اتصل صديقي الذي يشغل منصبا رفيعا (ان جاز التعبير) في احد فصائل المقاومة الفلسطينية اليسارية معاتبا وقال "انك تجاوزت الخط الاحمر، وتماديت في هجومك على حركة حماس دون ان توجه نقدا ولو ناعما للسلطة الفلسطينية وحركة فتح، وفي هذا انحياز صارخ لطرف دون اخر، وهذا يضعك في صفوف السلطة من ناحية، ومن ناحية اخرى فانك تقف معارضا للوحدة الوطنية، وتحرض على ازدياد الشروخات في الصف الوطني".
قلت : لصديقي المسؤول اليساري الكبير انا لا اخفي انحيازي للسلطة وحركة فتح طالما انهما تتبنيان برنامجا وطنيا لتحقيق اهداف الشعب الفلسطيني والمتمثلة بتحرير الارض الفلسطينية المحتلة عام 1967، واقامة دولة وطنية ديمقراطية مستقلة على تلك الارض، وتدافعا بقوة عن الشخصية القومية الوطنية المستقلة للشعب الفلسطيني ، كما لا اخفي معارضتي الشديدة لحركة حماس وتيارات الاسلام السياسي بغض النظر عن اسمها.
قال : لكن هذا الموقف خاطيء والموقف الصحيح يكون بالتركيز على الوحدة الوطنية، واعادة اللحمة لفصائل العمل الوطني بغض النظر عن اختلافات، وطالما اننا ما زلنا في مرحلة التحرر الوطني. فانه يجب ان يتركز الكفاح في هذه المرحلة ضد العدو القومي الذي يحتل ارضنا، ويضاعف عدد المستوطنات في الضفة، ويمزقها اشلاء عبر جدار الفصل العنصري، واكثر من 600 حاجز عسكري، خصوصا بعد 15 سنة من المفاوضات العبثية .
واضاف صديقي " اننا لسنا في مرحلة الصراع الفكري والايديولوجي حتى نشحن شعبنا بالعداء لبعضنا البعض ، لان من شان ذلك ان يزيد التشظي والانقسام، وفي ذلك خدمة للعدو الصهيوني".
قلت : شكرا يا صديقي ها انت توجه لي اتهاما مباشرا بالخيانة والعمالة وخدمة العدو، والرد عليك لا تتسع له مكالمة هاتفية فهل لتسمح لي بالرد من خلال مقال ..؟؟
وها انا ارد على الصديق العزيز وعلى الكثير من اليساريين سياسيين وكتابا ومثقفين ممن تبنوا وجهة نظر صديقي سواء عبر تصريحات صحفية او مقالات سياسية. واضيف اليهم من سوف يروج لوقف الحملات الاعلامية على ضوء ما يمكن ان يتحقق من مصالحة بين فتح وحماس تبعا للجهود المصرية المبذولة في هذا المجال.
واول المسائل المركزية التي يجب تبيانها هي ان المواقف السياسية هي نتاج للعقائد والايديولوجيات الفكرية، وليست منزوعة او مستقلة عن القاعدة الفكرية، وبالتالي فاذا كان ممكنا في ظرف ما ان يحصل توافقا والتقاء بين المواقف السياسية لقوى سياسية مختلفة، فان ذلك لا يعني ابدا ان يحدث توافقا فكريا بينها.
وعلى هذا الاساس فان الصراع الفكري يجب ان يستمر في كل الحالات حتى في اكثر الاوقات توافقا واتفاقا، فلا يمكن فصل الصراع الفكري والثقافي والاجتماعي عن الصراع السياسي في أي وقت من الاوقات.
وليسمح لي صديقي اليساري ان اسأله كيف تمكنت حماس من تحقيق هذا النفوذ في الساحة الفلسطينية..؟ هل على اساس موقفها السياسي ام على اساس موقفها الايديولوجي..؟، الم تستخدم حماس الدين الاسلامي كمدفع هائل القوة قصفت به افكار القوى الوطنية الفلسطينية الاخرى وفي مقدمتها قوى اليسار حتى همشتها وانفض الجماهير من حولها، وتقلص دورها حتى اصبحت لا تستطيع القيام باكثر من جهاز اطفاء او مختار حارة مهمته اصلاح ذات البين.
