انطباعات عابرة من بغداد
للمرة الثانية أزور العراق بدعوة من وزير إعلامها لطيف نصيف جاسم لحضور مهرجان المربد الشعري التاسع والمشاركة في فعالياته بترشيح من الصديق الشاعر السفير..
وكان من المصادفات الحسنة أن أدخل العراق في هذه المرة فأجدني أمام مفاجآت كبيرة على الساحة العراقية، فضلاً عن مفاجآت شعرية، وفواجع أدبية لا تقل في مأساويتها عن كارثة تشيرنوبل في روسيا وإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما..
بغداد..
ما يثير الانتباه، ويغري على الاعتداد بصمود المقاتل العراقي وثباته في الحرب هو تلك الصورة المشرقة التي تطرحها بغداد على زوارها في منحى التطور والازدهار..
واحات النخيل، وروعة التخطيط، نظافة الشوارع، وتسابق المنجزات والمآثر ونسق الحياة، في هدوء ومتعة وتواصل وعطاء حتى لا تكاد بغداد تخلو يومـًا واحداً من مؤتمر علمي أو حدث ثقافي، أو تظاهرة سياسية.. كل ذلك يجري في عاصمة دولة عربية خاضت حربـًا ضروسـًا كأطول وأشد ما تكون عليه الحروب.
وفي الأمر من الغرابة الكثير.. إذ لا يمكن لإنسان هنالك أن يتجاهل السؤال الملح.. كيف أمكن لهذا القطر العربي أن يخوض الحرب بشقيها.. الحرب في اتجاه البناء والتعمير والحرب دفاعـًا عن الوطن، وصياغة سلام فارع القامة شامخ الهامة غير ذليل، في وقت واحد ومعادلة واحدة وبنتائج متساوية.. وتعجب بأشد من هذا وذاك لمحارب ما إن يرفع عن مقبض السيف يده حتى يضع قبضته على قلبه وعواطفه ليقدم إلى المشنقة أحب وأقرب الناس إليه نجله البكر الذي اقترن اسم أبيه به منذ نعومة أظافره.. لماذا؟.. ليعدل بين الناس ويقتص لهم من بنيه على نفس ما ذهب إليه الشاعر اليمني في مخاطبة الإمام بقوله: ((أنصف الناس من بنيك))..
هو موقف كان زمنه عهد الخلفاء الراشدين لا في زمن الرؤساء الذين إن مستهم نسمة نقد بعثوا بالعاصفة الهوجاء نذير قلق، وإنذار صمت مطبق..
كانت بغداد -أعني الناس- قد شهدت بدعة في سلوك الزعماء العرب، وكانت بغداد حاضرة عرس في مصلى الحسين وإنها لهذا الحدث الأول من نوعه انتهاءً بابن عبدالعزيز أقصد عمر، وبدءاً بصدام أول عاصمة تقدم إكليل زهور في كربلاء.
وما برح عدي زنزانته.. حاول الانتحار فلم يفلح.. بل إن حارس زنزانته لم يأخذه مأخذ الابن لقائد ورئيس محارب منتصر فيسمح له بأسوأ الضررين.. إما الفكاك هربـًا.. أو الخلاص انتحاراً..
وهنا.. وعند هذا الحد تتوقف قدرة العادل على العدل.. ويكون على الأب أن يحتشم من العاطفة..
رائع هو صدام.. لكن أزمع البحث في قضية أهم.. قضية القضاء.. أن يقف من حدث ربما يجمل وجه الزمن القبيح، أو لربما يمنح للتاريخ العربي القديم مومياءً تكسبه استمرارية باعثة على الحياة بما لها من معطيات في المساواة والحرية والتطور..
الذي حدث أن المسئول المباشر في العدل يتحول من قاض إلى شفيع، ومن متراس يحمي العدل إلى منظار يرى بعين العلاقات الرسمية لا بعين السماء ومصداقية الرجل الأول..
القضية سيبحثها التاريخ بشكل أكثر جدية.. لكني أريد أن أؤكد لا من خلال معرفة كاملة، وإنما من حيث ما يمكن لمتتبع إدراكه أن صدام كان جاداً، فلقد لحق بابنه من العنا وذيوع التهمة ما لا يطيقه ابن من أبيه ولا تتحمله مشاعر الأبوة.. وإن لم يك ذلك بأقل ولا بأكثر من العدل..
ولئن قال أولياء دم القتيل إنا عن طيب قلب سامحنا وعن رغبة وجنوح للعفو أطلقنا أسار أحد أبنائنا من قسوة أخينا صدام..
