مواضيع اليوم

امتدادات الذات في قصيدة " سليمان"(1)لـ الشاعر سليمان جوادي

سعيد موفقي

2009-05-15 09:30:27

0

 

إنّ استحضار صورة شيء ما ، قد لا يعني بالضرورة استكمال الشيء في مكوناته الذاتية ، و من الصعوبة بما كان أن يدّعي العقل أو الخيال الإحاطة بالمرتكزات التي تساعد على الاستحواذ بمختلف مستوياته ، المعنوية و الذاتية ، و من هنا فالنّص مهما كانت مستوياته هو الآخر يظل عالقا بجملة من الارتباطات الداخلية و الخارجية كونه "مدونة حدث كلامي ذي وظائف متعددة "(2)
يجمعها تواصل مفارق كثيرا ما يعللها الحنين إلى الماضي و تذكر الطفولة أو الشباب أو الكهولة أو الشيخوخة أو الأصدقاء ،و مختلف العلاقات التي ترابطت نتيجة تفاعلات و انفعالات ، استظهرتها مثيرات اختلاف المكان و الزمان و تشابه العلاقات و تطابق المفارقات و التأثر و التأثير في مراحل كثيرة متعاقبة ، هذه الصور و غيرها تتزاحم في قصيدة "قال سليمان" هي رحلة بحث افتراضية و إن كانت وقائعها كانت يوما ما حقيقية تلبست مع رهانات الذات و ارتباطاتها المتجددة :
أفتش عن غير وجهي
لألقي الأحبة مبتسما
مثلما عهدوني
أفتش عن غير ثغري
لألقي التحية دون ارتباك
أفتش عن غير كفي
لأضغط عن كفهم جيدا
ولأحضنهم جيدا
و لأدخلهم في بقاياي
أنشرهم في دمائي

إنّ الصورة التي يبحث عنها الشاعر تمتدّ أجزاؤها إلى اتجاهات مختلفة بدءا بصورة الوجه و تكرار فعل (أفتّش) ، الذي يستمر مع رحلة البحث ، في مختلف دلالاته الجزئية و الكلية ، تتحول العملية إلى ذات مفقودة تحاول أخرى لملمتها تحت تأثير الاندفاع و التحرّك تجاه مختلف أنظمة الذات الأخرى (أفتش ...وجهي ، أفتش ....ثغري ، أفتش.... كفي) ، فهذا التداعي و التتالي مقصود في ذاته ، يجمل دلالة الإصرار و ثقل المحنة و متعة التصور و لهفة تحقيق الذات في الآخر(أنشرهم في دمائي) ، و في هذه الصورة يدرك الشاعر تماما بأنّه أمام مرآة ذاته التي لم يستوعب أجزاءها الحقيقية و لم يرضه حاله و استكانة الذات و تخاذل الأحلام ، مبررات كثيرة اختلقها ليعطي نموذجا جديدا لصورة طبيعية طالما افتقدها في واقعه و لم يلتمسها في ذاته ، سليمان ثان ، المفقود الذي يشعر بالسعادة:

أفتش عن رجل
غير هذا الذي يسكن الحزن فيه ليسكنني
فيسر الأحبة عند لقائي
أفتش عنك سليمان
يا رجلا ضيّعته المدينة
و المشكلات الصغيرة و الحب

الإحالة على التاريخ مثل ابن دراج و ابن عبدون و الرندي(3)
إنّ كثرة أساليب النّداء بعد هذا العناء و استمرار رحلة البحث تعني الصوت المتكرر و المتقطّع لعوامل قاهرة ، افتقاد مصادر الضوء يعني وجود الظلام ، و هاهنا يتحرى الشاعر الحقيقة حتى و إن لامسها هذا الظلام و باغتها ظلم المدينة و سخط الطبيعة ، هذا النّداء ليس حقيقيا ، خطاب للبعيد المفترض ، نداء للذات و المكان و النفس: 

أفتش عنك سليمان
يا باقة من ضياء تلاشت
و يا فرحة في قلوب العذارى تداعت
و يا وطنا كان يؤوي الجميع
و لكنّه حين قيل انتهى
فما يعره الجميع التفاتة 

