امرأة ولكن
بقلم / ثريا نافع
إن المرأة التي أعنيها ليس لها شكل خاص أو محدد إنها أي امرأة، وكل امرأة، بكافة الظروف والأوضاع، بكل مرحلة من مراحل حياتها. سواء كان لها مهنة ما أو عاطلة عن العمل. كلهن في تلك القوالب ضمن الحصار المتعارف عليه نساء. اكتشفت ذلك فجأة، قبلها لم أكن أظن أن هناك إجحافاً ما بحق النساء، في بعض المواقف التي عشتها لمست مدى كبر هذا العالم ومدى اختلاف مخلوقاته. وجدته مثل بحر هائج ووجدت الناس مثل الجزر تتحرك تتقارب تتباعد بقدر الاحتياج وكلما كان الاحتياج ملحاً فإنهم يتفوقون في ابتداع وسائلهم الخاصة من أجل تجاوز كل العوائق الطبيعية والمكتسبة فتتجاذب وتتنافر إلا أنها في معظم الأحيان تلم نفسها على نفسها حيطة وأماناً لتخلق معاناة من نوع جديد. معاناة سلطات الفرد الواحد الداخلية القابعة فيه والتابعة له، ثم يعود ليكتشف من جديد أن أشد معاناته قسوة هي شعوره بهذا الانعزال الاختياري فيعيد محاولته للتواصل، وقد يحقق ذلك بمنتهى الحكمة إذا استطاع تقدير الأمور وبلا استعجال إذا ما أتاح كل فرد لنفسه فرصة حقيقية فى أن يرى الناس من فوق كأنما هو في مركز قوة ويقارنها بتلك النظرة الأفقية التي اعتاد أن يراهم بها عندها سيعرف متى يقدم ومتى يحجم سيعرف أن الإنسان محصور بين زمان ومكان يدور بهما محاصر بأناس لهم نفس الأهمية والتفاعل والقدرة على أخذ القرار. كذلك سيجد أن الفكرة التي أحاطت بها العقول عندما تتكلم عن المرأة لتصورها بأشكال وألوان مختلفة، المرأة التي حيرت العقول وجعلتها تنسى منطقها ..
ومن هنا بدا ضحالة تفكيرهم بها ككتلة صماء جامدة وتناسوا أنها من لحم ودم، صنو للآخر، المخلوق مثلها، متميزة، تفكر، تعترض، تقرر، تعاند، تقول، وتفعل، تناسوا كل شيء وقالوا إنها اللغز.
إنها لغز والآخر لغز لأنهما ينتميان إلى هذا الكون اللغز أيضاً، كون محير غير مستقر أحبط كل من حاول تحديده ضمن قوانين ونظم فانقلب رأساً على عقب يخرج عن الطور والمسار والمدار ويغير ويتطور وليس الإنسان سوى حالة من حالاته وليست المرأة إلا هذا الإنسان في أصدق تعبير وأوضح تغيير في كل حالة تعيشها ومع كل تغيير تصيبه هي في حالة تمرد على لحظة بذاتها فيها تحدد نوعها وتحدد معه بالتالي قدرها ومهمتها في الحياة. استمرار هذا الحال لا يعني أنه صحيح وطول فترة المقاومة وتأخير الوصول إلى ما هو مطلوب لا يعني التسليم والرضا والقبول بحياة ضيقة رتيبة. في الصدور قدرات خلاقة تبحث عن مخرج ولا بد انها ذات يوم ستجده عندما تتخلي عن هذا الصبر المزعوم حين اكتشافها أن انتظارها ليس أكثر من عجز تربت عليه ستتمرد عليه وتقهره وستعرف حينها ماذا تريد وكيف تحقق ما تريد.
هذه المرأة الفكرة ليست إنسانة متكاملة فالحياة المرسومة لها تافهة غير مطلوب منها المساهمة في الحياة بكل وبأدق تفاصيلها تبقى هذه المرأة محدودة النمو مثل كل النباتات التي تعيش في الظل ضمن أصص لا تنمو إلا بقدر ما يسمح لها حدود الحامل المغروسة فيه وتعيش تحلم بآفاق الحقول ونباتاته الرائعة التي تعيش أطواراً مختلفة ترعاها أشعة الشمس تارة والهواء النقي الطلق تارة والفضاء اللامحدود تارة.
