مواضيع اليوم

اليسار الاجتماعي

كنا لم نتجاوز السابعة من العمر ، وكمثل أقراننا في تلك الفترة كنا نكد مع العائلة لكسب العيش ، وقد صاغت عبارات الطبقة الكادحة ثقافتنا بما كنا نقرأ ونعرف ، وأقول باختصار كنا ندرك بمحض التجربة الذاتية مدى الفرق بين الأغنياء والفقراء ، وكنا ندرك مدى الظلم الاجتماعي فضلا عن الاقتصادي الذي يمارس على الطبقة الكادحة كأمثالنا ، وعندما كبرنا أدركنا أن ما نحن عليه من فكر ( وقد يوصف أحيانا من قبل الآخرين بانه حقد طبقي ) اكتشفنا أننا نميل إلى فكر اليسار الاجتماعي رغما عنا ودونما أن نخطط لذلك وبلا منظرين وبلا أحزاب أو منظمات يسارية أو دول شيوعية أو اشتراكية أو يسارية أو عقائدية .

صاغت حقبة السبعينيات من القرن الماضي أفكار العديد من أبناء جيلنا ، وتربينا على الفكر الثوري الذي كانت تغذيه ألاف القنوات وتمده عشرات الينابيع الفكرية ، من منظمات مجتمع مدني والمنظمات الثورية المحلية والعالمية التي كانت تبث أفكارها إلى مجتمعنا دون رقيب أو حسيب وتغذي بها مريديها ومشجعيها .. وأعضائها .

في الوقت الذي كنا نسمع عن العشرات ممن فقدوا لنكتشف أنهم قتلوا غيلة بظروف غريبة غامضة .. أو لنسمع أن احدهم خرج بالأمس من السجن .. فيقيم له الأهل احتفالا كبيرا .. وربما يكون الاحتفال اقرب ما يكون إلى حفل العرس .

لنكتشف أن هذا الطليق الجديد أهبل .. مجنون .. فقد عقله .. ليطبل خلفه الأولاد بالحارات والأزقة .. مجنون ... مجنون .. فيتداول الناس قصته وقصص العشرات من أمثاله .. ليقول البعض هذا المجنون كان معلما ... وهذا كان مهندسا ..

فما أن انقضى عقد السبعينيات وهل عقد الثمانينيات حتى بدأ الموفدون في بعثات إلى منظومة الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي السابق ، والدول العربية التي كانت تدور في فلكه بالعودة إلى البلد .. وكان دورهم واضح ملموس في بث أفكار تلك الدول بين أقرانهم .. وخصوصا أوقات الإجازات والعطل الجامعية .. ليتركوا لخيالنا أن يحلق أكثر .. وان نبني على ما قالوا واخبروا أكثر وأكثر .. لتتحول تلك البلاد في نظر أقراننا جنة بالمعنى الحرفي للكلمة ..

لقد أمدت تلك الدول وطننا . ..ودعمتنا .. ووقفت إلى جانبنا .. في وقت كنا اشد ما نكون فيه حاجة إلى من يقف معنى ويساعدنا ... ( بغض النظر عن أهداف تلك الدول من المساعدة وما ترمي اليه ) .

فلا زلنا نتحسر على تلك الأيام التي كانت تتيح للفرد من أن يتخصص في الطب والهندسة والفنون وشتى أنواع العلوم .. دون مقابل وبلا تعليم نظامي وموازي .. وبلا رسوم وبلا ربط أحزمة وبلا منغصات على الأسرة وهي تدخر القرش على القرش من حاجاتهم اليومية الضرورية لدفع الأقساط الجامعية .. لان التعليم عندنا أصبح للنخبة وربما لنخبة النخبة ... في الوقت الذي نجد فيه دول أفقر منا وتعيش حالة العوز بحذافيرها ولكن التعليم الجامعي مجاني أو شبه مجاني .

اليوم وقد انهارت المجموعة الاشتراكية ، وتفكك الاتحاد السوفيتي ، وانحل عقد الدول التي كانت تدور بفلكه وتقدم المنح الدراسية ، أجد فقراءنا بلا معيل وبلا نصير إلا الله ..
كم آلمني وأنا أرى تمثال لينين يهدم ، وكم آلمني وأنا أرى علم الفقراء بمنجله ومطرقته ينزل من ذرى ساريته ،وكم حزنت وأسفت على تاريخ عريق بني بالدم وتعمد به وهو يذوب وكان اسيد صب عليه ، وكم حزنت على أولئك الفقراء الكادحين الذين كانوا يرون في الاتحاد السوفيتي دولتهم وحاميتهم ونصيرهم وهي تنهار تحت وطأة الخيانة والمادية الرأسمالية الغربية البغيضة .
ونحن نرى الآلاف من مواطنين الاتحاد السوفيتي ينبشون حاويات القمامة للبحث عن لقمة خبز ، ونحن نتذكر أن الاتحاد السوفيتي لم يسجل عاطلا عن العمل أو مشردا بلا مأوى في أوج عزته وقوته وصوته في الأمم المتحدة والعالم .
ولنتحسر على خيرات كانت تأتينا منه ، بما قدم لنا ولشعوب العالم الفقيرة المعدمة . يكفي أن نرى المشاريع العملاقة في وطننا العربي والتي كانت من صنعه .
 

اليوم أجد مئات الآلاف ممن تخرجوا من تلك الدول ، وهم ولا أعمم ، لا يحفظون للمعروف ودا ، و لا يتخلقون بما تدربوا عليه من نبذ للعنصرية والطائفية ، ولا ينحازون للفقراء كما انحاز لهم الناس من قبل ، فنرى الطبيب لا يرحم فقيرا ويعطي محتاجا ، وقد تكرش بطنه وانتفخ . ونسي انه كان معدما فقيرا محتاجا ، كما نسي من بعثة الدولة على حسابها ما يجب عليه أن يفعل . فمنهم من هرب واستقر بتلك البلاد ونسي وتناسى أهله وبلده وربما ملته وبات بلا هوية محددة ، هجين ، بكل ما تحمل هجين من معنى .
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !