اليهود والدولة العثمانية
يقول الباحث المصري محمد سعيد اﻟﻌﺸﻤﺎوي:
"على عكس ما يقال إشاعة، فإن سياسة الدولة العثمانية كانت تقوم على تشجيع اليهود على الهجرة إلى ممتلكاتها، غير أنها كانت تخشى أن يقيم اليهود دولة لهم فى منطقة حول القدس، فيؤدى ذلك إلى فصم بلاد الشام منها، تباعا بعد أن انفصلت مصر واقعيا منذ عهد محمد على الكبير. وفى بيان هذه السياسة العثمانية كان يقال إن البلاد العثمانية (أى تركيا ومستعمراتها فى أراض الشام، ومنها فلسطين) تبلغ مساحتها ستة أضعاف مساحة فرنسا بينما لا يزيد تعداد شعبها (ورعاياها) عن نصف عدد الشعب الفرنسى، ومن ثم فإنها (أى البلاد العثمانية) قادرة على إستيعاب خمسة ملايين من الاسرائيلين. لكن إسكان هؤلاء فى بقعة واحدة يعتبرونها أرض الميعاد يعود بالخطر عليهم وعلى الرعية (العثمانية) وعلى الدولة العثمانية.
فإذا كان اليهود طامعين فى الملك (إنشاء دولة) فإنه لا يوجد عثمانى واحد يمكّنهم من ذلك إلا بعد فنائه، وإذا كانوا قاصدين الاستيطان فى بلاد يجدون فيها الراحة والسعادة والنعم والخير، فإن العثمانية تفتح أذرعها لقبولهم على الرحب والسعة. هذا هو موقف السلطة العثمانية، أن تسمح بالاستيطان ولا تسمح بإنشاء دولة مستقلة لاسرائيل ؛ وهو موقف يُقر المبدأ.
وهذا الموقف بذاته هو الذى دعا السلطان عبد الحميد إلى أن يبْعث برسالة إلى تيودور هرتسل (2/5/1860 – 3/7/1904) يقول له فيها إنه (أى السلطان) لا يستطيع التنازل عن أرض فلسطين، لأن هذه الأراضى ليست ملكا له لكنها ملك للشعب العثمانى (يقصد التركى) الذى حصل عليها بدماء أبنائه. فمقولة السلطان عبد الحميد هذه، لا تدافع عن الشعب الفلسطينى ولا عن الأمة العربية ولا عن أراضى فلسطين لذاتها، ولكنها تدافع عن ملكية للعثمانين الأتراك، حصلوا عليها بدماء جدودهم، ولا يتخلون عنها إلا بالدم، لا لمعنى من معانى العدالة أو الإنسانية أو حق الشعب الفلسطينى؛ بل لمفهوم الملكية وحده.
هذه السياسة العثمانية التى أقرت مبدأ هجرة اليهود إلى أرض فلسطين أعاد بيانها أحمد رضا رئيس مجلس المبعوثان (البرلمان التركى) سنة 1909 فى مقابلة له مع حاخام اليهود فى السلطنة العثمانية فقال : إن الحكومة (العثمانية) تود كثيرا أن يهود روسيا ورومانيا ويهود كل بلد من الذين يشكون الظلم أن يحضروا لبلاد تركيا حيث توجد أطيان كافية للفلاحة والصنائع والتجارة. والحكومة ترى من اليهود إخلاصا تاما وبصدر منشرح تقابل الوجود اليهودي .."
الى هنا أقوال الباحث سعيد اﻟﻌﺸﻤﺎوي، والتي تدحض المزاعم وكأن الدولة العثمانية كانت تعتبر نفسها بصفتها دولة الخلافة الاسلامية، حامية للأملاك والمقدسات الاسلامية، او حامية للاسلام والمسلمين، فهذه الدولة لم تكن تضع امام ناظريها سوى مصلحة الشعب التركي، وبخلاف ما يروج له الكثيرون منذ عقود طويلة، فقد كان عدد اليهود في فلسطين في العهد العثماني يفوق عدد العرب!! وهذا ما سنبينه في الفقرة التالية :
يروي الباحثون المتخصصون في الأرشيف العثماني ان اليهود كانوا أكثر عدداً من العرب ابتداء من القرن ال - 17، لكنهم اضطروا لتغيير أسمائهم الى أخرى إسلامية كي يتخلصوا من دفع الجزية للسلطان العثماني وهذا ما يظهرهم قلة في تلك الحقبة من الزمن.