أما خارج الرؤوس فهي إنسان لها خلقها الخاص واحتياج وأحاسيس، ففي حالة الهدوء تجدها في منتهى البساطة جميلة رقيقة وواثقة ولكن تبقى بحاجة لمن يفهمها ويتعاطف معها أما إذا وصلت للإحباط واشتد ألمها واغترابها تبدو وكأنها أخرى ليس لها علاقة بتلك الإنسانة الوديعة التي كانتها من قبل. تختلف كاختلاف الليل والنهار مع قدوم الفصول وتراجعها ولكن الذي يقدر إنسانيتها يعرف أن هذا التغيير طبيعي وأنها قد لا تشبه نفسها في بعض المواقف بل وأكثر الأحوال تكون عالماً مستمراً في التحول والتطور والتجديد.
عمر الإنسان ليس سوى فترة زمنية قصيرة ومحدودة ما بين ميلاد وموت وويل لمن أضاع عمره في الهذر وفي الغث من الأمور، ويل لمن يشعر آخر المطاف أن أيامه سرقت منه أو إنه أضاعها عبثاً أو هناك من أحالها له بقسوة مثل رياح السموم جلدته وأطفأت شعلته. هذا الكلام ينطبق على كل إنسان رجل كان أو امرأة ومع ذلك فإن المرأة معرضة أكثر من الرجل لتبديد أيامها. كل ما أنجزته وما قدمته يصبح بحكم العدم إذا بقيت متذكرة نفسها أو حاولت أن تجد مكانا لها بعد إنجازها لمهامها الأصلية ولن يرحمونها إن عاشت بفراغ بانتظار النهاية. فكيف يريدونها أن تعيش؟ لو تركوا لها هذه الحرية البسيطة على اعتبار أنها الأقدر على معرفة ما يناسبها لسوف تجد طريقاً تبرز فيه قدراتها وإتقانها لمهمة جعل نفسها عضواً فعّالاً في محيطها دون التفريق المخيف في النوع مع الرجل. قد يعترض أحد قائلاً إن المرأة استساغت الشكوى وتعليق همومها ومشكلاتها على عاتق الرجل فلو أنها أرادت لاستطاعت قد يكون فيه شيء من الصحة أحياناً إلا أن الفرد منا لا يمكنه الاستغناء عن المحيطين به وجودهم وتشجيعهم وتقديرهم لأن كل ذلك يخلق الأمل والحماسة وإن لم يملكوا لنا قدرة التغيير الحقيقي.
إن الرجال والنساء قد تآمروا على جعل حياة أي امرأة عذابا في عذاب يراقبونها يحصون عليها حركاتها وسكناتها وعمرها ها هي الآن صغيرة طائشة لا تعرف كيف تسيس الأمور بمهارة فيلزمها رقيب عتيد وها هي تتفتح وتقترب نحو الصبا فالأخير اختيار زوج لها ثم يدفعونها أن تهب حياتها لبيتها ولزوجها وأولادها ها هم الأولاد يكبرون ويكبر همهم في قلبها وعبئهم على كاهلها فتستمر في الوقوف ها هم نجحوا وتفوقوا وعملوا وتزوجوا وفرغت لنفسها فها هي العيون ترمقها باستنكار لقد كبرت فمتى ستستكين قلة من النساء من تلقي بمثل هذه الأقوال والنظرات عرض الحائط وتستمر واقفة تناضل كل يوم دون أن تطرف لها عين , تعيش اللحظة منتظرة اللحظة القادمة بكل ثقة لتعوض اللحظات التي بددت. كل يوم تفتح أمام عينيها مدى بحجم السماء مدى لا تحده أرض يابسة أو بحار مدى أكبر من كل الأعمار تتجول فيه مملؤة فخراً بكل إنجازاتها. بينما الأخرى قابعة بصبر نافذ تنتظر نهايتها أنهت مهمات خلقت من أجلها تبدد لحظات حاضرة وأخرى قادمة بالبلاهة نفسها التي كانت تبدد اللحظات التي ذهبت فكرهت اللحظتين. فانظر إلى حصاد كل منهما على حدا وقل الأمر لله من قبل ومن بعد.
