الماضى وتستدعى أشد تفسيرات النصوص تعنتا . اننى اذكر ذلك وأوجهه لهؤلاء الذين خرجوا يزاحمون شباب الثورة فى ميدان التحرير مطالبين بالدولة الدينية لأنهم يلعبون بوحدة الوطن ويعرضون أمنه ومستقبله لأفدح الأخطار
التعليقات (0)