وتبين الأبحاث التي تعتمد على الأرشيف العثماني أن اليهود شكلوا النسبة الأكبر من السكان في القدس منذ القرن السادس عشر وهذا ما يؤيده عدد من الباحثين الأتراك، ومنهم الباحث الدكتور مصطفى جوشكون مستشار وزارة الصناعة في أنقرة الذي أفنى سنوات من عمره في البحث والتنقيب في الأرشيف العثماني.
ويؤيده في ذلك اعترافات أطلقها عدد من أشهر العلماء الأتراك بتورط بعض الباحثين في إتلاف عدد من الوثائق المهمة التي تثبت بشكل واضح ما ذكره جوشكون وهو ما يؤكده لنا الباحثون في التاريخ بالكشف عن وثائق هامة تؤكد تزوير المستندات والوثائق الخاصة بالملكية لليهود في القدس.
كما تشير الوثائق الى ان اليهود الاشكناز والسفراديم على حد سواء كانوا يحجون الى بيت المقدس طوال الفترة العثمانية رغم القيود التي كانت تفرضها السلطات عليهم احيانا ومنها منعهم من الدخول الى القدس، وذلك خوفا على المصالح التركية وليس خوفا على عروبة فلسطين، ويبدو هذا الامر جليا بوثيقة عثر عليها في أرشيف دفاتر المهمات ويرجع تاريخها الى القرن السابع عشر جاء فيها: إن السلطان امتنع عن السماح للقبطان هرمز من العراق بأن يحج الى بيت المقدس برفقة مائة من رجاله وأمر بالسماح لعشرة فقط من أتباعه لمرافقته. كما تشير الوثيقة التي يعود تاريخها الى القرن السادس عشر، الى أن القصر العالي منع اثني عشر يهودياً من التعبد عند جدار في أحدى زوايا بيت المقدس وتقول الوثيقة:
"بأمر من السلطان المعظم يمنع على اليهود التعبد عند الجدار (حائط المبكى)، لذا يأمر السلطان في هذه الوثيقة والي طرابلس لمنعهم من تلك العبادة".
وجدير ان نذكر ان اليهود كان لهم باع وذراع في المكتسبات العلمية والتجارية والتقنية التي حققتها الدولة العثمانية، حيث ورد أن بداية معرفة الأتراك للمطابع الحديثة كان مع دخول المهاجرين اليهود إلى الأراضي العثمانية، عندما حملوا معهم مطبعة تطبع الكتب بعدة لغات هي: العبرية، واليونانية، واللاتينية، والإسبانية، فطُبعت التوراة مع تفسيرها في عام 1494م، وطبع كتابٌ في قواعد اللغة العبرية عام 1495م، وطبعت كتب أخرى بعدة لغات في عهد السلطان بايزيد الثــاني (1481-1512م) بلغت تسعة عشر كتابًا!!
ويؤكد بعضُ الباحثين أن الآستانة عاصمة الأتراك العثمانيين هي أول بلد شرقي يعرف المطابع الحديثة، ففي عام 1551م، في عهد السلطان سليمان الأول القانوني (1520-1566م)، كانت ترجمة التوراة إلى اللغة العربية، والتي قام بها العالم والفقيه اليهودي سعيد الفيومي هي أول كتاب يطبع في تركيا في ذلك العام، وقد طبعت بحروف عبرية!
أما فلسطين والأردن، فلم تعرف المطابع الا في عام 1830م عندما أنشئت مطبعة في فلسطين تطبع بالعبرية ..
التعليقات (0)