- تقول الحكاية..
في حلم،ٍ رأى الحكيم الصيني "تشوانغ تسو" [ق3 ق.م.] أنه صار فراشة، فيما الفراشة صارت تشوانغ تسو نفسه.. ! وحين استيقظ لم يدر أهو فراشة تحلم أنها تشوانغ تسو، أم هو تشوانغ تسو الذي يحلم أنه فراشة.. وفي كل الأحوال فإن هذا التحول (من أو إلى الفراشة ) يقرأ فيه الناقد "جيمس ليو" (رؤية وجودية تشير إلى أن "كل شيء هو كل شيء آخر") . وأجد أنها بالضبط ما سعى لتأسيسه "كريشنامورتي" وجماعات اللاعنف في العالم: "النفي المطلق هو جوهر الإيجاب" .
والحق أن بوابة النفي تنفتح على الرحيل وبالرحيل، وتنتهي بكشف. ولأن الكشف انفتاح على العوالم الخفية، وعلى الآخر، واكتشاف للأنا في نهاية المطاف، فإن النفي بالتالي رحيل نحو الأنا، تماما مثل حكاية الأبجدية في التصوف: أول الحروف الهاء، وآخرها الواو.. وبينهما رحلة نحو الآخر.. نحو الــ "هُوَ"، أي نحو المختلف ومن ثمة نحو سلّم حضاري أساسه الاتصال الذي لن يكون إلا معبرا لوجوهنا (ووجودنا) في وجوه (ووجود) الآخرين.
هنا.. وهنا فقط محراب الابداع وغاياته ورسالته العليا: الانخراط في الهم العام.
إن ما يعيشه العالم اليوم يدعو لأكثر من توقف. وإذ نودع سنة ونستقبل سنة، فإننا –فيما يشبه طقسا جماعيا قديما- نتأمل أنفسنا، ونتأمل محيطنا، ونتأمل عالمنا وحركيته في حركية الفلك في السماء منذ ملايين السنين، ونتذكر السيد كابرييل ماركيز حين يقول: (منذ ظهور الحياة المعروفة على الأرض، يجب أن تكون قد مرت 180 مليون سنة لخلق وردة بلا أي التزام آخر غير الروعة.. والموت من أجل الحب...).
إيْ يا ماركيز.. ها قد مرّت أكثر من ثلاثمائة مليون سنة على الأرض ولا يستطيع إنسان بعد أن يغني أو يعانق.. ومازال الانسان يموت فقط لأنه ينتمي لوطنه ويحبه ويضمه إلى صدره كل يوم..
قال السارد:
" أقبلا...
كل واحد من الاتجاه المقابل للآخر..
و كل واحد يحمل جرابا...
[...]
اقتربا ..
أخرج كل واحد يده...
كانت الرصاصة أسرعَ من كسرة الخبز..."
إن العنف اليومي الذي نعيشه اليوم هو نتاج "حضاري !!" لثقافة يتم توزيعها في العالم، ويمتصها الجميع، ليتم تحويلها –رغم أنف الهوية والاسلاف.. ورغم أنف الثقافة والذات- لإنتاج وإعادة إنتاج الرأسمال السائد، سواء بمنطق ردة الفعل اللحظية، أو بمنطق التقليد والامتصاص. حتى صارت الرصاصة في كل مناطق العالم أسرع من كسرة الخبز في زمن تناسلت فيه المنظمات والجمعيات والهيئات المناهضة للعنف والمنادية بالسلام والحوار والألوان الخضراء؛ وفي زمن تتدفق فيه المعاهدات والتواقيع واللقاءات من أجل الحوار والتواصل الحقيقي فيما يشبه إسهالا رمزيا لحضارة مريضة ينتجها كائن مريض لم يرق بعد لتعمير العالم.. كائن يعيش ازدواجا فكريا، وبالتالي ازدواجا وجوديا، فلا يثبت على حال وكأنما "عبدالنور" ومقابله النائم على الدوام يتلازمان فيه .
