من النسبي الغربي إلى المطلق الإسلامي
من أهم مميزات منظومة الحقوق الإسلامية أنها استندت إلى داعي الإيمان برب الخلق. فالحقوق في المنظومة الإسلامية هي حقوق الخلائق.. كل الخلائق. وهي منظومة أمر بها رب الخلائق. وما دام رب الخلائق مطلقا فإن المنظومة التي فرضها منظومة مطلقة لا يمكن التهاون في الائتمار بها. كما أنها منظومة متعالية على أن يضعها بشر قد تكون لهم مصالحهم الطبقية أو الاقتصادية أو السياسية... إلخ.
أما الغرب فقد أسند نسق الحقوق فيه إلى فكرة المنفعة. والمنفعة فكرة نسبية متغيرة بتغير الزمان ودوران الأحوال. كما أن فكرة المنفعة تتغير وفق نظرة الجماعة المهيمنة على دوائر صناعة القرار أو قريبة من دوائر التأثير عليه: كجماعات الضغط، أو الطبقات الاجتماعية، أو النخب السياسية المهيمنة...إلخ. وهذا ما يجعل فكرة الحقوق في المنظومة الغربية فكرة نسبية بالتبعية.
وقد لمسنا تجليين بارزين لهذه النسبية في الحضارة الغربية:
التجلي الأول: تمثل في إنكار الغرب لحقوق الإنسان غير الغربي. وتاريخ الغرب حافل بالنماذج والأمثلة على هذه الحالة، ومن يريد المثال فليرقب اليابان في الحرب الاستعمارية العالمية الثانية، أو العراق أو فلسطين أو لبنان أو السودان أو كوريا الشمالية أو الأرجنتين أو بوليفيا...إلخ.
إن نشأة أمريكا قامت على إبادة الهنود (السكان الأصليين) الذين تقلص عددهم من 10 ملايين إنسان إلى 200 ألف إنسان.
وإذا ما قررنا الاستشهاد بخبرات التاريخ المعاصر فسنجد ناعوم تشومسكي المفكر الأمريكي يذكر أنه في إحدى ليالي الحرب الاستعمارية الثانية دمّرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعًا من طوكيو بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت 100 ألف شخص، وشردت مليون نسمة. ولاحظ الجنرال كيرتس لوماي أن الحرارة كانت شديدة جدًّا حتى إن الماء قد وصل في القنوات إلى درجة الغليان، وذابت بعض الهياكل المعدنية، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب. وقد تعرض أثناء الحرب ما يقرب من 64 مدينة يابانية، فضلاً عن هيروشيما وناجازاكي الشهيرتين، إلى مثل هذا النوع من الهجوم. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص بهذه الطريقة. وكان هذا تمهيدًا لعمليات الإبادة التي ارتكبتها الولايات المتحدة ضد أقطار أخرى لم تهدد واشنطن.
وقد ذبحت الولايات المتحدة بين عامي 1952 و1973 - في تقدير غير مغالٍ - زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي ولاوسي وكمبودي. ويشير أحد التقديرات إلى مقتل مليوني كوري شمالي في الحرب الكورية، وكثير منهم قُتلوا في الحرائق العاصفة في بيونج يانج ومدن رئيسية أخرى، ويذكرنا هذا بالهجمات الحارقة على طوكيو.
وذكر الراهب البوذي الفيتنامي "ثيتش ثين هاو" أنه بحلول منتصف عام 1963م تسببت الحرب التي شنتها أمريكا على فيتنام في مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، وتدمير ألف معبد، كما هوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة.. وأدى القصف الأمريكي لهانوي وهايفونغ في فترة أعياد الميلاد في العام 1972م إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم.
وكانت وزارة الدفاع الأمريكية قد اعترفت سنة 2000 بأن قوات الناتو أطلقت 31 ألف قذيفة تحتوي على اليورانيوم المنضب أثناء حملة حلف الأطلسي على يوغسلافيا، في حين أفاد مسؤول حلف الناتو أن عشرة آلاف قذيفة من هذا النوع استُعملت في حرب البوسنة عامي 1994 و1995.
وتدمير العراق في حرب الخليج الثانية لا يزال قريب العهد؛ فقد أكدت التقارير أن الطائرات الأمريكية ألقت زهاء مليون قذيفة يورانيوم منضب جو أرض، كما استخدمت 15 ألف قذيفة دروع؛ وهو ما أحدث خللاً واضحًا في الأمن البيئي في الكويت قبل العراق، فلوث مساحات واسعة من الأرض بمواد مشعة كاليورانيوم المنضب، واستخدام سموم فطرية ذات تركيز عال مُسَرطنة، فضلاً عن تلويث الهواء والتربة، وإهلاك الكثير من الأحياء، وظهور أمراض كثيرة، وازدياد معدلات الوَفَيَات في الأطفال دون الخامسة عدة أضعاف بالنسبة للعراق. بل إنها لم تتورع عن إبقاء الحصار المفروض على العراق لما يزيد عن عشرة أعوام، والذي لا تزال آثاره المدمرة بادية على الشعب العراقي المنهك البائس.
وكشفت مجلة النيوزويك مؤخرًا جرائم الحرب في أفغانستان، وكيف أن أكثر من 3000 أسير في طالبان ممن استسلموا لقوات التحالف الشمالي كانوا قد حُشروا وهم مرضى يتضورون جوعًا في مرفق يتسع لـ 800 شخص فقط، وكيف أن المئات منهم ماتوا خنقًا في حاويات معدنية (مختومة) أثناء نقلهم إلى المعتقلات!
التجلي الثاني: يتمثل في هشاشة وضع الحريات في الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، من تجسس على البريد العادي والإلكتروني والهاتف، والاعتقالات بلا محاكمات، ومنع من السفر، ومنع من العودة... إلخ. أليس هذا دليلا على أن فكرة الحق الإنساني هذه فكرة نسبية تأسيسًا على ما يرون من نفع لها، حتى لو كان ذاك النفع ظنيا أو متوهما.
إن للمسلم أن يفخر بأن منظومته القيمية الحقوقية مختلفة كثيرًا، إن لم نقل جذريًا عن المنظومة الغربية. فهذا الاختلاف سببه تفرد منظومة الإسلام وسموها وصدق توجهها الإنساني العام الشامل.
ولكن ينبغي أيضًا على المفكرين المسلمين أن يحرصوا على توضيح هذه الصورة من ناحية، وأن يحرصوا من ناحية ثانية على بلورة برنامج لصون هذه الحقوق، وبخاصة الحقوق السياسية. فالبريق الذي يلف حرص الغربيين على حقوقهم السياسية يجعل حملة المشروع الإسلامي يتوهمون أنهم في موقف ضعف في مواجهة المشروع الحقوقي الغربي في الوقت الذي لا يرقى فيه ذاك المشروع الغربي - رغم بهرجته - لمطاولة القمة السامقة التي يبلغها المشروع الإسلامي الحقوقي.
رئيس وحدة البحوث والتطوير بشبكة إسلام أون لاين
التعليقات (0)