كثيرا ما تثيرني هذه الآيات من سورة الأنعام: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)}.
إنها من الآيات المرعبة للقلب حقا، فهي تصف حال أناس ظنوا أنهم في الدنيا، بعيدين عن الشرك، خالية قلوبهم من آثاره، وإذ بهم يجدون أنفسهم يوم القيامة من المشركين. وهذا - للأسف- قد يكون حالي أو حالك!
أخي الكريم:
إننا حين نذكر الشرك، تجد عقولنا ذاهبة إلى أن المقصود بالشرك هو شرك الأصنام والأوثان، هو شرك هبل واللات والعزى ومناة، وهذا شرك أهل الجاهلية، ولكن هناك أنواع شرك أخرى أشد منها وأفظع.
لقد حذَّر رسول الله الأمة من الشرك، وبيَّن أنه خفي في هذه الأمة، وأنه أخطر على الأمة من الدجال. فقال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من الدجال عندي؟" قال: قلنا: بلى، قال: "الشرك الخفي؛ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل". والحديث رواه الإمام أحمد وابن ماجه وغيرهما، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، وصحيح الجامع وغيرهما.
وقال أيضا: "أيها الناس، اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً نعلمه، ونستغفره لما لا نعلم" والحديث رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
قد يكون الشرك الخفي دافعا لعمل الصالحات، حتى "يعمل الرجل لمكان الرجل"، كما مر في الحديث، أي: يعمل ليراه غيره، ويحظى بتقدير منه. وهذا الشرك وإن كان لأجل رؤية الغير والفوز باستحسانه، هو أيضا فيه حظ من حظوظ النفس، بل إنه شرك بالنفس، لأن هذا العمل لها، ولرضاها، ولإسعادها بكلام غيرها، ومدحه، وهذا أخطر أنواع الشرك، وأخفاه.
فمنا من يتصدق بصدقات كثيرة، ومنا من يصلي في الصف الأول، خلف الإمام، ويبكر للصلاة، ويحج كل عام، ويدخل إلى المسجد، ويفتح المصحف قبل كل صلاة....
كل هذه الأعمال عظيمة جدا لو كانت لله، ولكن للأسف حين تكون للنفس، أي: لتكميل الصورة التي رسمها لنفسه، أو للمنظر العام الذي رسمه الناس له، فهذا هو أخطر أنواع الشرك. فهو يرى أنه متدين وملتزم، والناس يلقبونه بـ(الشيخ) ومن لوازم هذا اللقب أن يكون قبل الناس في المسجد، ولمنظره أمام الناس، يتصدق ويذبح الذبائح ويوزعها على الناس، ويحج كل عام، لأنه يحب أن يلقى احتراما من الناس وغير ذلك. ولذلك ترى بعض الشباب الملتزم جديدا دخلوا هذا الميدان ليجربوا حياة المتدينين، أي موضة، وبعد أيام يشبع من الموضة ليفكر في أخرى. والله المستعان.
نحن بالطبع لا نقلل من همة أصحاب الهمم، ولكننا ندق بهذه الموعظة على نكتة سوداء في القلب، لا ينظر إليها أحد، ولا يلتفت إليها أحد، إلا من رحم الله.. ولذا أنصحك أخي وانصح نفسي أولا بأن نضع أعيننا على قلوبنا، وأن ننظر بعين فاحصة، عما يجري فيها، وأن تسأل نفسك قبل كل عمل لماذا؟؟
فلماذا أصلي؟ ولماذا في أول الصفوف، لماذا تزوجت، لماذا تصدقت، لماذا أبتسم للناس، لماذا أتودد لهم، لماذا أبر والدي، لماذا أعطف على أولادي، لماذا؟ لماذا؟ وكن راصدا لما يجري في قلبك دائما، وهذا يؤدي ولا شك إلى أن تصلح من نيتك.
إن علينا أن نعلم أن هناك فرق بين من يتزوج لأنه يريد تحصين الفرج، وتكوين الأسرة المسلمة، وبين من يتزوج لأن فلانة وبصراحة (أعجبتني)، ولأنني أخيرا وجدت مواصفاتي التي أحب في هذه المرأة... وبين الصلاة لله، وبين الصلاة للراحة، وهب أنك لم تجد الراحة؟؟ فهل تترك الصلاة؟ وإنما صل لله وستأتيك الراحة ولا بد... وبين من يذهب للعمرة في رمضان كل عام، من أجل أن يلقى المشايخ في مكة ويجالسهم، وبين من خرج مهاجرا إلى الله فارا من ذنوبه، ليعود كيوم ولدته أمه... فرق بين من يتصدق لأنه لا يجوز أن يحوي رصيده هذه الملايين ولا يعطي الفقراء شيئا، وبين من يتصدق ليدخر لنفسه في رصيد الآخرة... فرق بين من يصوم إيمانا واحتسابا، وبين من يصوم صوم البهائم عن الطعام والشراب... فرق كبير بين الاثنين، وإن كان كلاهما قام بنفس العمل.
أخي الحبيب: إياك أن تكون من المشركين، بل كن من المخلصين الصادقين، وردد ما أمر الله به نبيه: {قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له ديني} كما أحذرك حين تُنهى عن الشرك أو تحضر أمامك صفات المشركين، أن تقول - ولو لم تتحرك شفتاك-: أن هذا الكلام ليس لي، فأنا لست من المشركين. وأدعوك الآن لقراءة الآيات من جديد، ولتكن هذه المرة بقلبك، بل بعين قلبك:
{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)}.
وبعد هذا أقول لك أخي: حتى الإخلاص وحده لا يكفي للعمل، بل لا بد أن يكون العمل - مع الإخلاص فيه- صوابًا، وهذا ما نذكره في لقاء آخر إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.
أسأل الله أن يجعلني وإياك من المخلصين الصادقين، اللهم اجعل هذا الكلام كلام صدق لك، واجعل هذه الساعة ساعة صدق معك، واجعل أعمالنا كلها صادقة بك.
الفقير إلى عفو ربه تعالى
عبد الله السُّكرُمي
التعليقات (0)