مختلف الصيغ التي اختارها في هذا المقطع لها دلالة ذاتية ، بعد الإفراد (و لكنّه...) ثم الجمع (فما يعره الجميع التفاتة ) ، و هي عملية انتقال ذكية في إلقاء اللائمة على الذات من خلال الآخرين ، ففظاعة الموقف و تداخل الصور التي استحضرها الشاعر ، تتداول المغايرة للذات التائهة (سليمان) ، (يا رجلا) ، و الاستغراق الزمني في الذات (قبل بضع سنين) ، هذه المتتالية الذاتية الزمانية و المكانية اختارها الشاعر بقصد محاصرة الانفلات النفسي و من ثم الامتداد عبر أيقونة التراجع التي تصورها الشاعر كمدخل ثابت لن يتغير في مختلف المراحل ، و من الواضح أنّ أيقونية الكتابة تعتمد الآليات التمطيطية و جوهر هذا المستوى (أي علاقة المشابهة مع واقع العالم الخارجي) (3) 

فما أفظع الناس في عصرنا
و أحد الشماتة
سليمان
يا رجلا كان يسكنني
قبل بضع سنين

و من أبعاد علاقات المشابهة لجوء الشاعر إلى المفارقة الانفعالية ، لأنّ حضور الذات اتكأ على تفعيل الحزن و ادّعاء السعادة ، و هذا في الحقيقة هروب مبرر ، تخلّص به الشاعر من تفاصيل الذات الغائرة في تصورات أكثر ألما مما تعيشه الذات : (يصرح... الحزن ، رجل لا يحب .... بالحب يشقى ....رغد العيش....العذاب....) ، تمكن الشاعر من توليد معان يشبه بعضها بعضا قصد استحضار الذات و تخفيف عبء المعاناة ، تلك مزية تحسب للشاعر كونه تفطن إلى مستويات كان بإمكانه كتمها ، و لكنّه أباحها اختيارا و ليس جبرا ، التفاصيل التي أشرنا لها لم تكن تكرار لما تعرض له الشاعر في الصور الأولى :

يصرح أن ليس أدعى إلى الحزن
من رجل لا يحب 
و ها أنت بالحب تشقى
و يعلن أن ليس مثل الوفاء
سبيلا إلى رغد العيش
لكن وفاؤك
شخص فيك العذاب و أبقى

و يظل الرمز حاضرا ، ثنائية سليمان الغائب في ذات سليمان الحاضر ، و لعل ظاهرة التشاكل الحادثة في هذا الموقف ما يسمى الحضور و الغياب ، خاصة لما أقحم اعتبارين زمانيين ، معالجة المجايلة و بعث مرتكزات الذات ، و محاولة افتكاك العلاقة القديمة بالعلاقة الجديدة على اعتبار موقف الرفض عملية استثنائية لسليمان الغائب ،ما نلاحظه الإحالة التاريخية في ربط سليمان بما يمكن أن يكون قدرا جديدا يتوازى مع الذات القديمة (ترفض جيلك ، ترفض جسمك ، ترفض أن تفضل العمر طويلا ...) لم تكن العملية مجرد رفض بقدر ما كانت توحي بهذا التعالق المستحدث ، يظل سليمان دوما صورة لذلك الصراع القديم و الذاكرة الجديدة القديمة ، تمكن الشاعر من استنطاق صورتين متطابقتين و إن كان حضورهما رهن الذات :

سليمان 
.........
أنّك ترفض جيلك
ترفض جسمك
ترفض أن تفضل العمر ظلا
..........
و قيل بأنّك تمسك بالسنوات
تقيّدها
كي تظل مدى الدهر طفلا
سليمان
بلقيس الآن راحلة
لسليمان آخر 

