( سأضـــع لامتي تذكـــاراً يبــقى الــىالابــد )
عبــد المحســــن السعـــــدون
بقلم / المحامي سركوت كمال علي
عبدالمحسن بيك السعدون هو عبد المحسن بن فهد السعدون ولد في الناصريه 1879م، وتقلّد أربع وزارات. وهو واحد من رموز الوطنية العراقية، عضو المجلس التاسيسي وثاني رئيس وزراء في العهد الملكي في العراق بعد نقيب اشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني النقيب.
كان ينتمي إلى أسرة آل سعدون، وهي اسرة يرجع نسبها للأشراف من سلالة امراء المدينة المنورة (اعرجية حسينية النسب) وهم حكام امارة المنتفق تاريخيا والتي كانت تضم معظم مناطق وقبائل وعشائر جنوب ووسط العراق، وفي نفس الوقت فان أسرته شيوخ قبائل اتحاد المنتفق (أكبر اتحاد للقبائل والعشائر مختلفة الأصول شهده العراق)، يذكر المؤرخ خير الدين الزِّرِكْلي المولود عام 1893م، عبدالمحسن السعدون في كتابه الأعلام، وهو قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ويقع في ثمانية مجلدات، ج 4، ص: 151 (((عبدالمحسن (باشا) ابن فهد بن علي السعدون : وزير عراقي. من أسرة يتصل نسبها بالأشراف. استوطن أحد أجدادها البصرة، ثم ذهب إلى المنتفق، فتأمر أحفاده على عشائرها. ولد عبدالمحسن في الناصرية (مركز لواء المنتفق) وكان أبوه حاكما على اللواء وأميرا لعشائره. وتعلم في مدرسة العشائر بالآستانة ثم في المدرسة الحربية ، وتخرج ضابطا في الجيش العثماني. وجعله السلطان عبد الحميد، مع أخ له اسمه عبد الكريم، مرافقين له. وظل عبدالمحسن في الآستانه بعد خلع السلطان عبد الحميد، فانتخب نائبا عن (المنتفق) في مجلس النواب العثماني. وعاد إلى العراق في خلال الحرب العامة الأولى))).
صار عضواً في مجلس النواب العثماني ممثلا مع شخصيات أخرى للولايات العراقية، وكان ضابطا رفيع المستوى في الجيش العثماني وكان من المناهضين للاحتلال البريطاني للعراق كما ساهم في المعارك ضد قوات الجنرال مود، وبعد ذلك كان من المعارضين لسياسة الانتداب البريطانية على العراق. وانتمى للجمعيات السرية التي تدعوا لاستقلال العراق وبعد الاستقلال وأثناء تأسيس الدولة العراقية تم تداول اسمه من قبل المجلس التأسيسي ليخلف عبد الرحمن الكيلاني النقيب حيث ورد اسمه في المراسلات الخاصة بتأسيس العراق والتي حررها وجمعها عبد الوهاب النعيمي الذي رشح اسمه. وفي عام 1922 تولى منصب رئاسة الوزراء أربع مرات في الأعوام 1922 و1925 و1928 و1929.
في عام 1928 بدأت وزارة عبد المحسن السعدون تسعى لتعديل الاتفاقيات المتصلة بالمالية والعسكرية من المعاهدة العراقية البريطانية المعقودة عام 1927 فلم تتمكن من اقناع دار الاعتماد بهذا التعديل، فاضطرت الى تقديم استقالتها في 20 كانون الثاني 1929 فوافق الملك على قبولها وطلب منها ان تدير الامور وكالة حتى يتعين خلف لها.
وبعد ثلاثة أشهر تقريباً كلف السيد توفيق السويدي بتشكيل الوزارة واصبح عبد المحسن رئيساً للمجلس.
وفي تاريخ 17 اب من السنة المذكورة رجع عبد المحسن الى بغداد وانتشرت الاخبار عن تأليف وزارة جديدة برئاسته على اثر تصريح بريطانيا بقبول العراق في عصبة الامم عام 1932.. وفي يوم 19 ايلول عام 1929 شكل السعدون وزارته الجديدة, وحينما علم الانكليز بمنهاج الوزارة اخذوا يعارضون بكل شيء ويطلبون من الوزارة تنفيذ المستحيلات كتمديد عقود الانكليز او تجديدها وترفيع بعضهم وتبديل وتغيير بعض الموظفين العراقيين ومدراء الادارة او مأموري المالية.
