د. رمضان عمر
مقدمة:
شكَّل غياب الإسلام عن ساحة الفعل السياسي (في العالمين العربي والإسلامي)- في القرن المنصرم- خطيئة لا تغتفر، وخسارة لا تعوض، ارتكبتها البشرية جمعاء، وذلك بعد أن قررت إقصاء منهج رب السماء - الذي أراده الله لعباده- عن الحكم، وهدم الخلافة الإسلامية، واستبدالها بنظم علمانية دكتاتورية، حاربت الأخلاق والقيم، واستهدفت المساجد، وكبلت الأيدي المتوضئة، فاضحي العالم الإسلامي- بعدها- مفرغا من قوته تتجاذبه الصراعات المبنية على جشع مادي، وفساد أخلاقي، فنما فيه الفساد وعم الظلم، وأي ظلم فوق ذاك الظلم ؟!! قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ
لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (البقرة:114).
ولن تعود البشرية إلى جادة الصواب، قبل إن تجعل القران منهاجا للحياة، ودستورا للتشريع .. وتقر وتقتنع بان الله خالق هذا الكون، وما فيه، وان ناموس الله وشريعته أحق أن تتبع.
وما زالت البشرية تسير في انحرافات خطيرة، ببعدها عن منهج الحق المنير وتخبطها في مناهج دونية مادية لم تجلب – لها- إلا الفقر والفناء والطبقية والظلم.
مخاضات وبشارات
}يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ{ « الصف - 8»
كان من أهم أسباب المخاضات الكبرى، والصراعات العظيمة الناشئة بين الشرق والغرب، التي تمثلت في الاستعمار والاحتلال والهيمنة والاستغلال والثورات والحروب .......؛ قبول الإنسان بالهوى، ورفضه للحق، واستجابته لمنطق البطش والقوة لا لمنطق الحق والعدل.
ومن هنا فان أية فلسفة تغيرية لا تحتكم لشرع الله ستسير في المسار (الدكتاتوري) نفسه الذي سارت فيه أمريكا الليبرالية وروسيا الاشتراكية.
لكن الله - سبحانه وتعالى- قد تكفل بحفظ دعوته، ونصر أوليائه المخلصين، فنما صوت الحق في وجدان الأمم المقهورة، وبدأت الصحوة تفرض نفسها، حتى أضحت عنوان المرحلة القادمة، وأمل الشعوب المنكوبة، وشعار التغيير الأوحد.
تخوف الليبراليين
أما تخوف الليبراليين من الإسلام القادم، فهو تخوف الظالم من عدل الحق، والجاني من كشف الجريمة. وهو استجابة ضميرية لتخوف الغرب المستبد المتحكم في مفاصل الحياة في بلادنا؛ فالليبراليون هم ذراع الغرب الضارب فوق رقاب الأمة، ومعول هدمه المحطم لكل القيم، وجداره الذي يعتمد عليه لإبقاء عالمنا تحت نيره وسلطته، ويده الطويلة في قمع الشعوب، وتدمير الثقافة ونشر الفساد ؛ ومن هنا فلا غرابة أن تتماهى الفرقتان (الغرب – وأذنابه من العلمانيين) في محاولاتهم تشويه صورة الإسلام، وتخويف الناس منه، في حال فوز الإسلاميين ووصولهم سدة الحكم.
واقعية الثورات ومصداقية الانتخابات
إن الدراسة الواقعية للمشهد السياسي الحالي تقول: لقد عاشت بلادنا العربية عقودا طويلة تحت سيطرة الدكتاتوريات العلمانية؛ فما جنينا ألا الهزائم والاستعباد، وتمزيق شمل الأمة، وإثارة النعرات، وإذكاء روح الطائفية، والعصبية، والانحدار الأخلاقي، و التسيب الإداري، والفساد في كل شيء.