انه ازدواج العنف والسلام فينا وفي هذا العالم البشع.. وهو في الوقت الواحد يقظة الوحش والانسان معا، ويقظة الدمار وانطلاق النشيد في لوحة لا يفهمها في هذا العالم أحد، لوحة ذاك الذي "هكذا، دون سابق تفكير،حطم مزهرتين، و صحن " طاووس"، و مزق صورتها، ركل بقدميه اللاشيء وهو يصرخ ملء حنجرته... [و]فجأة، توقف عن الركل و الصراخ، [...] و خرج يسير على الرصيف، يغني بصوت خفيض، يداه داخل جيبيه تقبضان على الفراغ."
والفراغ الأفظع هو انتفاء القيمة ونفيها، ولعل ما يحتاجه العالم بشكل أعمق هو بناء النظرة اتجاه الانسان كقيمة مطلقة وغير نسبية، وهذا البناء للقيمة لا يأتينا إلا من بنيات تتأسس على الرمز وتولِّده وتعيد انتاجه باستمرار.. (والقيم المطلقة لا تخرج عن دوائر الرموز بالتأكيد)؛ ومن بين هذه البنيات: الاشتغال اللغوي كصناعة فكرية تتحول –عبر التراكم- من الرمز إلى الانتاج المادي والسلوكي لأن الاشتغال اللغوي في نهاية المطاف هو انتقال من مستوى الصمت/الموت إلى مستوى إبدال القرارات (كما هو الحال عند شهريار)، ليغدو هذا التغير اكتشافا لذاك المولود الجديد في رحم السارد أو الساردة، هذا المولود الذي ليس في النهاية غير أنفسنا في الآخر فيما يشبه السفر الذي قال عنه ابن عربي: "إنما هذه الأسفار كلها قناطر وجسور نعبر عليها إلى ذواتنا وأنفسنا".
ولعل اختيار الحكاية لدى "عبد الحميد الغرباوي" للاشتغال عليها تأسيسا وانتقادا لفكر وثقافة الإنسان والعالم الآن هو اختيار في الآن نفسه للرسالة الأبطأ، ولكنها أيضا الأعمــــق، لأن تغير المواقف بها وعبرها - وإن تأخر لِأكثر من ألف ليلة بليلة أو تزيد - يكون أكثر تجذرا وتأصلا في الآتي المرجأ، لذا فرسائل الرواة ليست بالتأكيد "رسائل يتعذر على سعاة البريد العثور على عناوينها.." –كما في نص (الأوراق) .
أكيد أن العالم الآن معتم، وأكيد أن العتمة ليست حالة راهنة، فعلى مدى ثلاثة آلاف سنة أمكَن إحصاء زهاء مئتين وإحدى وسبعين سنة سلام كانت تحضيرا لشن حروب أو لردعها ، مع إعلان دائم ومتواصل أننا نأمل ونحب السلام "لكننا لا نُقدِم على تلقي الجراح من أجله كما نفعل من أجل الحرب" بتعبير "جون اندرو هولمز". وإن كانت الكلمة ليست ألما أو جرحا ، إلا أنها بالحق توقظ الجراح وتؤلم. كتب الغرباوي قبل أيام: "أكيد أن [الكلمة] لا تقتل.. لا تجرح.. لا تسيل دماء ..لا تصد المعتدي لكنها تؤثر، تخلخل، تزعزع الساكن... و أيضا تؤرخ لزمن الحرب..."