وصاروا يعاكسون الادارة، بكل شيء والوزارة تقابل اعتراضاتهم بصبر وحكمة وصارت امور الدولة المهمة بين المد والجزر.. فدار الاعتماد من جهة، والوزارة من جهة اخرى، والملك بينهما يعاني الصعوبات ومقابل ذلك كله الشعب الذي يطلب المزيد من الاستقلال ، وفعلاً سارت الوزارة في تنفيذ خطتها بدون تردد.. فمن ذلك وظيفة مستشار مدير الزراعة البريطاني الذي بلغ راتبه اكثر من الف وخمسمئة روبية مع انه لم تكن لديه شهادة دراسية تستحق ذلك.. وكذلك راتب المستر كرايز الذي كان قبلاً مأمور طابعة ومستشار وزارة الري المستر (ألارد) الذي اعترض على الغاء المشتريات بواسطة وكلاء التاج. ثم الغاء بعض الدوائر الزائدة كدائرة الاملاك ودائرة الرستمية ووكالة القيادة العامة وغيرها من المؤسسات التي لم يسبق ان ذكرت في المناهج السابقة حيث كانت المناهج الوزارية تعرض على دار الاعتماد وعلى البلاط قبل اقرارها ونشرها.. اما هذه الوزارة فلم تعلن منهاجها في الصحف عند تشكلها حسب العادة بل اشار رئيس الوزارة الى بعض نقاطه في المجلس النيابي عند مناقشة خطاب العرش في جلسة مجلس النواب الثالثة المنعقدة في 11 تشرين الثاني عام 1929 فاخذ النواب كمحمد زكي المحامي وجعفر ابو التمن ورشيد عالي الكيلاني يستوضحون ويستفسرون من الرئيس وهو يجيبهم باللين والهدوء حتى قام النائب معروف جياووك وقال له بالنظر لهذا المنهاج يظهر بأنكم تقصدون احداث الثورة في البلاد. فتأثر الرئيس من هذا الاتهام واراد ان يجيبه بشدة وقال لمن كان في جانبه من الزملاء: لازم اصرح الان واجيب هذا الجاسوس الانكليزي.. فمسكه ياسين الهاشمي الذي كان جالسا بجنبه واستمر يجيب المعارضين بالحكمة والحسنى وان انتقادات النواب واجوبة الرئيس عليها نشرت في محضر جلسة مجلس النواب المذكورة اعلاه. لقد كانت اهم مشكلة جابهت السعدون خلال فترة حكمه هي صراعه القوي مع الملك فيصل واللائذين به خلال الفترة ما بين ( منتصف 1926 ولغاية منتصف 1928) ولعل اهم المشاكل التي تصدى لها السعدون خلال هذه الفترة من حكمه هي التي يمكن ايجازها بما بأتي : ــ
1 ـ معاهدة 1926 وتوابعها وملاحقها ومحاولة القوى الوطنية تسوية الطريق نحو انهاء الانتداب والدخول في عصبة الامم .
2 ـ حل البرلمان والمجيئ ببرلمان اكثر توحدا واستقرارا لإنجاز مهمة انهاء الانتداب والتوجه نجو الاستقلال الناجز .
3 ــ محاولة الابتعاد عن هيمنة الملك فيصل ؛ وجعل الوزارة هي المسؤولة دستوريا عن ادارة الدولة امام البرلمان .
4 ـ ابعاد بعض كبار رجال الدين الشيعة المعارضين لسياسة الحكم ونفيهم الى ايران .
5 ــ الوقوف بحزم ضد السياسة المالية والعسكرية التي تفرضها وزارة المستعمرات البريطانية على العراق.
6 ــ دعم التجنيد الاجباري وايجاد جيش عراقي متين له استقلالية في اتخاذ القرار والتنفيذ وتجهيزه بالمعدات والسلاح .
