مواضيع اليوم

اليساريون المغاربة من الثورة إلى أحضان المخزن

علي مسعاد

2009-08-21 14:14:19

0

[من كان منكم وسيما جعلته حاجبا للفضائح ]


محمود درويش في خطاب الديكتاتور العربي
ما الذي جعل بعض اليساريين يتنكرون لماضيهم المشرق في النضال ضد الظلم والوقوف مع الكادحين والجماهير الساحقة والمسحوقة كما كانوا يرددون في خطبهم بصرف النظر عن طريقة نضالهم ونهجهم الفكراني؟ وكيف تحولوا إلى خدم لدى الأعتاب الشريفة بعدما قاوموا جبروت المخزن وقدموا البرهان في الكشف عن الوجه القبيح لنظام تسلطي قمعي كان يحتكر أدوات الإكراه والإنتاج؟ هل مات هذا المخزن حقا كما قال ذات يوم الاتحادي الشيخ محمد اليازغي؟ أم أن روح الثورة هي التي شاخت لدى بعض اليساريين المغاربة؟ هل تغير شيء في المشهد السياسي بالمغرب أم أن الماضي لا زال مستمرا في الحاضر كما قال ذات يوم المفكر محمد عابد الجابري؟ هل العلة كامنة في الفكر السياسي والايدولوجيا المؤطرة له أم في تغيير إستراتيجية المواجهة التي بدت أنها لم تنجح في تحقيق المبتغى؟ أم أن المخزن كان أقوى حيث نجح في إستراتيجية الاحتواء التي رسمها بإتقان ثقافيا عبر بروز منظمات حقوقية نزعت عن اليسار الثوري وهجه الثوري، وسياسيا عبر إقحام الأحزاب السياسية اليسارية في مسلكية النضال الديمقراطي منذ عام 1975 والتي ساهمت في التقليل من كلفة المخزن الباهظة على سمعته خارجيا في مجال حقوق الإنسان، ومحاولة إعطاء انطباع للمتابع أن المغرب ينعم بتعددية سياسية تحجب حقيقة الحكم الفردي كما كان يقول اليساريون المغاربة إبان الستينات وبداية السبعينات؟؟
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذه المقالة.
أولا: عتبة ثقافة حقوق الإنسان:
لقد تسارعت الخطى في السنين الأخيرة إلى الحديث عن قضية حقوق الإنسان، فتعددت الجمعيات والمنظمات غير الحكومية المحلية وغير المحلية العاملة في هذا الحقل الجمعوي، وأصبح لبعضها دور رائد ومهم ..سواء في الضغط على الحكومات لأجل تغيير سياستها لصالح الشعوب، أو توفير أجواء رحبة للفكر والإبداع بشكل عام .
لكن، لماذا كثر الحديث عن حقوق الإنسان وتناسلت جمعيات ومنظمات حقوقية لم تكن موجودة من قبل أربعة عقود من الزمن بالشكل الذي نراه الآن؟؟ الدكتور محمد عابد الجابري يجيبنا قائلا وموضحا الأمر حين يقول " في أواخر القرن الماضي 19 ومعظم القرن 20 [ المقال منشور في نهاية القرن الماضي] كان ينظر إلى الاشتراكية كحل أسمى للمعضلة الاجتماعية والاستغلال الطبقي والطغيان الرأسمالي وكان الحل الاشتراكي العادل للمسألة الاجتماعية يمر عبر تأجيج الصراع الطبقي قطريا ودوليا ، وكان الناس بناء على ذلك ينظرون إلى العمل الإنساني الذي تقوم به بعض الجمعيات الخيرية نظرة ملؤها الشك والازدراء، أما اليوم وبعد أن توارت نظرية الصراع الطبقي قطريا ودوليا، وفشلت التطبيقات التي أجريت باسمها، وبرزت منظمات غير الحكومية، مثل منظمة العفو الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمة أطباء بلا حدود والمنظمات العربية لتقدم نفسها ك "قطاع ثالث " بين الدولة والسوق، قطاع يأخذ على عاتقه مهمة التخفيف من وقع الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي على الطبقات المستضعفة والتخفيف كذلك من وقع الكوارث الطبيعية وغيرها " [1] .
واضح إذن، بعد فشل الفكر الماركسي في الانتشار وتحقيق أشواقه وأمانيه في إنشاء مجتمع شيوعي كما تنبأ "النبي" ماركس عن طريق ديكتاتورية البروليتاريا وإحداث انقلابات عبر تأجيج الصراع الطبقي، خصوصا بعد سقوط جدار برلين واندحار الماركسية بموسكو وبروز ما يسمى بالنظام الدولي الجديد ذي القطب الواحد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، رجع الفكر الماركسي القهقرى ..