وذلك ما حدث لكنما يبقى أن صدام وهو توقع شخصي سيعفي وزير العدل من منصبه، إذ ليس من العدل أن يتحول القاضي إلى شفيع بغية دنيا يصيبها لا تكريسـًا لموقف عادل يقفه.. ولقد كان لوزير العدل أن يستند إلى عفو ذوي السلطان من قرابة القتيل بدلاً من كل ذلك الهرج الذي أثارته رسائله التي تدر عطف أب على ولده..
وأعود إلى القضية مكرراً ذات الرأي السابق.. فما من أهمية وخصوصـًا في هذا الزمن ولا سيما في الوطن العربي لقاتل خطأً أو مقتول عمداً فهذه المسائل تتكرر يوميـًا وفي كل قطر ومن غير استثناء ودون إعارتها أدنى اهتمام من أحد.. أهمية القضية أنها تجسد علاقة الحاكم بالمحكومين وتضعنا نحن كعرب أعفاهم الزمن من البحث في مصير شعب وضياع أوطان قبالة نموذج انقطعت صلة الناس به منذ زمن شبه سحيق..
المربد وعلى الشعر السلام:
نهفو إلى المربد ونتطلع لتتبع فعالياته الثقافية لأنه أكبر ملتقى أدبي في الوطن العربي..
كما أن من بين الأسباب التي تدعو للاهتمام بالمربد أنه فرصة ثمينة للذين لا يملكون في أقطارهم وسيلة توصيل لإبداعاتهم وهمومهم الفكرية والشعرية إلى سمع المواطن العربي.
والمربد في الأخير -وكما ينبغي- خيمة إبداع يتنادى إليها من المفكرين أجدرهم ومن الشعراء أكذبهم (أجمل الشعر أكذبه) على أن ما حصل في مربد هذا العام كان أكبر من كل إمكانات التعبير عن الإخفاق..
ففي الجلسة الافتتاحية وقفت سعاد الصباح برآئيتها المثقلة بالهموم -همومها- وخوفها على خبز العراق أن توسعه أفواه الشعراء الضيوف عضـًا وأن يكون في ذلك كارثة على العراقيين وقبلها وقف نزار قباني ليلقي قصيدة أقحم الشعراء فيها لأن قائلها نزار.. حتى لقد اتهمت سعاد الصباح بأنها التي تكتب لنزار قصائده وليس العكس..؟
وبكى الناس لشاعر في حجم نزار تقتله قصيدة هزيلة وهو الذي يستحق التكريم لا النهاية بمثل هذه الطريقة المؤسفة.. وهنا أسجل رأيـًا دقيقـًا للأستاذ/ عبدالله البردوني يتنبأ فيه لنزار قبل أن يقع في شراك قصيدته المربدية.. يقول البردوني:
((والآن لم يعد نزار منذ أواخر السبعينات إلى الآن نفس نزار قباني في الخمسينات والستينات، ولكن مشكلته أنه تشبث بمكانته وسماها: الإمبراطورية التي لا يتخلى عنها))..
ويضيف البردوني موجهـًا كلامه لنزار في شكل نداء:
((أيها الشاعر المبدع، والشاعر المجيد، لقد أثمرت حتى ملأت البوادي، وعندما تحس بمنجلك قد وهن فأرجو أن تترك للحاصدين مكانك))..
ومن شهد المربد هذا العام -يدرك أن الشعر العربي استنفذ أغراضه فبكى بما فيه الكفاية.. ووقف حتى تصلبت الأقدام واستوقف حتى انهارت الجدران، وحن إلى الحبيب والغريب بتهافت حتى لم يبق للحنين معناه ولا للشوق قيمته..
كل ذلك هو ما يمكن إدراكه قبل أن يأتي من اليمن من يفتش في الكلمات العتيقة من القاموس العجوز فيجبي (شنخاب) في اللغة الجميلة..
لقد سمعت بأذني ما أفقدني إحداهما.. وسمعت عربـًا كانت اللغة العربية في أفواههم، في قصائدهم حجراً صغيراً طمرته الرمال..
وسمعت في المربد ما أفقدني خمسة كيلو من وزني واعتقدت أن المربد يصلح أن يكون مركزاً صحيـًا للتخلص من البدانة والسمنة..
لكن..
كيف لي أن أعد في قصائد الشعراء العرب هفواتهم ومواطن ضعفهم وفي قصائد الأرق قلوبـًا والألين أفئدة ما لا يعد وما لا يحصى من عدمية الشعر وليس ضعفه..
لم يعد الشعر ومستواه هو الذي يرجعني فيما سمعت من قصائد أعضاء (وفد اليمن).
ولكن الذي آلمني أن تكون اليمن وهو وطني قليلة في نظر الآخرين.. وأن تكون في وزن ما لا يوزن من قصائد قيلت..
الصحيفة: المجالس
العدد: 42
التاريخ: 20/12/1988م
التعليقات (0)