و هذه التناصية الإيجازية أبعد التفاصيل التي رأى الشاعر أنّها تعبير عن واقعة و من هنا فالظاهرة (تعتمد على المشهور منها و المأثور ليشبه بها حال معهودة )(5)
و هذا الانتقال المفاجئ يحمل أكثر من إحالة و لعل لجوء الشاعر إليه ليسرد بالصورة و اللون و الصوت اختزالا لشبكة من التعالقات :رموز(الطير ، البساط ، السماء ، سليمان ، بلقيس ، الخاتم النبوي ، الفلك ، الريح ، الصافنات و الجياد ) هذه التجربة مبرمجة سلفا ، لعل المتلقي يدرك هذا التوالد المختلف في تعاقب أجزاء الرحلة ، سهولة و صعوبة ، استحضار لقصة متناصة مع تجربة الشاعر الذي تحول إلى سارد في حقيقة الأمر و إلا بماذا نفسر حضور شخصيتي بلقيس و سليمان و من حولهما كائنات استنطقها الشاعر بطريقة الخاصة ، غير تلك التي وردت في القرآن الكريم ، و تلك تجربة حاضرة في ذهن الشاعر بصيغة جديدة و نسق مركب؟ 
إنّ قراءة واحدة لهذه التجربة لا تلمّ بطبيعة الأشياء التي اختارها الشاعر ليدركها المتلقي ، و التصور الحاضر الغائب كثيف جدا ، فقرينة(أفتش) لا تنتهي بالوصول بقدر ما توهم بالنهاية السعيدة المنتظرة،رحلة مزدوجة و إن كان تركيبها متناقض :

يعلمها منطق الطير
يرفعها فوق ألف بساط
و يحملها نحو ألف سماء
سليمان
بلقيس تبحث عن رجل
يملك الخاتم النبوي 
له الفلك و الريح
و الصافنات الجياد مسخرة
و له هيبة الأنبياء

و المشهد الأخير لهذه الرحلة لم يرسمه الشاعر للبحث عن محطة وصول بقدر ما هي رحلة اكتشاف و تصحيح ، وأكثر من هذا بعث العلاقات بالطريقة التي تجعل الأشياء الغائبة تتركب و تتجدد كما رسمتها الذات ، التطابق بين ظاهرة الصعلكة و ما تحمله هذه الممارسة من ذكريات ، أكثر ما تكون صورة لذلك الشاعر المغامر الذي أدرك أكثر من معنى لوجوده و حياته ، و السلوك الذي اختاره ضمن سياق المفارقات ، رحلته التي لا تنتهي ، لا تستمر :

و صعلكة الشعراء
و بلقيس إذ تركت سبأ
فلأنّ سليمان أغلى من الملك
و الحبّ أخلد من عرشها
و لأنّ سليمان
يعرف كيف يروض قلب النساء
سليمان

الآن سليمان يقبع في مكان سحيق ، شديد الظلمة ، ينتظر حضور الماضي ، طبعا مبرراتها ترتكز أول ما ترتكز على حضور الصوت قبل الصورة ، رأينا أسلوب النّداء الذي تكرر في كثير من مواضع الفقد و البحث و الغياب و الحضور ، فمجازية الأشياء التي وظفها ليستلهم كل الأفعال و الصور المنذرة و المبشرة على عادة الشعراء /الكتاب في توثيق سيرهم ، و من هنا بدا واضحا تأثر الشاعر بسلطان الذات و اعتقاده بالوصول إلى نقطة الانفراج ، كل ما كان ليس أكثر من قصة تحول فيها الشاعر إلى سارد ، امتزجت فيها الحقيقة بالخيال ، نص سردي ذي بداية و نهاية ، سليمان المتعدد الذي يبحث عن نفسه في غيره ، تأكيدا لسليمان جوادي ، الفارس الذي اتضحت ملامحه في آخر المطاف ، تحقيقا للذات و تحديا للفناء ، صورة مركبة من : الرفض و المغامرة و الحب و الذاكرة و الشعر.
..............
كن جذوة ترفض الانطفاء
حنانيك كن قدرا
وجوادا يغامر ضد الفناء. 

ـــــــــــــــــــ
(1)- (ديوان : قال سليمان ، ص: 22-15-/ سليمان جوادي / دار التنوير للنشر و التوزيع/2008)
(2)-Gillian Brown and George Yule .(1983) P . 190 
(3)- تحليل الخطاب الشعري ، استراتيجية التناص د. محمد مفتاح 129
(4)- ص 127المرجع نفسه
(5)- ابن حزم القرطجاني منهاج البلغاء 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات