اليمن السعيد واليمن الشقي
حلقة (2/2)
هل تستمر اللعنة ودعوات الصالحين الساخطة عبر العصور، وتستقر جغرافيا في أقاليم الأرض ؛ ثم يرثها سكانها بعد ذلك أبد الدهر؟
شعوب في جنوب شرق آسيا أبتلاها الله بالفيضانات والأعاصير والأوبئة الفتاكة .... والبحر الميت يظل شاهداً على عذاب قوم لوط. وديار ثمود تظل شاهدة على أهلها حتى تاريخه. وعن لعنة أهل العِرَاقـَيـْنِِ ، وعاصمة الرشيد والسواد أجمعين مع ولاتهم وحكامهم حدّث ولا حرج.
فهل يجيء شقاء اليمن في تاريخه الماضي القريب والماثل ثم المعاصر إمتداداً للعنة سبأ ؟ أم أنها محض صدفة ولا تزر وازرة وزر أخرى؟
لماذا إذن يبقى اليمن وحده حتى تاريخه نهبا للحروب الأهلية والتمرد والإغتيالات والفقر والتذمر والضجر وعدم الرضا ؟ ولماذا يظل بلدا طاردا لأهله دونا عن غيره من أقرب جيرانه ومن كانوا بالأمس ضمن معية شعبه قبل إنهيار سد مأرب؟
حقا ؛ الملفت للنظر أن اليمن يظل نسيج وحده في الفقر وسوء الطالع وعدم الإستقرار السياسي مقارنة ببقية شعوب وبلدان شبه الجزيرة العربية الغنية المترفة والمرفهة.
ويبقى اليمن أيضا نسيج وحده في ثورته ضد علي عبد الله صالح وحكومته ؛ وقد طال العهد على الثورة والإعتصام في ميدان التغيير بالعاصمة صنعاء ولاحياة لمن تنادي ؛ ولا علامات أو تباشير أمل عن قرب وإمكانات حلحلة الوضع المتجمد هناك ما بين الوعود والوعيد والمراوغات والحجج الواهية ، والتعجيز الذي يمارسه النظام الحاكم في مواجهة مطالب شعبه بالرحيل.
ربما يكون في خوف الولايات المتحدة والغرب الماثل من تنامي القاعدة في اليمن بعد رحيل علي صالح هو السبب في فتور ردود الأفعال تجاه ما يجري هناك من مأساة. بل والظاهر أن الإهتمام أصبح منصبا الآن على سوريا وما يجري فيها كخطوة تالية ذات أولوية بعد الفراغ من الطاغية القذافي في ليبيا.
اليمن السعيد مسمى موغل في القدم قدم العرب أنفسهم . لكنه لم يعد يعني الحقيقة في العصر الراهن ..... وأشهر عصور وممالك اليمن كانت سَبأ ... وعلى واقع هؤلاء أطلق على اليمن مسمى "اليمن السعيد" ....
كان أهل اليمن في عصر سبأ يعيشون في خير مقيم عميم ؛ لدرجة أن المرأة فيهم كانت تحمل المقطف على رأسها فتمشي تتبختر به آمنة مستأمنة تحت الأشجار وسط الحدائق الغناء . فيتساقط فيه من ثمار تلك الأشجار ما يملأه ويغنيها عن جهد القطف أو الإلتقاط.......
سد مأرب القديم داخل الإطار المستطيل
يسبب الله الأسباب دائما. فكان أن هدى بعض حكامهم في عصر من عصور المملكة إلى بناء ما يعرف بسد مأرب بين جبلين على مسافة ليست ببعيدة عن العاصمة صنعاء لحجز وتجميع ماء الأمطار.
كان بناء السد من الأحجار والأخشاب . فكان الماء يرتفع إلى حافة المضيق بين الجبلين ثم يُسال إلى في ترع وجداول على الجانبين . فغرسوا أشجار الفاكهه والأعناب من كل نوع . وحرثوا اليساتين والمزارع. فكانت تجود عليهم بمختلف المحاصيل. وإخضر المرعى فتكاثرت أغنامهم وماشيتهم ومختلف الأنعام.
وعنهم أيضا أن بلادهم لم يكن بها آفات ولا براغيث أو حشرات ضارة ناقلة أو مسببة للأمراض بالجملة . وأن قراهم كانت متقاربة والطرق آمنة معبدة. فكانت المرأة تسافر وحدها وكذلك الركب لايحتاجون في أسفارهم لحمل الزاد والماء كون أن المسافات بين القرى كانت متقاربة ؛ وأن الطرق ما بين أولى القرى وآخرها كانت ترفل تحت ظلال أشجار الفاكهة الوارفة وعرائش الأعناب من كل لون وتحف بها جداول الماء الزلال من الجانبين .....
يقول الله عز وجل :- [لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل (16) ذالك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور (17)] – سبأ .
الذي يستنتج من سياق هذه الآيات أن أهل سبأ قد دخلهم الغرور وظنوا أنهم وحدهم أصحاب الفضل في ما هم عليه من ترف وبحبوحة فلم يردوا الفضل إلى الله . فأرسل الله إليهم الأنبياء والرسل لهدايتهم. ولكنهم أعرضوا عن الدعوة لعبادة الله ؛ فكان الجزاء هو إنهيار سد مأرب وغرق قراهم وأشجارهم ومزروعاتهم ، وتلى ذلك إنقطاع الماء عن البساتين والمراعي . فيبست ونبت مكانها أشجار الشوك من كل نوع وقليل من أشجار السدر التي تنتج ثمرة النبق المعروفة. وكانت هذه أفضل ما حصلوا عليه من رزق الله الواسع بعد إنهيار السد.