حياة الإنسان لا تنتهي بانتهاء مهامه في الحياة. الموت وحده هو الذي ينهي حياة الإنسان، هو الإشارة الضوئية التي تعني قف.. الحياة طبيعتها في استمراريتها فيصبح اليوم هو الأمس ويصبح الغد هو اليوم سائرة أبداً في اتجاه واحد لا يرتد ولا يمكن التكهن أي غد سيحمل في جعبته النهاية. تلك النهاية قضية أخرى طبيعية أيضاً محتومة وواضحة على شدة غموضها فهي تنتظرنا أو نحن الذين بانتظارها في كل حين وفي كل ركن، لذلك فإبعادها عن التخطيط للحياة أمر طبيعي وواجب. استمرارية الحياة تعني التغيير وتهدف لإعطاء الحياة تطوراً أكثر وإنتاجا أغزر وتفتحا ووعياً فمن يتوقف عند زمن ستخذله الأزمنة القادمة وتبخس قيمة حياته كلها.
من الطبيعي أن تبدأ حياة الفرد بتأمين ضروريات هذا الوجود ومن ثم الوصول إلى أسمى غايات الوجود الإنساني. يستلزم ذلك العيش بضراوة بتجربة حياتية كاملة مهما كانت مملؤة معاناة وألم وقسوة معظم الأحيان إلا أنها لا تخلو من جانب إيجابي لأن عذاب النفس يولد تمرداً واعتراضاً مقاومة ودفاعاً. عندما تمضي الأيام حاملة معها كل ما علق بالنفس من سلبياتها تترك الجانب الإيجابي مشرقاً حلواً مهما كان ضئيلاً.
المرأة إنسان إذن لها ما عليها. لأنها إنسان عليها أن تعيش الحياة بكل أطوارها وعليها أن تناضل لتحافظ على كيانها المستقل وامتيازاتها التي جبلت عليها. تبدأ احتياجاتنا بالأهم ثم المهم فكل أمر من أمور الحياة له أهمية ما ولا تعاش الحياة عبثاً إلا في الحالات التي تقع تحت وطأة ظلم ما أو ضعف ما. التغير قانون الحياة والذي يتوقف عند زمن ما فإنه يفقد بقية الأزمنة القادمة الحاملة له خلاصة تجاربه ليتقدم نحو النجاح بثقة وطلاقة.
الحياة التي تبدأ عادة بالاحتياج للضرورات التي تقيم أود الإنسان من مأكل وملبس ومأوى، غالباً ما يوصلها إصرارها على التقدم إلى أسمى غاياتها بتحقيق ذاتها، إذا سارت حياتهم سيراً طبيعياً. إن الوصول إلى ذلك السمو ليس بالأمر الهين معظم الأحيان فقد تجابه الحياة بالكثير من العقبات والصعوبات فينكص معظم الناس عن الصراع. السير الطبيعي في حياة كل منا تبدأ بتوفير الشعور بالأمان والانتماء والقدرة على الحب وتمر بأطوار من المعرفة والعلم ثم البحث عن الجماليات الأسمى فالأسمى حتى تصل إلى تلك القمة لتتوج بها حياتها وتختتم بها مهام الحياة وتعترف لنفسها قبل اعتراف الآخرين لها أنها استحقت العيش بجدارة. إن من تحققت لهم مثل تلك الحياة قلما يستطيعون هجر العالم الأعلى الذي سعوا جاهدين للارتقاء إليه وقلما تختلط عليهم الأمور وينخرطون في عالم المصالح البشرية غير الأمينة.
التعليقات (0)