وفي الوقت الذي تجهر فيه حماس بعقيدتها وايدولوجيتها، وتعلنها على رؤوس الاشهاد، وتقف مستعينة بالله ورسوله والمؤمنين ضد كل من يقترب من اخر جارية في قصر اخر خليفة عثماني، وقف اليسار الفلسطيني خجلا، خائفا مرعوبا من طرح افكاره والدفاع عنها ولم يبذل أي جهد لفتح مجالات وايجاد ادوات اكثر فعالية لتوسيع انتشارها.
واختبأ اليسار خلف الخطاب السياسي الوطني والذي لا يختلف في خطوطه العامة عن خطاب اليمين الفلسطيني مثل حماس والجهاد والاحزاب القومية، كما لا يختلف مع خطاب يسار الوسط والذي تمثله فتح، واذا كان البرنامج الوطني بشكل عام متقارب الى حد التطابق احيانا، فما هو الشيء المميز الذي سيمكن اليسار من استقطاب الجماهير، وتجنيدها في صفوفه..؟
ويبدو ان اليسار الفلسطيني لم يدرك البعد الايديولوجي الذي تتضمنه اسماء الحركات الدينية ، فحماس اسمها "حركة المقاومة الاسلامية حماس" واسم الجهاد " حركة الجهاد الاسلامي" بينما اليسار يخجل او يخاف او لا يدرك الاهمية القصوى للتعبير عن نفسه كقوى يسارية علنا وعلى رؤوس الاشهاد، ويبدو انه يعتقد ان الجماهير تلتف حول القوى السياسية بناء على ماض مجيد، من تلقاء نفسها، او يسحرها اسم قائد عظيم ومن اجل عينيه تقرر موقفها الايديولوجي.
ولو كان الامر كذلك لما كان هناك أي شكل من التواجد لأي قوى سياسية غير القوى الاسلامية التي تستغل اسم الله العزيز الجبار الحكيم ورسوله الامين، وجيش من الصحابة والفقهاء والقادة الفاتحين.
وما كان هناك من داع لأن تستغل حركة الاخوان المسلمين فرع فلسطين – حركة حماس، وغيرها من الجماعات الاسلامية المساجد والجوامع والمدارس وانشاء مئات الجمعيات الخيرية، واستخدام الرشوة والمحسوبية والواسطة وحتى ربطة الخبز وكيس الطحين لاستقطاب الجماهير. ولا تترك فرحا او عزاء الا واعضائها يتصدرون الحضور في نشاط اجتماعي كبير، الى جانب استخدام الاجساد البشرية في عمليات انتحارية لدغدغة عواطف الجماهير بالانتقام من العدو المجرم، ولما كان هناك ضرورة لان تخوض حماس معارك ضارية للاستيلاء على النقابات العمالية والاتحادات المهنية واتحادات الطلبة.
ولا يجروء احد الا وكان جاهلا ان يقول ان كل ما قامت به حماس هو عمل سياسي فقط، وانه لم يكن نشاطا مكثفا لتعميم مبادئها الايديولوجية الدينية، وتوسع من انتشار ثقافتها الاسلامية وفق فهمها لهذه الثقافة المستمدة من ايديولوجية الاخوان المسلمين، وان نهاية النهايات بالنسبة لها هو اقامة دولة الخليفة الاسطورية.
وقد حققت حماس ما حققته من نجاح اولا نتيجة لجهودها في نشر ثقافتها، وثانيا لتقاعس اليسار وعجزه وضعفه عن نشر ثقافته، والجهر علنا ان نهاية النهايات بالنسبة له هي اقامة دولة العمال والفلاحين الى اخره.
فعندما تترك الجماهير لقمة سائغة لاي قوى مهما كانت فان المنطقي جدا ان تتمكن تلك القوى من حشد غالبية الجماهير خلف مبادئها وشعاراتها واهدافها.
اذن فان ما اعتبره صديقي بان مرحلة التحرر الوطني لا يجب ان يتخللها صراعا ايديولوجيا هو اعتبار خاطيء جدا ويكاد يصل الى مصافي خيانة الطبقة العاملة، وانسحابا دون حرب من الميدان وتسليمه للعدو الايدولوجي دون قتال.