وإذا كان هاجس الغرباوي غالبا "هو الكشف عن الوجه الخفي" كما قال عنه "محمد فري" في "الوجه والقناع"، فإن إحدى شخصياته في "عري الكائن" تعلن: "أعيش في منتهى الوضوح مع جسدي ومعكم، لذا فأنا أتعرى أمامكم" ، والعري في نهاية المطاف ليس غير انكشاف، وإعلان، وانفتاح على الآخر وعلى العالم. وإذا كان عبد الحميد الغرباوي - في استبيان أعدّه عبد الله المتقي- يقول: "عندما أكتب قصة قصيرة، أنتظر منها أن تخفف عني حرقة الأسئلة التي تؤرقني" فإن أسئلته المؤرقة هي بالتأكيد بعض من أسئلة عالم يعيشه انفعالا وتفاعلا؛ أسئلة يمكن اكتشافها منذ القراءة الأولى لمجموعة "أكواريوم"، ويمكن إجمالها في "سؤال العنف تحديدا"، عنف اليومي والمعيشي، وعنف الفراغ والأعصاب، وعنف الفقر والبطالة.. ثم العنف في مادته الخام: العنف المتولد من صراع طرفين أو أكثر. فعالم "أكواريوم" يشبه لوحة يرسمها طفل في نص "ثأر" ، عالم يرفض حيوية العشب والاخضرار والشمس والعندليب ، ويقبَل الطائرة الحربية التي تنطلق؛ عالم ما أحوجه لفهم الآخر واحتياجاته، وما أحوجه لمنح الآخر فرصة الاختلاف والعيش –باختلافه في سلام، وهنا تحديدا الرسالة الأولى "لأكواريوم"، فنص "حالتان وجوديتان" هو حكاية الاختلاف المطلق، وهو نص المساحة المتاحة للمغايرة، من غير تفاضل وبلغة سارد محايد لا يبني أية حالة من الحالتين ضمن سلم قيمي معين، اللهم إلا إكراه اختيار التقديم والتأخير في الحكي ؛ وهو النص المنطلََق والمبتدأ في المجموعة القصصية فيما آخر نص من نصوص القصيرة جدا يضع حدا للحياد المرَضي، الحياد الذي يعايش الجثث المتناثرة، والجرحى، والأطراف المقطعة، والدم والجريمة "بصوت شخير حاد".
2- تقول بقعة الضوء:
داخل الغُرف التي توجع الرأس بالكثير من العتمة، والظل الثخين، يتسلح الكائن الصغير بكتل الضوء، فيما يشبه "صناعة رمزية خفيفة" –بتعبير الحبيب الدايم ربي-، الصناعة التي ترسم على مدار الحرف والبياض والتصوير سيَرًا منا، فتبصم بالتالي على جبين التاريخ –رغم أنفه ورغم أنف الذاكرة التي يشوهها اليومي والعبثي والزمن الموجع- خطوطا كأخاديد الشيخوخة ليس للمرء إزاءها إلا تأمل السالف والحكايات التي يستبطنها.
الصناعة الرمزية الخفيفة التي صارت تتسع بما يكفي لاحتوائنا والتي تحدث عنها إدوارد سعيد في القول أن الأمم ذاتها "تتشكل من سرديات ومرويات" هي حكايات صارت لا تترك من التفاصيل الصغيرة شيئا، وصارت تدمن الذاتي والهامشي –نكاية بكُتاب التاريخ- حتى صارت في الكثير من المحافل تثير الحديث عن علاقاتها بالقضايا الكبرى والأسئلة الكونية والانسانية.
وهنا نجد أنفسنا أمام سؤال مركزي: ما حدود الذاتي والكوني في النصوص؟ هل المادة الحكائية هي المحدد أم ما يثيره النص بالتوازي مع بنيته البسيطة؟ يعني أليست كل المواد الأولية قابلة ومتحفزة للاشتغال ضمن الكوني إنْ علنا أو بشكل مضمر، ثم أليست صرخة محمود درويش الشهيرة "ارحمونا من هذا الحب القاتل" اشارة إلى أن العديد من النصوص الحاملة للقضايا الأكبر من "الذاتي" لا تتم قراءتها إلا ضمن ما تثيره عاطفيا على حساب البنى الجمالية؟؟
فلنختر نص "الضحايا" نموذجا للقص القصير جدا للغرباوي، ولندخل إليه محملين بالأسئلة نفسها التي ترافق أي نص حامل لقضية، والقضية هنا –وإن كانت تثير في ذهني فلسطين بالضبط- فإنها في حدود مقول النص هي قضية العنف الشاذ الذي صار هذا الكائن الصغير الناطق يضعه لبنة أخرى في سيرته غير السوية على الأرض، وهو عنف نجد صداه ليس في فلسطين وحدها [مع استنكارنا الشديد لما يحدث فيها الآن] إذ يتردد صدى العنف – مع اختلافات كثيرة- في العديد من المناطق في أفريقيا وآسيا، والعديد من المدن والأحياء بل والمدارس والمؤسسات في أوربا وأمريكا... وبالتالي فنحن هنا أمام شأن كوني.
