إنّ عصر الانتفاضات الذي بدأ حاليا , ليس مختلفا عن عصر التحرر من الاستعمار في القرن الماضي إلاّ في مدى حاجته إلى التوقيعات الهووية الابداعية التي انتجها الجيل العربي لاول مرة في التاريخ . كما إنّ خاصية هذا التحرر الجديد هي التحرر المدني في معنى جذري لا يستوفيه المعنى القانوني أو الحقوقي الشائع للعنصر المدني التقليدي.
ان وصف الانتفاضات بأنّها مدنية . في معنى أنّها تهتم بالأساس بشكل المدنية الذي يجدر بأجيال ما بعد الهووية أن تتخذه نموذجا للعيش.
او بمعنى أنّها خرجت من التقابل الإيديولوجي في العلاقة مع الدولة الذي تعاني منه الانظمة العربية بين موقف علماني وموقف ديني. كما انها لا تحمل برنامجا سياسيا, وتتمرد باساسها الحيوي على العصر الدكتاتوري، و تهتم بالسعي وراء الحرية بلا مضمون تقليدي.
إنّ هذا التحرر المدني الذي ياخذ شكله الحيوي الابداعي الجديد كمسلسل من حلقات له ما يتبعه, هو اختراع شبابي عربي ببراءة اختراع يحمل صبغة العولمة وبصمة العالم الافتراضي الالكتروني الجذري الشديد الخصوصية. ولذلك فإنّ الغرب لن يساعدنا في إنجاز الحرية التي يريدها الشباب بواسطة تقنية الانتفاضة التقليدية التي يعرفها هو منذ قرنين من الزمن.
اننا نشهد نهاية الذهنية "الزعامية" العربية الديكتاتورية بشكل مثير. ولذلك فبروز "التعددية" في النقاش الهووي السائد اليوم هو حق مدني جذري لجموع ما بعد الهووية. كما إنّ الانتفاضة و التي هي تقنية العالم الافتراضي نزلت إلى الشارع . والفضاء الرقمي هو أوّل فضاء تواصل شبكي، حيوي، متعدد، متكثر، متدفق، متفجر، سائح، مفتوح، متنام، لا يملكه أحد، بل هو ملكية شائعة، مشتركة، متنقلة، ميكروفيزيائية، تتحرك فيها المعلومة أو "الميمة" تنقّلا جينيا. ولا احد يستطيع أن يدعي أبوّة هذا الزخم الحيوي من الذوات الحرة في فضاء العالم الافتراضي مثل "الفيسبوك" ؟ او بإمكانه أن يطالب تلك الذوات الحرة بشرط "الشرعية" أو "القانونية" لما يفعلون ؟
هؤلاء الشباب الذين انتفضوا دون سابق إضمار أو سابق برنامج هووي معطى سلفا هم أوّل جيل مبدع متعدد من الداخل بلا رجعة. ليس فقط لأنّه خارج للتو من تنّور العصر الدكتاتوري الذي ساهم في إذابة الفروق الهووية بين الجموع التي استبدّ بها، بل لأنّ "الشباب" صيغة حيوية وليس شريحة سياسية. كما ان الانتفاضة قد اتت من طبيعة الكائن الشبابي بما يتميز به: من طابعه المتكثّر، الانفعالي، الغضبي، الحر، المتمرد، الانفجاري، الهامشي، التكراري، الاختلافي…
اما الميزة الاساسية لهذه الثورات فهي الابداعية: بمعنى إنّها لا تقدّم أيّ تصوّر هووي سابق جاهز لنفسها، ولذلك هي لا تفرض نمطا من الحكم أو جهازا للثورة أو قيادة منظّمة بالمعنى التقليدي وذلك لأنّ الانتفاضة ليست ثورة محترفة، لها شخصية مستقرة الملامح يمكن الدفاع عنها أو فرضها أو تفسيرها. فنحن نشهد أوّل جيل من الأحرار الثائرين المبدعين ولكنها ليست الثورة بالمعنى السائد منذ قرنين.
لقد فرض الشباب المنتفض معنى ابداعيا جديدا للانتماء: لم يعد الانتماء توقيعا هوويا على مفهوم سياسي معطى سلفا، بل اخذ الشكل الحيوي للحرية. لان الحرية هي مولود جديد دائما. وباعتبار ان الانتفاضات ولادات حرة لأجيال بلا هوية سياسية جاهزة.
ولعل اول خطر يداهم الشباب هو ظهور فن سرقة الثورات وتحريرها من الابداع، ومحاولة تحويل مطالب الثورة إلى مشاكل إجرائية أو تمثيلية أو "لجانية" (من فن تكوين اللجان) أو استبدالية أو تعويضية تتطلب "اختصاصا" أو مستوى "تكنوكراطيا" معيّنا، لا يملكه "الشباب" الابداعي المنتفض، بوصفه يبقى "قاصرا" عن اختراع الشكل المدني المناسب لحريته والذي يحتاج الى زمن ووقت لكي يقوم بافرازه من داخل هويته الجديدة . ولذلك علينا أن نحذر من تحويل الحرية إلى "اختصاص"، نستورد له فنّيين مختصين عاشوا في الغرب نأتي بهم لتعليم شعوبنا كيف يتمدّنون بعد أن تحرروا بشكل مفاجئ وجديد لايعرفه الغرب لانه لم ينتجه .