اما التخفي خلف شعارات الوحدة الوطنية ففي ذلك ايضا خطأ كبير، لان الوحدة الوطنية من وجهة نظر اليسار الحقيقي تعني الاتفاق على برنامج سياسي مع اطرف اخرى تختلف معه في المنهج والفكر والاهداف النهائية، وهذا الاتفاق لا يلغي باي حال من الاحوال الصراع الفكري بين مكونات الجبهة الوطنية، لانه ببساطه لو ان الاطرف المشتركة في الجيهة الوطنية الغت افكارها وتخلت عن ايدولوجيتها فانها واتبعت ذات الافكار فلا تعود جبهة وطنية، بل تصبح حزبا سياسيا لديه قناعة ايديولوجية وفكرية وسياسة واحدة، وهيئة مركزية واحدة ومؤسسات واحدة الى اخره.
والاكثر فداحة ومراهقة سياسية بدت من اولئك الذين يقولون ان الصراع الايديولوجي يبدأ بعد الانتهاء من مهام التحرر الوطني، أي بعد التحرير.
ولنتساءل معا هل يمكن ان تكون هناك جبهة وطنية متحدة دون فصيل اساسي وقائد..؟ فمن هو القائد في الساحة الفلسطينية ... ؟ بحدود علمنا وعلم اليسار ان حركة فتح كانت التنظيم السياسي القائد في الجبهة الوطنية المتحدة المتمثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنذ عدة سنوات برزت حركة حماس لتزاحم فتح موقع القيادة، بل وبلغ الامر بحركة حماس ان اعتبرت نفسها بديلا لحركة فتح، وانها الاولى بقيادة الجبهة الوطنية المتحدة.
وهل يعتقد اليسار ان حماس او فتح او كليهما سوف يسمحا لليسار بعد التحرير ان يبدأ معركته الايديولوجية لاقامة دولة العمال والفلاحين (دولة البروليتاريا).؟؟؟
وما هي فرص نجاح اليسار في مواجهة قوى رجعية مثل حماس انجزت مهمة التحرير..؟ اليس من المفروض ان يعمل اليسار باقصى جهده كي يكون هو القائد للجبهة الوطنية المتحدة خلال مرحلة التحرر الوطني..؟ وكيف يمكن ان يحقق مثل هذا الهدف دون ان يشحن غالبية الجماهير بمواقفه السياسية والفكرية..؟
ثم اليست تجربة الجزائر والتجربة الناصرية وحتى التجربة الفيتنامية والصينية والكوبية ظاهرة امام اعين اليسار الفلسطيني، الم تجبر جبهة التحرير الجزائرية الاحزاب الاخرى بما فيها الحزب الشيوعي على حل نفسه والالتحاق بها كافراد تحت طائل الاعدام لمن يرفض..؟ والم يفرض عبد الناصر وتحت شعارات مرحلة التحرر الوطني ومواجهة اسرائيل والامبريالية والقوى الرجعية على الحزب الشيوعي المصري ان يحل نفسه ويلتحق بالاتحاد الاشتراكي..؟ وهل قبل الشيوعيون في الصين وفيتنام وكوبا الانخراط في جبهة وطنية تحت قيادة اليمين او القوى الرجعية..؟
فما الذي تقوله يا صديقي وتدعيه حول الوحدة الوطنية وتجميد الصراع الايديولوجي مع القوى السياسية الرجعية..؟
ثم الا يجب على اليسار ان يحدد بدقة ما هي صفات الوطنية ؟؟ وان يحدد بدقة ما هي مواصفات المقاومة..؟ وهل يمكن فصل المواقف الوطنية عن خلفيتها الايديولوجية..؟ وهل يمكن فصل المقاومة كذلك عن الخلفية الفكرية لمن يستخدم العنف (المقاومة) لتحقيق برنامجه..؟
وبالتالي هل يمكن ان يكون كل تنظيم سياسي ادعى انه وطنيا.. هو بالفعل وطني ..!! وان كل من ادعى انه مقاوم هو مقاوم فعلا..!!، وبالتالي يجب احترام كل من يدعي انه وطني وانه مقاوم بغض النظر عن المنطلقات الفكرية لهذا الوطني وهذا المقاوم كما يدعو بعض الكتاب والمفكرين اليساريين الذين نكن لهم كل احترام وتقدير دون الحاجة لذكر اسماء..؟
فاذا كان تنظيما مثل حماس ومعها الجهاد الاسلامي يعلنان منذ اللحظة الاولى من خلال اسميهما انهما مقاومة اسلامية .. فكيف يمكن ان يطلق عليهما انهما مقاومة وطنية ..؟ فهذا يمارس المقاومة الاسلامية وذاك يمارس الجهاد الاسلامي ، وهذا يعني ان هذا يقاوم وذاك يجاهد من اجل هدف ديني لاعلاء كلمة الله في الارض ونشر دينه ورسالة نبيه، ومن منطلقات دينية وخطاب ديني.
