نعيم عبد مهلهل
لم يكف قلمي ولم تهدأ خواطري من أجل المكان ( مدينة اور الأثرية ) ، الذي بالرغم من هيبته وقدسيته وأثره الكبير على التراث الأنساني والحضاري ، ظل يعاني من الهدم والأهمال والقسوة منذ أن فضل آخر ملوك سلالة أور الثالثة ( 2113 ــ ق . م) الملك آبي ــ سين أن يموت منتحراً على أن يقع في أسر الغزاة العيلاميين الذي أحتلوا أور وهدموها واحرقوها عن بكرة ابيها ونقلوا الآله ( سين ــ الذي تعبدهُ المدينة ) الى سوسة ليعبدوه ، ومنذ ذلك اليوم لم تقم لأور قائمة ولم تستعد من مجدها شيء إلا فترات قصيرة ، ثم ركنت كما المندثر من امبراطوريات الزمن الغابر الى طلل التراب والهياكل المهدمة والمقابر المندرسة ، ولم يُلفت الأنتباه إلى المكان إلا عندما شاهد العالم كنوز مقبرة اور الملكية التي اخرجتها معاول الباحث والمنقب الآثاري ليوناردو وولي في عشرينيات القرن الماضي .
هذه المدينة التي زامنت الخليقة الأولى وطوفان نوح ، وفي واحد من بيوتها المبنية من الآجر الأحمر شهدت ولادة النبي إبراهيم الخليل ( ع ) كما ذكر ذلك في التوراة ، ومنها ابتدا رحلته التبشرية ، وعلى تلالها المطلة على الفرات التي كانت تشرب من ضرعه لتديم موسيقى قيثاراتها وترانيم كاهنات معابدها الخالدة واهمها زقورة اور التي بناها الملك اورــ نمو من ملوك سلالتها الثالثة واراد من علوها الشاهق أن تكون قريبة من السماء وحتى تصل امنياته سريعةً الى الالهة التي اراد منها أن يكون لأور حظوة امتلاك العالم من ارمينا وحتى نهر السند.
على هذه التلال اطلق ايوب السومري كما جاء في الأسطورة السومرية اناشيد الجزع من آلامه ومحنه بعد صبر عجيب ، وهو يشابه في التناص وروح المعنى القصة القرآنية لحكاية النبي ايوب ( ع ).
ظل نشيد الآسى يلاحقها كما يلاحق ظل الشمس ساعات النهار ، وبالرغم من بؤس حالها وشقاء المكان والرغبة الحميمة التي سكنت أفئدة محبيها إلا أن المكان بقيَّ كما هو ..طلل تعبت من عواء الثعالب ونايات الرعاة وسرفات الدبابات والمزايدات السياسية واخيرا شظايا مدافع المورتر التي تُرمى عليها بين حين وحين وكأنها هي من أتت بالمحتلين الى بلاد النهرين ، او أنها هي من صنع الفساد الأداري وسوء الخدمات ،وتثائب المجالس المحلية ، وحتى عندما ارادت حاضرة الفاتيكان أن توجه الأنظار اليها وهي التي يسمونها في العالم الغربي ( قطب الأرض ) لأنها مهد الولادة الأبراهيمية ، عندما أُعلنَ أن البابا الذي سيبدأ رحلته الألفية حول العالم بمناسبة دخول الأرض في قرنها الميلادي الثالث ، وان مدينة أور ستكون واحدة من محطاته المباركة إلا أن السياسة والمزايدة والشد حرم المدينة من هذه الزيارة التاريخية لتعود أور مرة اخرى الىسبات الأطلال المنسية ، وخاضعة بعد الأحتلال الى موافقات الضابط الأمريكي لكل من يود زيارتها حتى أستلام المكان من عهدة المحتل في 15 مايو 2009.