7 ــ الصراع المكشوف ما بين السعدون وبعض الشخصيات البارزة كياسين الهاشمي ورشيد عالي الكيلاني ونوري السعيد وجعفر ابو التمن وجعفر العسكري و حكمت سليمان وناجي السويدي ورستم حيدر... الخ
8 ــ التصدي لمواقف الاحزاب المهمة المناوئة له ولحزبه التقدم ؛ كأحزاب الشعب و الاستقلال و الوطني و العهد..
9 ـ النزاعات الطائفية والعشائرية المفتعلة او الموعز بها او المفروضة من قبل دوائر( المحتل ــ المنتدب ) والتي ادت الى كثير من الصعوبات والحوادث المؤسفة التي حالت دون تنفيذ السعدون لبرنامجه الاصلاحي .
والتي كان من ابرزها خروج رؤساء القبائل وبعض الشخصيات المتنفذة من حزب التقدم بسبب عدم حصولهم واتباعهم على المناصب ا والامتيازات او الفوائد المادية التي انظموا من اجلها الى حزب التقدم ؛ حزب السلطة .ان هذه وغيرها من التعقيدات والصراعات هي التي ادت الى تلك النهاية المأساوية التي ختم السعدون حياتها فيها بالانتحار في 13 تشرين الثاني عام 1929.
في يوم 12 تشرين الثاني عام 1929 كان الملك فيصل قد أولم وليمة على شرف مستشار الداخلية السيد كنهان كورنواليس بمناسبة ختام اجازته وعودته من لندن وتحدث عبد المحسن السعدون مع كورنواليس في حفلة الملك حيث انتحى به في ركن من اركان الصالون وكلمه عن السياسة العراقية البريطانية واخبره بانه عندما عاد للعراق شاهد تبدلاً كبيراً في سلوك الحكومة وسياستها وانه مستغرب هذا وان عبد المحسن اجابه بأنه قد تعب جداً من الركض وراء وعود الانكليز وعهودهم التي لم تلمس البلاد منها فائدة ترضي الشعب العراقي وان الانكليز حريصون على تنفيذ مطاليبهم وتحقيق مصالحهم.
اما مصالح الاخرين فلا يعيرونها ادنى اهتمام وقد طال البحث والجدل بينه وبين كورنواليس تقريبا ساعة. وفي الاخير صرح كورنواليس بان السياسة الانكليزية لم تتبدل ولا يوجد في الوزارة الانكليزية اية نية لتغيير سياستها في العراق الان.. وبعد خروج عبد المحسن السعدون من الصالون مر على الملك واخبره بما دار بينه وبين كورنواليس واظهر انزعاجه مما سمعه وقال للملك (ان كل ما نرجوه من الانكليز هو خيال وليس له ظل من الحقيقة)..
بعد خروج عبد المحسن من البلاط الملكي ذهب الى النادي العراقي في محلة السنك وبقي هناك ساعة او اكثر ثم رجع الى البيت .
لقد كانت من عادة عبد المحسن السعدون الذهاب الى النادي العراقي كل يوم ويعود منه الى داره في الكرادة الشرقية في حوالي الساعة التاسعة مساء ولكن في الليلة التي وقعت فيها الحادثة عاد الى داره قبل الوقت المعين بحوالي ساعتين فتلقته زوجته بوجه باش كعادتها فقالت له:(لقد اتيت اليوم الى الدار خلاف المعتاد اي قبل الوقت بكثير) فقال لها: احب اليوم ان اتسامر معكم، هل العشاء حاضر؟ فقالت له: نعم حاضر.. وامرتني ان اقدم له العشاء فقدمت الطعام فأكل المرحوم عبد المحسن السعدون حتى اكتفى وكانت زوجته جالسة بجواره وكان يبدو على الرئيس في ذلك الوقت كثرة التفكير وانه مشغول البال مما يدل على انه كان في ذلك الوقت يفكر بعمله الذي اقدم عليه. وبعد الانتهاء من الاكل صعد وحده الى الطابق الاعلى ودخل في غرفة كانت بجوار مكتبه فبقي فيها مدة من الزمن وعلامات الاضطراب تلوح على وجهه ووقف امام غرفة مكتبه واضعاً يده اليمنى على رقبته ناظراً الى السماء مما يجعل الانسان يعتقد انه كان يفكر في امر عظيم او مسألة استعصى عليه حلها وبعدها دخل بسرعة الى مكتبه وجلس وراء المنضدة يكتب كتاباً وقبل ان ينجز كتابة الكتاب قام من مكانه ودخل الى الغرفة التي دخل اليها اول مرة وبقى بها زمناً طويلاً اطول من جلوسه في المرة الاولى ثم خرج منها يحمل في يده شيئاً لم اره جيداً ودخل مكتبه ثم جلس ينجز كتابة الكتاب الذي بدأه اول الامر ولم يكمله في المرة الاولى والذي عرفته فيما بعد انه كان يكتب (الرسالة) او الوصية ودموع عينيه تتساقط كالامطار مما يدل على مدى المه وحزنه. وفي هذه الاثناء تنبهت زوجته الى اضطراب الرئيس وخروجه ودخوله مما لم يكن يعمله سابقاً فساورتها الشكوك والهواجس في امر (البك) لأني اراه هذه الليلة غير مستقر يخرج من هنا ويدخل هنا بصورة مستمرة مما لم اشاهده في حياته ابداً وصعدت زوجة عبد المحسن راساً الى الطابق الاعلى فوجدت الرئيس في الغرفة التي بجوار المكتب لانه بعد ان انجز كتابة الرسالة ادخلها في الظرف وكتب عليها العنوان ووضعها على المنضدة وخرج من مكتبه وذهب الى الغرفة المذكورة فبادرته زوجته قائلة له: (ماذا بك هذه الليلة ان اراك على غير عادتك فهل حصل لك شيء). فقال لها : لم يحصل لي اي شيء ابداً ويظهر انه امتعض من صعود زوجته اليه ومضايقاتها له فخرج من الغرفة ودخل مكتبه فتبعته زوجته ودخلت عليه فراته ينظر الى عنوان الرسالة بعيون دامية فسألته عنها فقال لها: هي الى ولدي علي وارجوك ان تخرجي من هنا لان عندي مهام عظيمة واحب ان اقضيها بمفردي وبدون ان يشغلني او يشوش علي احد فامتنعت زوجته عن الخروج واصرت على البقاء معه في الغرفة وذلك لفكرة لاحت في خاطرها في تلك الساعة وهي ان عبد المحسن كان قبل خمسة ايام قال لها بلهجة حزينة (سأضع لامتي تذكاراً يبقى الى الابد) ولما راى عبد المحسن السعدون اصرار زوجته على البقاء الى جانبه قام من مكانه واخرج من المنضدة مسدساً فتعلقت به الزوجة قائلة له ماذا حصل ايها البك واستغاثت به فلم يجبها بل صوب المسدس الى قلبه قائلاً: (ان مصلحة الوطن فوق كل المصالح) ثم اخترقت الرصاصة قلبه وخر صريعاً الى الارض.
وحسب رواية عبد العزيز القصاب بانه وفي الساعة التاسعة من تلك الليلة جاءني الطباخ مبروك مرتعداً وهو يقول ان الحارس اخبره بمقتل السعدون.. فقمت مسرعاً الى داره في البتاوين التي كانت بالقرب من داري فرأيت الشرطي العريف في الباب وهو يبكي واشار الي بأن الحادثة وقعت في الطابق الثاني فصعدت مهرولاً فوجدت زوجته وبنته عائدة ينوحان واشارا اليه فاذا به ملقى على فراشه جثة هامدة فتقربت منه وشاهدت صدره مثقوباً من جهة قلبه بطلقة مسدس.. فسألت مدهوشاً فأجابتني عائدة بأنه هو الذي ضرب نفسه وهذا هو مسدسه.