والا ما معنى مقاومة اسلامية وجهاد اسلامي ، فهل هناك فرق في استخدام الاساليب العسكرية (والتي اختزل فيها مفهوم المقاومة عند اليسار والكثير من اليساريين ) بين مقاوم اسلامي او مجاهد اسلامي ومقاوم يساري او شيوعي او مسيحي او هندوسي .. يعني هل المقاوم المسلم والمجاهد المسلم يستخدم البندقية والمدفع بطريقة اسلامية تختلف عن الطريقة التي يستخدمهما المقاوم غير الاسلامي..؟
ام ان كلمة الاسلامي المستخدمة في اسم التنظيمين تدل دلالة قاطعة على فكرهما وايديولوجيتهما ..؟
واذا كانت تدل على فكرهما وايديولويجيتهما .. فباي منطق يصر بعض اليساريين والوطنيين الديمقراطيين وممن ينتمون ليسار الوسط على ان المقاومة التي تمارسها حماس والجهاد هي مقاومة وطنية..؟ بينما هما يؤكدان من اللحظة الاولى انها مقاومة دينية .
وبالتالي هل يفترض ان نؤيد كل مقاومة مهما كانت ..؟ حتى لو كانت ستاتي بنظام ديكتاتوري مستبد يمارس ابشع صنوف الطغيان، ولن يقبل فيما لو نجحت مقاومته ليس فقط وجود احزاب يسارية، بل وسيرفض ويعلق على الخازق كل من يجروء ويعارض الخليفة حتى لو قال الخليفة ان الشمس تشرق من الغرب، وليس ذلك فحسب بل سيجبر اتباع الديانات الاخرى على اعتناق الدين الاسلامي والا فالجزية او القتل او الخروج هربا تحت جنح الظلام من ارض المسلمين.
ايها الصديق العزيز ويا كل الكتاب والمفكرون اليساريون او الذين يعقدوا انهم ينتمون الى اليسار ان النضال الفكري ضد افكار التخلف الذي تمثلها حماس والجهاد واي قوى دينية اخرى في الساحة الفلسطينية هو ضرورة اساسية وقصوى ، وهو شرط اساسي من شروط التحرير، ويجب ان يتلازم بل ويسبق النضال السياسي، ولا يمكن فصله ابدا عن الصراع مع العدو القومي.
وقد يكون هناك نوع من التصالح خلال مرحلة التحرر الوطني مع البرجوازية الوطنية الكبيرة او الصغيرة، ولكن لا يمكن ابدا التصالح الفكري مع القوى الرجعية التي من اول اهدافها واكثرها اهمية وحيوية اقصاء اصحاب الافكار غير الدينية، بل واخضاع اصحاب الديانات الاخرى واجبارها على اعتناق الديانة الاسلامية.
فمفاهيم الوحدة والصراع في الساحة الفلسطينية تحتاج الى اعادة نظر، من قبل قوى اليسار التي يبدو انها منبهرة دون وعي ودون ادراك بمصطلحات ليس لها قوة السرمدية والقدسية، بل هي متغيرة حسب المكان والزمان والشروط الموضوعية والذاتية.
وبناء على ما تقدم فان على قوى اليسار الفلسطيني ان تصعد من حدة الصراع الفكري مع حماس، وان تعمل على محاصرة فكرها الرجعي، وان تحصن الجماهير الفلسطينية وتمدها بالوعي والخبرة حتى تتمكن من التصدي للخطاب الرجعي المتستر بالدين في هجومه على البسطاء من الناس مستعينا بعزة الله وجبروته وقدرته، وموظفا رسوله وملائكته وحتى الشياطين، وكل فقهاء المسلمين ومعهم اهل السنة والجماعة ، وقبل كل ذلك جنة عرضها السماوات والارض بما فيها من حوريات وغلمان وانهار العسل.
واذا كان اليسار الفلسطيني حريصا فعلا على الانسجام مع يساريته وافكار اليسار ومبادئ اليسار واهداف اليسار فان عليه ان يوظف جهدا رئيسيا من قواه لاقامة سور عال بين الجماهير وبين افكار جماعة الاخوان المسلمين ومن يماثلهم في بث وترويج الاوهام واساطير الاولين.
ابراهيم علاء الدين
alaeddinibrahim@yahoo.com
التعليقات (0)