يقول السارد:
" خرجوا يلعبون ببنادق من بلاستيك،...
تفرقوا، و كل واحد اختار له مكمنا..
رآهم أسامة و هو عائد إلى البيت يحملون بنادق، فقرر أن يطلب من أمه شراء بندقية له..
فجأة، أحس بفوهة بندقية تسلط على رأسه من الخلف وحاملها يهدده بإطلاق النار، ثم يأمره ألا يلتفت، يركع ويشبك يديه خلف رأسه كرهينة، استهوته اللعبة فاستجاب مبتسما لأوامر الطفل صاحب البندقية..
ذوت طلقة نار فخر صريعا..."
في النص حكاية عنف، (بالمقابل نستحضر حكاية اللاعنف). والنص ينتظم في ثلاث دوائر: دائرة الجماعة التي تلعب بالبنادق، دائرة أسامة، ودائرة "الطفل صاحب البندقية". والمثير أننا في جميع الأحوال أمام محورين يمثلان ثنائية أساسية على طول النص: (الطفل/العنف).
ولا شك أن الطفل بما هو "بذرة" مستقبل، يحمل كل مكونات الآتي. إنه العالم المرجأ في النص، العالم الذي تتم صناعته بملامح ينحتها الحاضر؛ لهذا فالنص يشتغل أيضا وفق منطق زمني غير ثابت، فالطفل الذي هو "الآن" و"الآتي" في الوقت نفسه ترسم زمنيته بإتقان أرجوحة الأزمنة في النص، في توازن (10 أفعال للماضي و 9 للمضارع)، أي أن حكاية النص من جهة الزمن هي حكاية تقف في منتصف الانتساب فلا تنتمي بالمطلق لزمن معين.
ولنعد "لدوائر النص"..
السارد يسلط الضوء على "فاعل" واحد، فنعرف اسمه، فيما الآخرون نراهم يتحركون دون أدنى وصف لهم يقربنا أو يقربهم منا، وإن كان اختيار اسم "اسامة" تحديدا، وداخل هذا الفضاء المشبع بالعنف يثير في الذهن ما يجري في العالم منذ 2001، إلا أنني لا أملك أية قرينة للجزم، فيما داخل السرد أيضا لا مؤشر يسعف للتأكد اللهم هذه البنادق، وهي في رأيي لا تكفي لتثبت الافتراض..
على كل حال، نحن أمام ثلاث دوائر، أسندت إليها الأفعال داخل النص بشكل غير متوازن:
1-"الجماعة التي تلعب بالبنادق": (خرجوا – يلعبون – تفرقوا)
2- أسامة: (رأى – قرر - أحس – يركع – يشبك – خرّ)
3- "الطفل صاحب البندقية": (يهدد – يأمر).
إن كان توزيع الأفعال غير متساوٍ على المستوى الكمي فإنها متمايزة أيضا على مستوى الدلالة والزمن، فالجماعة الأولى أسند إليها الخروج واللعب والتفرق، "خرجوا" و"تفرقوا" يثيران في الذهن العديد من إيحاءات اللاانضباط والتفرق والشتات؛ لكن ما يثير انتباهي أيضا أن الخروج والتفرق أسندوا للجماعة في الزمن الماضي من ناحية الصرف، يعني أنه الآن تحصيل حاصل نتيجته الآنية هو "اللعب" المسند في المضارع، واللعب بما هو استيهام وتخيل وقياسات مفترضة فهو عابر ولحظي وهو في الآن نفسه يوازي التاريخ لأن ألعاب المجتمعات تمثل صورا لبنياتها وعلاقاتها ومنطقها ومواضعاتها. هذا يعني أننا منذ البدء أمام عالم من اللعب يرسم ملامح عالم مفعم بالبنادق والعنف كما بالتفرق واللااتفاق والتشتت، يطهر فيه فجأة أسامة..