ولما ايقنت بمفارقته الحياة تألمت ألماً شديداً ونزلت الى غرفته (المكتبة) وجلست على كرسي امام طاولة الكتابة وانا متأثر جداً وتلفنت الى رئيس الصحة والاطباء واخبرت الوزراء، عن الحادث.. ثم نظرت الى الطاولة فوجدت عليها كثيراً من الاوراق الرسمية، وقد لفت نظري كتاب مفتوح موضوع فوق الاوراق فأخذته وقرأته واذا به كتاب وصيته الخالدة.. (الامة تطلب الخدمة والانكليز لا يوافقون) وبعد ان اجهشت في البكاء طويته ووضعته في جيبي ثم أخذ الوزراء والنواب ورجال البلد يتوادون على الدار ويتساءلون فيما بينهم عن اسباب الانتحار وكان ياسين الهاشمي والسويدي وانا مجتمعين في غرفة من البيت واخذ الهاشمي والسويدي فيما بينهما يتساءلان عن اسباب الانتحار ويستعرضان وينتحلان بعض الاسباب الخارجة عن الموضوع تماماً..
فحين ذلك قلت لهم صبراً عندي اسباب الانتحار الحقيقية، واخرجت لهما ورقة الوصية من جيبي فأخذ كل واحد منهما يقرأها ويبكي. وقلت ان سبب تأخير عرضها عليكما هو رغبتي في حضور اكبر عدد من الزملاء والاصدقاء خشية ضياعها.. وعندها شكروني وقرروا نشرها حالاً فامتنعت عن اعطائها لأحد واخيراً تقدم صاحب جريدة العالم العربي سليم حسون وتعهد بنشرها ثم حفظها من الضياع واعادتها لي في الليلة عينها. فطلبت من الوزراء الذين كانوا حاضرين ان يوقعوا على نفس الورقة فوقعوا عليها جميعاً فسلمتها الى سليم حسون مقابل تعهد خطي على ان يعيدها لي حالاً..
وبعد ان نشرها اعادها لي وسلمتها بيدي لزوجته وأوصيتها ان تحتفظ بها للتاريخ.. واتماما للفائدة انشر في ختام هذا الباب نص الوصية.
وبعد هذه الفاجعة بيومين طلبني الملك فيصل الاول واطلعني على كتاب من دار الاعتماد البريطاني شديد اللهجة كاحتجاج على نشر وصية عبد المحسن السعدون ويتطرق الى وصف الهياج العام الذي حصل بنتيجة النشر واخلاله بالهدوء والطمأنينة، وفي ختام الكتاب يطالبون الملك بمعاقبة المسببين للنشر.
فبعد ان أتممت قراءة الكتاب قلت للملك اني انا الذي عثرت على هذه الوصية، وانا الذي اعطيتها للنشر ولا يوجد مسؤول عنها وعن نتائجها سواي.. فقال لو تريثت قليلا الى ان نطلع على الوضعية لكان احسن للمصلحة ولحفظ الامن والاستقرار.
وبعد ثلاثة ايام كلف المرحوم ناجي السويدي باعادة تأليف الوزارة بعينها فتألفت من اعضائها السابقين بزيادة السيد خالد سليمان لوزارة الري والزراعة وتبدل طفيف في المناصب.. وسارت تلك الوزارة على المنهاج الذي كانت وزارة المرحوم عبد المحسن السعدون سائرة عليه.
وبعد اربعة اشهر حدثت قضية الاستغناء عن قسم من المفتشين الاداريين فاصطدمت مع الانكليز واستقالت وكلف نوري السعيد بتأليفها كما هو معروف في تاريخ الوزارات.
وصية رئيس وزراء الحكومة العراقية
المرحوم عبد المحسن السعدون
النص التركي الاصلي
ايكي كرزم يا وروم مدار استنادم علي.
ارتكاب ايتديكم جنايكم جنايتدن طولابي بني عفو ايت. زيرا بو حياتدن بقدم اوصاندم حياتمدن نه لذت، نه ده ذوق شرف كوردم. امت خدمت بكليور ، انكليزلر موافقت ايتميور ، ظهير يوقدر، استقلال ايستيان عراقليلر ضعف عاجز استقلالدن جوق اوزاق، بنم كبي نامرسلي انسانلراك نصايحي تقدير دون عجز بني وطنه خائن. انكليز بنده سي ظن ايديورلر.
