انتحار الإمبراطورية الأمريكية /
إبراهيم أبو عواد /
القدس العربي / لندن ، 22/6/2010م ...
إن الأداء السياسي الأمريكي مرتبك للغاية . فمفهوم الأنساق السياسية قد تحول من القيمة الفكرية السامية إلى قيم انكسار المعنى . وهذا المبدأ الانسحابي الخطير إنما يهدف إلى إعادة تشكيل عقلية الوعي الذاتي للأنساق الإنسانية بما يكفل استمرار تأزيم العلاقة بين الإنسان وذاته، والإنسانِ وبيئته، والإنسانِ والآخر. وكما أن عقلانية الانتكاسات الفوضوية هي اللب الفلسفي الأولي لتعريف السياسة العالمية المعاصر ، فإن الخدع البصرية التي تتقمص الأشكالَ الإنسانية هي التجريد التطبيقي على أرض الواقع النابع من الصورة المتخيَّلة للعالَم في ذهن صناع القرار على الصعيد العالمي . فاللعبة المتكونة من الفعل ورد الفعل ، أو من النتيجة الحتمية للمعنى وأرضيةِ الواقع المصنوع الحاضن لحزمة النتائج بصورة غير تلقائية ، إنما هي لعبة ترمي إلى إعادة صناعة الكائنات الحية وفق منظور التدجين . ووفق اندلاع الغبش الفكري في نخاع الأنظمة المعرفية تبزغ طبيعة الانهيارات التي تشكِّل الصورةَ النمطية للإمبراطورية الأمريكية الخارجة على قانون الإنسان ، والمضادة لإشارة المعاني الحاسمة . فالوهم في تداخلات الغبش الأيديولوجي الأمريكي يغدو تياراً نسقياً تحطيمياً لهالة المعنى الوجودي في الذات الكيانية الإنسانية . والمؤسف أن مسار الإنسان المضاد لكينونة إنسانيته صار هو المسار الفاعل لعلاقات الترابط بين بؤر المعرفة السياسية ، وتطبيقاتِها على أرض الواقع في أُطر الاستغلال ، والتبعيةِ ، واضطهادِ الحلم الإنساني ، وطردِ المعنى من الطبيعة الفكرية إلى التشكيل العسكري الأمريكي المتَّجه نحو ديمقراطية الدبابة ، وحريةِ صوت الرصاص . ولا يخفى أن المضمون المأزوم لتقاطعات الانكسار المجتمعي الذي تكرَّس على شكل كتل سياسية متنافرة هو في الحقيقة بؤرة التفكك الاستقطابي المبعثر في اختلال وجوديات حلم الإمبراطورية الأمريكية المتبخر . ومن خلال التجريد المعنوي للتداعي في تشوهات صورة النظام الرأسمالي الأمريكي، تتجذر هالة الانقسام الشرسة في إفرازات أزمة المنطق . فالاعتماد على عسكرة السياسة عبر تأصيل منطق القوة يُعرِّي المعنى من حركات الحوار البشري المتناغم ، ويؤدي _ في نفس الوقت _ إلى تعميق التفتيت المتواصل في البيئة الأمريكية المتأثرة بضعف البنية الأخلاقية الداخلية . فأمريكا تتألف من ولايات متضادة في مبادئ المعنى الفكري لحقوق الإنسان . وهذا يعكس إشكالية التلاقي القسري ضمن أطر جغرافية مُحالة إلى تيارات سياسية . فالمبدأ الظاهري يوهم بوجود وحدة مجتمعية ما ، إلا أن التأصيل الدينامي لحالة الحراك الاجتماعي في المجتمعات الأمريكية المتناحرة التي تُصوَّر على أنها وحدة مجتمعية واحدة يعكس بدقة صورة القشة الرابطة بين تقاطعات الولايات المختلفة ، وطبيعةَ الصمغ الضعيف المتآكل الذي يربط بين غضاريف الوحدات المتباعدة في تداخلات قيم الخريطة المعنوية للإمبراطورية الأمريكية