وحتى قبل 2003 لم يكن المكان سوى نقطة دالة لمكان اثري وكلت العهدة فيه الى حارس هَرم ،اتقن كل لغات العالم بسبب الزائرين والباحثين الذي عاشوا في المكان ولم يطوروا فيه شيئاً بسبب (تابو ) القرار الجمهوري الذي ظل يلازم المكان على شكل يافطة ( ممنوع التصوير في المكان لأنه منطقة عسكرية ) او ( المكان في طور التنقيب ) أو ( منطقة اثرية لم تنقب بعد ) ..وهكذا ظلت أور كما قدرها الأبدي مكان لرومانسية أزمنة مضت ، وحسرة يغطيها الرمل بصوت الطائرات وبيانات الحروب ومعسكرات الجيش التي احاطتها من كل جانب منذ أن قرروا أن يبنوا على بعد فرسخ من الزقورة الشاهقة قاعدة جوية تدعى ( قاعدة الأمام علي ) ، ولا ادري ماذا اطلق عليها الأمريكان بعد ان طوروها الى قاعدة اكبر ، ومنعوا عشاق المدينة رغبة استعادة الحلم والذكريات قرب معابدها المتهشمة بفعل دوي القذائف والنسيان ووعود الحكومات المتعاقبة.
وهاهم عشاق اللثام والموت والتخلف وكارهي ( التماثيل وكؤوس النذر وخواطر جلجامش ) يرمون المدينة بمدافع حقدهم على الزمان الجميل ، فتسقط واحدة من القذائف فوق معبد من معابدها الأثرية ، وشظايا قذيفة اخرى تجرح جدران زقورتها الخالدة ، واعتقد ان هذا الفعل جاء انتقاما من هذه الزقورة لأنها قبل اسابيع استقبلت الفرقة السمفونية العراقية التي عزفت في المكان مدائح الرؤى الهامسة ، ونسجت مع كماناتها ثوب الغرام الأول الذي سكن اوتار قيثارة شبعاد التي كانت اول عاشقة وعازفة للموسيقى في هذا الكون ،وهي سيدة نبيلة من اور ، وقرب المكان ضربت صنوج العازفين وشهقت ترامبيتاتهم بأنغام روح الشوق الملوكي القادم من بلاطات اوربا وسحر باريس وفينا وبرلين أشتياق الحضارة للسلام والتلاقي وأدت التحية للملك السومري شولكي الذي كان يعزف بسبعة الالات وكان شاعرا وموسيقارا وحكيما ، ولم يبعد قصره عن مكان العزف سوى امتار قليلة ، فكانت تلك الأمسية مثار بهجة وهيبة تليق في مدينة تستعيد بهاءها بفضل ماتملك من أرث ، وليس بفضل ماتملك من عقد وتخلف وعقائد لم ترضى فيها أي من ديانات السماء الموحدة ، ودساتير الأنظمة الأخلاقية ومذاهب الأدب والفلسفة والمنطق .
نعم ربما كان القصف انتقاما من اور لأنها احتضنت هذه الاوكسترا ،وداعبت بخيال العشق والقبلة والقصيدة خيال الزمن والذكريات والجنوب من خلال روح الموسيقى وحسها العالي.
الآن ..بعد اكثر من دعوة لي الى منظمة اليونسكو والحكومة العراقية ، واصحاب الشهامة ( الاثرية ) ، أطالب بحماية المكان وحفظ عفته وقدسيته ،وان لايجعلونا نستعيد غصة الألم والحزن عندما اقدمت حركة طلبان في افغانستان على تفجير هياكل تاريخية لتماثيل بوذا وهي ليست ملكاً لدين أو معتقد او دولة ،انها ملك للبشرية كلها .وكذا هي اور ، فبقدر ما هي عائدة للعراق ولمدينة الناصرية هي ايضاً ملكاً للبشرية وللتراث الأنساني، وعلى المنظمة الدولية ان تفعل شيئا وأن تدعو الى عقد مؤتمر دولي يجد الحلول لصيانة المدينة وحفظها من عبث قذائف المورتر واذونات الزيارات المرهونة بختم العسكر ، ومسح المكان جيلوجيا للكشف عن المخزون من آثارها ولم يزل بعدُ تحت ركام التراب. وهذا يتم بالتعاون من الحكومة العراقية ممثلة بوزارة السياحة ووزارة الثقافة والحكومة المحلية والمثقفين من ابناء مدينة الناصرية اينما كانوا ..
تبقى عبارة واحدة اهمسها للمنظمة الدولية التي قُدر لها ان تحمل يفاطعة ( الحفاظ على التراث الأنساني ) هي : كانت أور منذ أن خلقها الله في هذا المكان ، خطوة تخيل منها الانسان الأول بدء الذهاب الى الفردوس ، فلا تجعلوها خطوة يبدأ منها الحلم الى صناعة الظلام والشظايا والدمعة ..
التعليقات (0)