نه بيوك فلاكت بن وطنك ان مخلص بر فدائيسييم هردرلر حقار تلره قاتلاندم مذلتلره تحمل ايتدم صرف اباء واجد ادمك مرفها يشاد قلرى بومبارك بقعه ايجرندر. ياورروم صوك نصيحتم بودركه:
(1) يتيم قاله جق اوفاجق قاردا شلرينه مرحمت (والده نه حرمت) وطنه صداقت (2) ملك فيصل وذريتنه صداقت مطلقه، بني عفو ايت ياوروم علي.
عبد المحسن السعدون
وهوذا التعريب الحرفي الصحيح للنص التركي للوصية.
ولدي وعيني ومستندي علي.
اعف عني لما ارتكبته من جناية، لاني سئمت هذه الحياة التي لم اجد فيها لذة وذوقاً مشرفاً. الامة تنتظر الخدمة، والانكليز لايوافقون، ليس لي ظهير..العراقيون طلاب استقلال ضعفاء عاجزون وبعيدون كثيرا عن الاستقلال، وهم عاجزون عن تقدير نصائح ارباب الناموس امثالي.. يظنون اني خائن للوطن، وعبد للانكليز، ما اعظم هذه المصيبة انا الفدائي الاشد اخلاصاً لوطني.. قد كابدت انواع الاحتقارات وتحملت المذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها ابائي واجدادي مرفهين.
ولدي نصيحتي الاخيرة لك هي:
(1)ان ترحم اخوانك الصغار الذين سيبقون يتامى وتحترم والدتك وتخلص لوطنك.
(2) ان تخلص للملك فيصل وذريته اخلاصاً مطلقاً.
اعف عني يا ولدي علي.
التوقيع
عبد المحسن السعدون
لقد لخص الاديب الكبير امين الريحاني كل ذلك بقوله:
( فاذا كان لا يستطيع ان يسكت المنددين به من ابناء وطنه ؛ والمتحاملين عليه من الانكليز ؛ فقد استطاع ان يسكت قلبه....).
ذكرت أغلب المراجع إلى انه مات منتحراً احتجاجاً على مهاجمة بعض النواب في مجلس النواب لسياسته ووصفوها بالعمالة لبريطانيا ورفضه بشدة لتلك الاتهامات فقرر ان ينهي حياته كاتباً وصيته لابنه البكر علي باللغة التركية التي كان يجيدها كأغلب المتعلمين العرب في العهد العثماني وما بعده لانها كانت اللغة الرسمية في الدولة العثمانية وقد جرى له تشييع رسمي وشعبي مشهود ببغداد توكيداً لوطنيته حينما شعر العراقيون بفداحة المصاب تنادى عدد من النواب ورجال الصحافة وعلية القوم الى تكريم عبد المحسن السعدون ؛ من خلال لجنة عليا تعمل على اقامة تمثال له يليق بسجله الوطني وتضحياته ؛ على ان
يمول من تبرعات ابناء الشعب اسهاما و تقديرا لدوره في الحياة السياسية والاجتماعية وقد عهدت اللجنة الى الفنان الايطالي العالمي بيترو كنونيكا بمهمة تصميم و نحت التمثال ؛حيث سبق لهذا الفنان الكبيران نحت تماثيل لفيصل الاول؛ومصطفى النحاس ؛ واتاتورك ؛ والجنرال مود.. وفي عام 1933 انجز كنونيكا التمثال ورفع الستار عنه في ساحة صغيرة خضراء تقع في نهاية شارع الرشيد بالقرب من مدخل ابي نؤاس ؛ حيث كان يقابله آنذاك متحف صغير لمخلفات الملك فيصل الاول البسيطة . والتمثال يصور عبد المحسن السعدون واقفا بملابسه الكاملة معتمرا سدارته ؛ و يحمل بيده اليسرى مجموعة من الاوراق ؛ ويشير بيده اليمنى الى صدره ؛ وهو مصنوع من النحاس ؛ اما القاعدة فقد كانت من المرمر الصقيل وقد برزت عليها تماثيل صغيرة لبعض شخصيات تلك الفترة من تاريخ العراق السياسي المعاصر .وتم سرقته في نيسان 2003 وتم الاستعاضة عنه بتمثال اخر موجود حاليا في نفس المكان .
التعليقات (0)