أسامة رأى، قرر، وأحس. وهي أفعال لها ارتباط كبير بـ "الإنساني"، بالكائن الأخلاقي المفكر والمتواصل مع العالم من حوله بحواسه وأفكاره ودواخله، "أسامة" إذن يتواجد و يتفاعل بشكل متناغم مع محيطه، لأنه منه، التفاعل الذي يمثل بحق خلاصة التواجد الحقيقي للفرد داخل العالم وداخل المجتمع؛ هذا الكائن الأخلاقي الذي هو الآن –أي في الصيغ المضارعة- يركع ويشبك يديه، بفعل عدد من التغيرات المجتمعية والذهنية...
إن التحولات التي يستشعرها الجميع في اتجاه الأسوأ داخل العالم، هي تحولات تهيأ لها سكان العالم منذ فترات قديمة، منذ قابيل، ومنذ هولاكو، ومنذ زهير الذي قال" ومن لا يظلم الناس يُظلمِ"، ومنذ أزمنة خلت إلى الآن وإلى اللحظة التي نعيشها اليوم.. ولعل التهيؤ للعنف الذي استعد له سكان الأرض في دواخلهم قد أنبأ بـ "موت الإنسان فينا" منذ زمان.. لذا فإن "أسامة" في النص "خرّ" (في الماضي) حتي قبل أن يرى ويحس...، إذن خرّ الأخلاقي قبل البدء، وقُتل (بدل أُكل) يوم قُتل الضوء الأبيض (بدل الثور البيض).
ونخلص في النهاية إلى عالم الطفل الذي يحمل البندقية، وهو عالم "مضارع"،لأنه عالمنا،شأنه التهديد والأمر، وما يستتبع ذلك من العنف والصراع والقتل.. (يهدد، يأمر).
لعل تنامي العنف وصيغه من العنف مع الذات إلى العنف الأسري والمدرسي والمؤسسي حتى العنف الدولي السياسي والاقتصادي وغيرهما- هي تجليات عديدة "للمركزية"، مركزية تقيس الخطأ والشذوذ بمسافة الابتعاد التي يرسمها الآخر، وهو النهج الذي ناضلت وتناضل ضده العديد من التوجهات الفكرية والدينية مؤسسةً أو غير مؤسسة، لكن...
ما علاقة الأطفال بكل هذا العنف؟
يثير التربويون العديد من الكلام حول التعلم بالمحاكاة، وهو تعلم يعيد إنتاج الرأسمال الثقافي ويستثمره، ولعل قراءة "اللعب" عند أي مجتمع يحيل إلى قراءة البنيات الثقافية لهذا المجتمع من منطق الانعكاس الذي يشتغل به ويتأسس اللعب. وإن كانت الجماعة الأولى "يلعبون" ببنادق من بلاستيك، فإنما هي الصورة المنعكسة ليس فقط لمجتمع عنيف محارب، بل –وهذا هو الأهم- مجتمع ينسخ "رعاة البقر".. فراعي البقر لا يفارق سلاحه، ليس لأنه يخشى عدوا بالتحديد بل لكي يبحث عن العدو في الصحراء، وبالتالي فهو يطلق الرصاص أولا، ثم يعرف القتيل لاحقا. وفي النص فـ "الطفل صاحب البندقية" لم ير وجه "أسامة"، لماذا؟ ببساطة لأنه لا يبحث عن عدو محدد الملامح.
وهنا أتوقف من أجل مقارنة أخرى، فالجماعة الأولى والطفل صاحب البندقية يظهرون في ضوء النص ومنذ البدء محملين ببنادقهم، ثم لا يتخلّون عنها، بالمقابل فأسامة ينتقل –ولو على مستوى الرغبة- من انعدام البندقية إلى إرادة امتلاكها، وفي الطريق خر صريعا، ثم إنه هو الوحيد الذي له علاقة بالطريق نحو جهة معينة "الأم"، إذ الجماعة "تفرقت" أي لا طريق محدد لها، فيما صاحب البندقية يظهر فجأة كأنه نبت من مكانه ولم يأت من جهة معينة.
ولنسجل أننا هنا أمام ثقافتين متقابلتين، ثقافة الكوبوي، وثقافة هذا الذي له علاقة بالطريق والرحيل.. هذا "السندباد"..
الأول يبحث عن عدو فيما الثاني يتواصل ويخلق الجسور...
لكن المثير والقوي في النص نقطتان الأولى أن السندباد يموت، وهو موت للارتحال، أي لفكرة "الاختلاف"، فالرحيل يستضمر بالتأكيد اختلاف الفضاءات والأمكنة وما يليهما... والثانية أن لثقافة الكوبوي قدرة أكبر للاستقطاب، فأسامة استهوته البنادق وألعابها وألاعيبها..
وهنا يبدو أن حمولة النص وصلت.
ولنعد، -وهي عودة أخيرة- إلى بداية هذا الجزء.. لأقول إن هذه الصناعة الرمزية الخفيفة صارت تحكي التاريخ نفسه، وصارت تأخذ المكان الذي استأثر به التاريخ، لكنها بعصا السارد السحرية صارت في النصوص الجيدة تخلط اليومي بالتاريخي، والذاتي بالعام، في كشكول لغوي غير متيسر للجميع.
3- انفتاح السرد:
تجربة عبد الحميد الغرباوي السردية هي حكاية تتدفق من الرواية إلى القصة القصيرة إلى القصيرة جدا إلى "النكايات" ، وعبد الحميد يرتب ويعي لعبة اللغة والصمت أولا، ويتقن اختيارات المواد الحكائية لأنه ببساطة "يتقن التفاعل مع العالم".
وتجربة الغرباوي السردية لها ملمح عريض أساسه تعدد الصوت لأن تعدد الصوت اشتغال أولا وأخيرا على الاختلاف، ومنه يؤسس انتقاد العالم والمحيط وبنيات التفكير السائدة فرديا وجماعيا، المؤسساتي وغير المؤسساتي من أجل عالم طاهر نظيف وسليم.
وكأنما يضم صوته لجميع النداءات من أجل عالم بلا أسلحة، ومن أجل فوارات للسلام، لكفكفة أعطابنا الآنية والتاريخية والحضارية، فإن الأمل كل الأمل أن لا نصير فماً "يشغل ثلاثة أرباع الوجه، مفتوحا عن آخره كثقب أسود أو كهف معتم" ، مثل "آخر ما أنجزه دالي قبل موته بقليل جدا" في أكواريوم، ومثل لوحة "الصرخة" لإدفارد مونك النرويجي.. فماً "لم يجد صوته.." انفتح وظل ينتظر الصرخة..
وهذه وقفة إجلال وتحية للمبدع عبد الحميد الغرباوي، مبدعا وصديقا وأخا عزيزا..
حسام الدين نوالي
------------------------
الهوامش:
- م.أبا حسين- "حول رمز الفراشة" – معابر- أيلول 2006
- يوسف أباجي- جوهر تعاليم كريشنامورتي -
- عبد الحميد الغرباوي- "أكواريوم" - منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب- ط 1 – 2008- ص: 25
- عبد الحميد الغرباوي- "أكواريوم" ص: 5
- نفسه ص: 14
- نفسه ص: 29
- الأب جورج حبيقة- إيديولوجيا الحرب وفلسفة السلام- معابر
- عبد الحميد الغرباوي- عري الكائن- ص: 71
- عبد الحميد الغرباوي – أكواريوم- ص: 6
- نفسه – ص: 5
- نفسه- نص "بنت الشاطئ" – ص: 28
- نفسه ص: 24
- نفسه – "نكاية في القص...جدا" ص29 إلى 32
- نفسه- متوالية قصصية ص :69
التعليقات (0)