هنا كانت بحيرة سد مأرب القديم
ولتسبيب هدم سد مأرب فقد سلط الله عز وجل ملايين "الجرذان" ؛ التي عملت في أخشاب السد وأساساته خلال فترة إنحسار الماء. ثم وبعد هطول الأمطار وجراء إندفاع الماء من الوديان تجاه بحيرة السد وإصطدامها بالسد إنهار البناء واكتسح سيل العرم قراهم وبساتينهم.
وكان هناك جانب آخر من جوانب غرور قوم مملكة سبأ وهو طلبهم من الله أن يباعد بين اسفارهم ويجعلها أكثر مشقة . فقد كانوا خلال فترة نعيمهم لا يحتاج المسافر فيهم إلى حمل زاد أو ماء معه بل بسافر من قرية إلى أخرى وهو يجد أكله وشربه من الموائد المنصوبة ؛ وخلال البساتين من ثمار أشجار الفواكه . فيقضي النهار في قرية ثم يغادرها فيبيت في قرية أخرى على كفوف الرحب والسعة وكنف من الأمن والأمان .... فضجروا من هذا النعيم وطلبوا من الله أن يبدلهم به عكسه ففعل . وحيث يقول في ذلك :- [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)] - سبأ
وبوجه عام فقد آثر أهل سبأ الكفر بالله على الإيمان به ... وربما آثروا الحماقة والعناد على العقل والمنطق .
لم يتطرق القرآن الكريم في قصة سبأ للأسباب الموضوعية المباشرة التي جعلت أهل سبأ يطلبون من الله عز وجل أن يباعد بين أسفارهم وينزع عنهم الأمن والأمان. لكن قد يستنتج من طلبهم مباعدة أسفارهم أنهم طلبوها على سبيل التحدي إمعانا في صد الرسل والأنبياء المرسلين إليهم . مثلما جرى الحال لغيرهم من شعوب تعرضت لعذاب السماء ، وهم على سبيل المثال قوم عاد وقوم ثمود وأصحاب الأيكة: الذين تحدوا الرسل والأنبياء على عدة قناعات وهيئة مطالب ظنوا أنها محض تعجيز لهؤلاء الرسل والأنبياء ؛ وإفساد لحججهم وأسس دعواهم لترك عبادة الشمس والأصنام والتوجه لعبادة الله وحده.
ومن أشهر ملوك سبأ كانت بلقيس . وفي قصتها مع سليمان عليه السلام إشارة واضحة إلى أنها وقومها (أهل سبأ) كانوا يعبدون الشمس . وحيث يقول الله عز وجل في قصة الهدهد وبلقيس وسليمان عليه السلام من سورة النمل :- [فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)]
وكانت سبأ في جملتها عشرة قبائل من العرب العاربة بقى منهم في شبه الجزيرة العربية بعد إنهيار سد مأرب ما بين اليمن وعُمََان ويثرب (المدينة المنورة حاليا) ستة قبائل أشهرهم الأوس والخزرج الذين ينحدرون من حمير . وأما القبائل الأريعة الأخرى فقد توجهت إلى الشام.....
وهناك من الأحباش من يزعمون أنهم من سلالة سليمان عليه السلام . ويسندون ذلك بالقول أن بلقيس تزوجت سليمان عليه السلام وأنجبت منه ولدا ذكرا . وقد هاجر هذا الإبن إلى أراضي أثيوبيا الحالية وتزوج من بناتها.
ويقول إبن كثير في تفسيره : [كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها وكانت "التبابعة" منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه السلام من جملتهم. وكانوا في نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم وإتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم . وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلو من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ماشاء الله تعالى ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل والتفرق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر].
والواقع أن تفاصيل سيرة سبأ وأصلها قد إنمحت فترة عن ذاكرة العرب خلال الجاهلية فلم يتبقى منه سوى المثل الجاري على الألسنة "تفرقوا أيادي سبأ" . حتى كان يوم من الأيام وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وافد من أهل اليمن ؛ فتفاكر معه ساعة ثم سأل الوافد اليمني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ قائلا:
- ما هو سبأ ؟ أرجل هو أم إمرأة أم أرض ؟
- فأجابه عليه الصلاة والسلام بقوله:
- [بل هو رجل ولد له عشرة أولاد . فسكن اليمن منهم ستة وبالشام أربعة. فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير . وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان]
..........
وعن نسب "سبأ " وإسمه الحقيقي فهو : عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان " . وسبب تسميته سبأ كان لأنه أول من سبأ في العرب ... والسبي هو النَّهْبُ وأَخْذُ الناسِ عَبيداً وإماءً، والسَّبِيَّة: المرأَة المَنْهوبة.
والعشرة المشار إليهم أعلاه هم قبائل عربية معروفة إنحدروا من صلب أولاد سيأ العشرة . وأما سبب هجرة القبائل الأريعة منهم إلى الشام فقد كان دمار سد مأرب المشهور والذي كان يقع على مسافة قريبة من العاصمة الحالية صنعاء وفق ما جرى وأشير إليه في صدر هذا الموضوع.
(النهاية)
التعليقات (0)