أحداث الحاضر فى مصر تأخذ الإنسان من التفكير فى أى مرحلة من مراحل تاريخها , إلا أننى وأنا أستمع إلى إذاعة الأغانى التى ألجأ إلى واحتها وما تبث من أنغام الزمن الجميل كى أهرب من دمامة الواقع وعبثيته , سمعت المذيعة تقدم أغنية لأم كلثوم بمناسبة عيد الجلاء , نظرت إلى التاريخ واسترجعت الماضى , وجدت أننا إلى عهد قريب كنا نحتفل بيوم 18 يونية كل عام باعتباره مناسبة وطنية لجلاء الاحتلال البريطانى عن مصر فى مثل هذا اليوم من عام 54 . أخذت أستمع إلى كلمات الأغنية التى صاغ كلماتها أمير الشعراء فى حمأة الروح الوطنية التى كانت تطالب بالجلاء وذلك اثناء وبعد ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول . يستهل شوقى قصيدته بقوله -
بأبى وروحى الناعسات الغيدا -الباسمات عن اليتيم نضيدا
الرانيات بكل أحور فاتر - يذر الخلى من القلوب عميدا
الراويات من السلاف محاجرا - الناهلات سوالفا وخدودا
إلى أن يقول -لو كنت سعدا مطلق السجناء لم - تطلق لساحر طرفها مصفودا . . وهكذا على غرار عظام الشعراء القدامى الذين يستهلون أشرف أغراض قصائدهم بالغزل , وفى هذا وحده خير دليل على ثراء الوجدان العربى وسمو خياله ورقة مشاعره , ونظرته للمرأة كملهمة للشعر وواحة للحب , وليس الهوس بمطاردتها باعتبارها موضوعا للجنس ومحرضة على الرذيلة . , بعد ذلك يصل شوقى إلى غرضه الشعرى فيقول -والله ما دون الجلاء ويومه - يوم تسميه الكنانة عيدا
وجد السجين يدا تحطم قيده - من ذا يحطم للبلاد قيودا ؟
. لعله من المصادفات ذات الدلالة أن تتوافق ذكرى الجلاء البريطانى عن مصر مع مناسبة احتمال اعتلاء الإخوان قمة السلطة فيها . لقد مرت مصر بالكثير من المنعطفات الخطيرة , وكافحت ضد الاستعمار , وظل الجلاء هو الحلم والنشيد المفضل , ورحل الاستعمار وترك مصر فى يد أبنائها من العسكر الذين تدرجوا بها من عثرة إلى منحدر إلى أن وصلوا بها أخيرا إلى الهاوية حيث دفعوها إلى براثن حكم دينى متطرف يستهدف تراثها وسماحتها . لقد احتل الاستعمار أرض مصر , ولكنه رحل وترك لها عقلا وثابا وفكرا مبدعا وفنا رائدا , والآن , تأملوا معى قول شوقى يصف جميلات قصيدته - الراويات من السلاف محاجرا-الناهلات سوالفا وخدودا . أنا واثق أن مصر الإسلامية لن تنجب شاعرا بهذه الموهبة , ولو كان موهوبا فلن يستطيع الحديث عن السلاف . إن مصر قد حققت الجلاء عن أرضها عام 54 . ولكنها فى حاجة إلى كفاح قد يكون أطول وأشرس لتحقيق الجلاء عن عقلها
التعليقات (0)