ثم جاءت الثورة بعد أن طفح الكيل، وعم الضيم، لترفع شعارا واضحا «الشعب يريد تغيير النظام «
لا بد هنا من وقفة قصيرة مع هذا الشعار، فأي نظام تريد هذه الثورات أن تغيره؟ أليس هو النظام الحاكم الممثل بتلك الدكتاتوريات العلمانية التي نصبها الغرب باسم الديمقراطية ؟ أليست العلمانية هي التي حكمت مصر وتونس وطالب الشعب بتغييرها ؟
كانت هذه الثورات واضحة في خطابها؛ لم تعد تثق بالزيف، ولم تعد تخاف من الغطرسة، لذا نادت بالشفافية والعدل، ولا أجد في قاموس البشرية ما يمكن أن يلبي رغبة الشعوب في تحقيق الشفافية، ونشر العدل إلا الإسلام، لأنه يساوي بين الأبيض والأسود، ويجعل المؤمن يقول الحق ولو على نفسه؛ فأي شفافية وعدل بعد قول الحق: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } المائدة-8 {
وجاءت الانتخابات بعد الثورات لتكشف زيف ادعاءات العلمانيين بأنهم يمثلون خيارات الشعوب وتوجهات الأمم؛ فما بال هؤلاء وهؤلاء ينسلون من ادعاءاتهم وديمقراطياتهم، ويقفزون على حقائق الواقع بعد أن أثبتت الديمقراطية التي يتشبثون بها أن خيارات الشعوب مع منهج رب الشعوب لا مع الهوائيين المنتفعين المستغلين لكل شيء في سبيل تحقيق مآرب ضيقة .
الثورات العربية: مبرراتها وشعاراتاها ومفرزاتها
يحلو للكثيرين ممن لا يرضون لأمتهم إلا أن تكون تبعا للشرق أو الغرب أن يقللوا من قيمة الفكر والاستقلال الحضاري لمنطقة حوض المتوسط، المتأثرة بفيض الإسلام المتجذر في أعماق تجربتها السياسة الممتدة منذ أن صافح الإسلام أديم مكة حتى اللحظة أن يربطوا الإسلام بالشرق أو بالغرب؛ وكان الإسلام قاصر- وهو مهيمن وشامل - عن تحقيق آمال البشرية وقيادتها، فيقولون: هذه الثورات زوبعة تحركها (أمريكا) و(إسرائيل) لإعادة تقسيم المنطقة وفق رؤية (سايكسبيكية) جديدة.
أنا لا اقلل من اثر التآمر العالمي على أمة المليار، ولا أغفل أهداف أعداء الله وإصرارهم الدائم على استعبادنا وسحقنا، لكنني لا أنكر –أيضا- أن للإسلام فاعلية أن حيل بينها وبين حريتها أحدثت المعجزات.
ومن هنا؛ فان هذه الثورات العربية الحالية تعبر- في كثير منها- عن ضمير أمة حية، ولذا كان من مفرزاتها أن يصبح الإسلام حصاد أي تجربة ثورية في منطقة عربية، ثم تأتي الانتخابات لتؤكد عليها؛ وهذا ما حصل في تونس والمغرب ومصر.
إن النبض الحقيقي الذي أفرزته الانتخابات هو صاحب الدفع الثوري الأساسي في حراك الشعوب، وليس صحيحا أن الليبراليين وشباب الفيس بوك (المتحررين) هم وحدهم من دفعوا الدماء السخية، وان كنا لا ننكر مشاركة أي فاعل، ولا ننكر غاياته مهما دنت لكن الزحف المزلزل القادر على إحداث تغيير كوني في المنطقة يتمثل في الكتل الكبرى وهذه الكتل تنقاد بالفكر الإسلامي وتلتزم بالرؤية الحركية الإسلامية، أي أنها تمثل الخيار الحقيقي لتطلعات الشعوب.
ومن هنا فان عرض المخاوف من اثر الثورات يقع ضمن دوائر نحب أن نقررها في الحقائق التالية:
أولا- إن الذين يتخوفون من الإسلام السياسي إنما ينطلقون من وعيهم المسبق بأن الإسلام هو المنهج الوحيد الذي يستطيع إحقاق الحق والتسوية بين الناس وترجمة شعارات الديمقراطية إلى حقائق تخدم المصلحة البشرية.
وهذا يتعارض مع أهوائهم النفعية، ويهدد مصالحهم الشخصية، ولذا يحاولون هدم اثر الإسلام بأية طريقة؛ فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.