التي تعاني من تبعثر مستويات الطاقة ، والضغطِ بين المركز والأطراف . أي تشتت طاقة الانبعاث الحضاري الخارج من النواة المركزية باتجاه أنوية جانبية ضحلة . كما أن الشطط الطبقي بين الولايات الغنية التي تعتمد على التكنولوجيا والصناعات المتطورة ، والولاياتِ الفقيرة العائشة على زراعة القطن وبعض المحاصيل ، يعيد إلى الأذهان شبحَ الحرب الأهلية الدامية بين الشمال والجنوب ، وهذه الحرب قد تتخذ أشكالاً متعددة ، بما فيها الشكل العسكري القتالي . فالنارُ الكامنة تحت الرماد في مجتمع يفتقد إلى الترابط الفكري الواضح تلغي مفهومَ الأمة المتماسكة، وتُبرِز وحداتٍ مجتمعية مخادِعة. كما أن نواة طبائع النماذج الرأسمالية تتمحور حول تحويل الفرد إلى كيان استهلاكي مادي عبر تفريغ العقلانية من المحتوى العاطفي للوجود الآدمي ، ثم إحالتها إلى كينونة سِلَعِيَّة محضة تمتص قدرةَ الفرد على التواصل مع ذاته والآخر ، لتجعل منه مجتمعاً شخصانياً مكبوتاً طارداً للعاطفة ، متقوقعاً حول العمود الفقري للاستهلاك المتوحش المناوئ للإنتاج النافع . فأمريكا هي بيئة ناتجة عن استئصال السكان الأصليين ( الهنود الحمر )، والعمل بشكل منهجي على مصادرة ثقافتهم، وتقديم صورتهم في كل وسائل الإعلام كهمج وبدائيين وبشر من الدرجة الثانية ، حتى يتم إعادة صناعة التاريخ فوق ميثولوجيا الرَّجل الأبيض المنتصر والمتحضر ظاهرياً . وهذا المنهج التكريسي يستند إلى آلة إعلامية جبارة قادرة على الوصول إلى أبعد نقطة وفق أحدث الأساليب الدعائية المدعومة برؤية التخطيط الإستراتيجي بعيد المدى . والمشكلةُ الأساسية هي غياب الصوت الآخر الذي يُعارِض ويَدْحَض ويكشف عن نفسه ، لذلك يتكرس الصوتُ الأوحد كصوت الحق والحقيقة دون معارضة . وحتى لو وُجدت المعارضة فستكون ذات تأثير ضعيف منكمش ، لأنها يتم إقصاؤها ضمن خطة منهجية شرسة . ومن العوامل الهامة التي ساهمت في تجذير هذا المنطق اللامنطقي ، ضعفُ البنية الثقافية في البيئة الأمريكية الشعبية ، مما ينعكس سلباً على مجتمع الحصيلة السياسية، والحصيلةِ المعرفية العامة القادرة على غربلة الأفكار، وانتهاجِ متوالية النقد والنقض. فعلى الرغم من أن الشعب الأمريكي تكاد تكون نسبة الأمية ( عدم القدرة على القراءة أو الكتابة ) فيه معدومة ، إلا أنه يعاني من الأمية الثقافية المعرفية . فهو ضعيف إلى حد الغثيان في السياسة الخارجية . وكل تفكيره محصور في محيطاته ذات التماس المباشر بحياته الشخصانية ، مثل الضرائب المفروضة عليه ، والراتبِ الشهري ، والمسكن والسيارة ، والعلاقاتِ العاطفية . وهذا نتاج متوقع للقيمة الاستهلاكية الصادمة في مجتمع يملك معدلاً عالياً في استهلاك الطاقة . وكل هذه التحديات ساهمت في إخراج القطار الأمريكي عن السكة ، فلم يعد المراقبون لهذه الفوضى الإمبراطورية العارمة يملكون إلا أن يتوقعوا لحظة الاصطدام ، وانتهاء الحلم الأمريكي ، فأمريكا تأكل نفسها ، وهذه نقطة النهاية .
http://ibrahimabuawwad.blogspot.com/
التعليقات (0)