واهم مظاهر العولمة في المفاهيم في عصر الثورة
1- ان اول تغيير هو البعد (مابعد هووي) اللاهوية بامتياز.اي ان الفرد لا يدافع عن أيّة مدوّنة إيديولوجية أو رابطة قومية أو منظومة عقدية بعينها.
2- انسحاب مفهوم الآخر فجأة وظهور نوع مثير وحيوي وغير مسبوق من "الأنا" الحر. او بعنى اخر (انا حر اذا انا حي)
3- ان الثورات لم تكن بلا قيادة بل أنّ التغييرحصل في مفهوم القيادة. قد حوّل الجمهور معنى القيادة من قيادة النخبة إلى قيادة ميكروسياسية آنية ومؤقتة ومفتوحة ومتحوّلة ومتكثرة ومتدفقة ومتفجرة كنهر من تسونامي الحرية المندفعة دون أن تمتلك هدفاً منهجيا محدد سلفا كما ان هذه القيادة تتناسب مع شخصية الفرد اللاهووية الجديدة.
4- ومن نزل إلى شوارع الانتفاضات يعرف بيسر شديد أنّ الكثرة موج من المتحررين الساخطين الذين يقودون أنفسهم بشكل لا نستطيع أن نقول عنه حتى أنّه "جماعي": فههنا ليس ثمة "جماعة" بالمعنى الدقيق. هناك كثرة حرة ومشتركة ولا يمكن لأحد أن يقول إنّه قاد انتفاضة. بل فقط أنّه "شارك" فيها، أي ساهم في الاختراع المشترك الحر الذي تولّد عن ارادة التغيير منتسبا الى كثرة بشرية بلا توقيع شخصي.
5- لقد فرضت انتفاضات الشباب نوعا جديدا-قديما من رمز الثورة: إنّه رمز "الشهداء" ونحن نضع اللفظ في الجمع قصدا.كما انه لا يتعلق الأمر بفكرة "الشهيد" التقليدية، شهيد الجهاد لنشر كلمة هذا الإله أو ذاك بل لنيل حق من حقوقه كفلته له كافة الشرائع الالهية. هذا الرمز هو ظاهرة الشهداء كمعطى أخلاقي وإنساني بالدرجة الأولى للذين قُتلوا بدم بارد من قبل الدولة/الأمة من اجل حلّ أمني لمشكل حيوي لا تملك الدولة وسائل مدنية مناسبة لمعالجته لانها لاتدركهه وليس باستطاعتها ادراكه بسبب انتهاء الصلاحية.
6- التغيير في مفهوم "المواطنة" من فكرة هلامية فارغة من أيّ محتوى حقيقي. الى فكرة المواطنة النشطة عندما يشعر المواطن بأنه ليس حالة سياسية هلامية ليس لها حق في الحياة وان عليه ان يتحول إلى شخصية جسمية مدنية مستقرة معترف به وبحقه في المواطنة التي تستحق من اجلها الحياة. او بعبارة اخرى المواطنة بعيدا عن الجهاز الهووي الامني و الذي يعتبرها مجموعة "أجساد" لاتحمل حرمة أخلاقية كونية أو ملزمة قد يُعتد بها. وهنا لابد من التمييز بين الجسم والجسد. فالجسم الهووي هو الشكل المحرر للجسد الذي يحمل بذور الثورة.
إنّ انتفاضات الشباب هي انتفاضات "نوابت" بامتياز: نباتات حرة فاجأت مخططات الدولة الأمنية وكسّرت مستقبلها وذلك فقط بواسطة أجسام جائعة وفقيرة وسائبة ولكن منهمرة ومنتثرة في ساحات المدن الحديثة دون الدفاع عن أيّ جدار هووي نهائي لنفسها, ولأوّل مرة نجد تحرّر "العنف" من كل الأحكام الأخلاقية المسبقة عنه سلبية كانت او ايجابية, ويسترجع دوره الحيوي في بناء الحرية الانسانية. و لأوّل مرة تنجح الشعوب في استعمال طابعها الهووي الرقمي والمتميز بالتحرر من الانتماء الذي صنعته الدولة /الأمة الحديثة لأغراضها الأمنية، ضد إرادة تلك الدولة نفسها.
7- ولذلك فالبرنامج الوحيد المناسب لأجيال ما بعد الهووية المبدعة هو آداب حرية حيوية متعددة وكونية. والذي نعبر عنه بالمعنى الحديث هو عمل "ثوري"، لأنّه بإمكانه وحده أن يعيد البراءة الأصلية إلى "أجسامنا" دون أن يتدخل في "أجسادنا" وعلى كل حال هو يوفر أدوات كي ندافع عنها ضد "أجسادنا" المسجونة بعدُ في تواريخ هووية طويلة الأمد.
التعليقات (0)