ثانيا - إن التخوين قبل لمس اثر التجربة الإسلامية في الحكم يدلل على أن منهج هؤلاء (المخونين) ليس علميا، ويفتقر للمصداقية ويعبر عن أحكام مسبقة، ومثل هؤلاء لا يجوز آن يكونوا مسؤولين عن تطوير امة وبناء حضارة؛ لتمتعهم بقصر نظر واضح ومنهج لا يستند للقيم العلمية الحضارية
ثالثا – إن ارتباط هؤلاء بالغرب يدلك على سوء نواياهم، وأنهم لا يمثلون مركزا تلتف حوله أمتهم، بل يخدمون مصالح غربية، لا تتفق وهوية الأمة؛ ومن هنا كان الأجدر أن يتخوف منهم، فهم الخطر الحقيقي على هوية الأمة ومستقبلها
الإسلاميون وواقعية الطرح
جاءت تجربة الإسلاميين في كل من مصر والمغرب وتونس متشابهة في الطرح والنتيجة، متصدرة بفوزها الساحق كل من نافسها، ولعل في قراءة الخطاب الإسلامي الثلاثي( مصر – تونس- المغرب) ما يؤكد على أن الوسطية الإسلامية والحرص البالغ على خدمة الشعوب، والمشاركة الفاعلة هو القاسم المشترك بين تلك التجارب مجتمعة.
والتخوفات التي أبدتها جهات متنفذة ذات علاقة واضحة بفلول الأنظمة، كتخوفات المجلس العسكري في مصر والأحزاب الليبرالية في البلاد الثلاثة؛ من وصول الإسلاميين، تخوفات باطلة لا أساس لها من الصحة؛ فبرامج الأحزاب الإسلامية كانت واقعية بامتياز، لكن شماعة التشدد الإسلامي التي يتشدق بها الليبراليون كانت الفزاعة التي يريد من خلالها أصحاب النفوذ أن يحولوا دون نجاح الأغلبية الإسلامية؛ فما محاولة تأكيد المجلس العسكري تشويه صورة الإسلاميين -حين قال ردا على سؤال عما إذا كان المجلس الجديد هو محاولة للحد من نفوذ السلفيين الذين يريدون «فرض» الشريعة الإسلامية في مصر، فأقر بتأكيد ذلك...، و أن الشعب المصري لن يسمح لهذا أن يحدث».
لكن واقع الطرح الإسلامي في ظل هذه الانتخابات يثبت عكس ذلك؛ فلا حزب العدالة والحرية نادي بسحق الآخر وفرض المنهج الإسلامي عنوة على رؤوس المصرين، ولا الاتجاه السلفي ممثلا بحزب النور نادي بتحريم العمل السياسي وإقصاء الآخر.
ولعل عودة سريعة إلى تصريحات كلا الفريقين تثبت بطلان زعم المشككين؛ فحزب النور- مثلا- يقدم برنامجه السياسي، معتمدا على منطلقات تشكل رؤية واضحة، تتقاسم مع مفهوم التعددية، يقول الحزب على صفحته تحت بند برنامجنا السياسي:
«ومن أهم الحقوق التي ينبغي الحفاظ عليها:
1- حق المجتمع في تقرير نوع ومضمون تعاقده مع من يحكمه ويسير شأنه العام، في إطار من الشورى والديمقراطية وبعيداً عن التسلط والاستبداد.
2- حق المجتمع في تحديد الاختيارات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للدولة، عبر مؤسسات تمثيلية له، ذات مسؤولية وشفافية ومشكلة بكل مصداقية وحرية ونزاهة.
3- حق المجتمع في اختيار من يدير وينظم شأنه العام.
4- حق المجتمع في تقويم ومراقبة ومحاسبة من يدير وينظم شأنه العام.
5- حق المجتمع في تنظيم نفسه والتعبير عن اختياراته المتنوعة .
6- حق المجتمع في حماية نفسه ضد كل إرادة للتعسف والشطط السلطوي والاستبداد.
7- حق المجتمع في صون الكرامة الإنسانية لجميع أفراده، بمختلف تجلياتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
أي تشدد في هذه الرؤية؟، ثم من قال إن ارتكان الخطاب الإسلامي لشرع السماء معيبة يعاب عليها صاحبها؟ بل العيب كل العيب في المفرطين، الذين جعلوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وحزب العدالة والحرية-أيضا- وضح برنامجه عمليا من خلال تقديم نفسه كحركة توافقية تضم ألوان الطيف كله، وقدم برنامجه من خلال رؤية شاملة تطال المجتمع كله: «يسعى برنامجنا الانتخابي إلى إطلاق الحريات وحفظ الحقوق الأساسية لكل مصري، وتعديل كل ما يتعارض أو يقيد هذه الحريات أو ينتهك هذه الحقوق من ممارسات أو تشريعات، فالحرية هبة الله للإنسان بغض النظر عن لونه وجنسه ومعتقده، وهي مناط التكليف ومقصد من أعظم مقاصد الشريعة وغاياتها الكبرى، التي كفلت للإنسان كل صور الحرية، وعلى رأسها حرية الاعتقاد متحملاً مسؤولية خياراته» }لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ{ }البقرة: من الآية (25){
من هذا المنطلق فإن الحرية الكاملة للإنسان المصري هي مبدأ أصيل وحق من حقوقه، لذا يسعى نواب حزبنا إلى :
1- ضمان وتحقيق الحريات والحقوق الأساسية لكل مصري والتي لا غنى عنها في أي مجتمع متقدم، وفي إطار منظومة القيم الدينية الأصيلة، فضلاً عن الحريات السياسية والاجتماعية التي لا غنى عنها لممارسة الحقوق والارتقاء بالمجتمعات.
وفي مقدمة هذه الحريات والحقوق: حرية الرأي والتعبير, وتشكيل الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية, والاجتماع والتظاهر, والتنقل والسفر وحرية العمل النقابي والمهني والعمالي والطلابي والجماهيري, والانتخابات الحرة الشفافة, وهي تشمل أيضا التحرر من كل أشكال القهر, والاستبداد والتمييز, وسنعمل على سن التشريعات الضامنة للحريات بكافة أشكالها, وتضمينها بالمناهج الدراسية, وتعميم نشرها بكل وسائل الإعلام المختلفة وكذلك منابر المساجد والكنائس.
2- عدم التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو الجنس أو اللون.
3- ضمان حصول المرأة على جميع حقوقها بما لا يتعارض مع قيم الشريعة الإسلامية، وبما يحقق التوازن بين واجباتها وحقوقها.
4- سن التشريعات التي تجرم الواسطة والمحسوبية وتوفير الإجراءات التطبيقية التي تضمن تكافؤ الفرص.
5- دعم وتعزيز التعددية السياسية كأحد أصول العملية السياسية، وترسيخ قواعد الشراكة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني للقيام بأعباء النهضة»
ومما يدلك على كذب الليبراليين أن الأحزاب الليبرالية التي كانت سببا في جر المنطقة إلى (الصهينة) و(الأمركة) بتوقيعها اتفاقات مع العدو أصبحت تزعم أن الإسلاميين عقدوا اتفاقات مع الأمريكان، وكأن فوزهم صفقة مع الأمريكان، يتم من خلالها اعتراف الإسلاميين بالاتفاقات مع الاحتلال واستكمال رحلة التطبيع معه وقال الكتاتني – أمين عام حزب العدالة والحرية - إن موقف الحزب ثابت من احترام الاتفاقات الدولية بشرط تحقيقها الهدف الذي أبرمت من أجله لصالح الطرفين مع احتفاظ البرلمان بحقه في مراجعة أي اتفاقية يراها لا تحقق مصالحه.
لا يمكن قراءة هذا التصريح خارج نطاق الفهم الواقعي لمتطلبات المرحلة وإدارة مفاصل الصراع بحكمة، ولا يشير هذا التصريح إلى أي تنازل عن المبادئ بل إلى رؤية واضحة تتفهم مقتضيات المرحلة.
أن الواقعية الإسلامية في الطرح تواجه بدكتاتورية الرفض والإقصاء وما زالت تخوفات الإسلاميين من تجربة الجزائر وفلسطين وانقلاب النظم المدعومة أمريكيا على خيار الديمقراطية قائما ن فتحركات المجلس العسكري في مصر من خلال المجلس الاستشاري تثير الشكوك وتضع علامات استفهام كبيرة على حقيقة قبول هؤلاء لفكرة الديمقراطية والخيارات الشعبية
التعليقات (0)