وتحولت حركة الثوريين إلى حركة سلمية تعمل في مجال ليبرالي "بورجوازي" هو مجال حقوق الإنسان، فمن الناحية النظرية كان من المفترض أن يزخر الحقل الحقوقي بالنشطاء البورجوازيين المتنورين، وأن يشكل الثوار قاعدة ضغط لجر العمل الحقوقي من خارجه إلى مواقع ومواقف جذرية، لكن هاهم الثوار الآن في جمعيات وحركات حقوقية تستطيع أن تفضح وتدين، لكنهم لم ينتموا إلى الفكر الثوري من اجل هذه الأنشطة فقط ، لا سيما إذا وضعنا في الحسبان أن أسطورة "كونية حقوق الإنسان" التي جاء بها الميثاق العالمي للحقوق الإنسان لم تصوت عليها ثمان دول سبعة منها كانت تتبنى النهج الاشتراكي والماركسي بدعوى أن هذا الميثاق يلغي، أو لم يتطرق إلى حق الإضراب الذي يعتبر ضرورة للفكر الاشتراكي كآلية ثورية تستعملها حركات التحرر العالمي من اجل تأجيج الصراع الطبقي وتأليب الرأي للصالح الطبقة حتى يتم لها استهداف الأنظمة "الرجعية" !!
أما البلد الثامن الذي لم يصوت على الميثاق العالمي لحقوق الإنسان فهو العربية السعودية بدعوى وجود بعض البنود التي تعارض الإسلام.
إن قضية حقوق الإنسان أصبحت "دين" العصر وكلمته وتسبيح ضميره، وهي المسرح الحقيقي للمعركة كما كان يقول الرئيس الأمريكي الأسبق "نيكسون" عندما كان يود تجريم الثوار الشيوعيين، وبما اقترفه ستالين، وما أنتجته ثقافة "الكولاك " من انتهاكات سافرة لحقوق الإنسان على يد عصابة النومونكلاتورا الشيوعية في الاتحاد السوفياتي سابقا. نفس الشيء بدأ يعتقده اليساريون التائبون إلى "رشد" كونية حقوق الإنسان، بعدما كفروا وتخلو عن فكرهم الثوري، وأضحوا في موقع بورجوازي كما كانوا يتقولون منظرين !!
نعم... لقد ضحى البعض منهم بحياتهم وحرياتهم وكشفوا للعالم وجها دمويا لنظام قمعي، كما كشفوا للعالم زيف الديمقراطية الشكلية الفلكلورية منذ الستينات..لكنهم فشلوا في مشروعهم الذي ناضلوا من أجله، وهاهم الآن في إطار ليبرالي بورجوازي،أي حقوق الإنسان .
ثانيا: عتبة خيار النضال الديمقراطي:
ماذا يعني أن تشرع جريدة محسوبة على فصيل من اليساريين المغاربة في نشر كتاب "أمير المؤمنين" لجون واتربوري، قبل دخول ترجمته العربية لسوق النشر بالمغرب عام 2004 التي أشرف عليها عبد الغني أبو العزم وآخرون، على حلقات منذ الأسبوع الأول من شهر يونيو 2000، فمن المؤكد أن الكتاب يعتبر نشره صحفيا عنصرا تاريخيا وتوثيقا لكتاب ظهر منذ أكثر من أربعة عقود لمرحلة سياسية توارت،أي منذ عام 1965، التي عرفت انتفاضة الدار البيضاء المشهورة وما تلاها من فرض حالة استثناء واغتيال الزعيم المهدي بن بركة، ومع ذلك يلاحظ أن النشر في صحيفة قرار تنكشف من ورائه رؤية تعلن عن نفسها من خلال العنوان الآتي : لا زال الماضي مستمرا في الحاضر . [3]
إن كتاب واتربوري "أمير المؤمنين " وكتاب ريمي لوفو " الفلاح المغربي مدافع عن العرش" هما من أشهر الكتب الممنوعة في المغرب آنذاك، لكن الأكثر تداولا وقراءة لدى فئة واسعة من السياسيين والمثقفين وطلبة العلوم الاجتماعية خاصة السوسيولوجيا والعلوم السياسة .
صحيح أن صاحبيهما اشتغلا يوما في مطابخ سياسية و إدارية سهلت لهما الحصول على معلومات ووثائق داخل المغرب، لكن المرجعين ظلا قبلة للاستشهاد وهما رغم تبجح النخبة المغربية بسيمياء سياسية جديدة، فالكتابان يظلان المكبوت السياسي الحي والمستمر للعلاقات بين مكونات النسق السياسي المغربي من ملكية دولة وأحزاب باعتبار أن المخزن لا زال واقعا حقيقيا ترعاه مؤسسات متجذرة في النسيج الاجتماعي من الفرد ، الأسرة ، الشيخ ، المقدم ، الدوار ، القبيلة، الخلية…ثم النظام الحاكم. إنه النظام البطريركي الحديث بلغة هشام شرابي القائم على ثنائية الشيخ والمريد كما يذهب إلى ذلك عبد الله حمودي، وهو النظام المتجدد شكلا عبر رغبة في تجديد المؤسسات ، والمتجدد جوهرا من خلال تحيين Actualisation للو لاءات التقليدية كما يذهب إلى ذلك الباحث السوسيولوجي محمد شكري سلام.
لقد أظهر ريمي لوفو" أن أعوان السلطة من شيوخ ومقدمين، وأيضا القواد هم أبناء أعيان وقد شكلوا القاعدة السوسيولوجية لتقوية النظام السياسي داخل المجال القروي منذ نهاية الخمسينات " [3]
الولاء لا زال هو هو : انه الماضي يستمر في الحاضر ..ولا يغرنك بعض الشعارات المرفوعة الآن عبر وسائل الإعلام من قبيل : المسلسل الديمقراطي ، المفهوم الجديد للسلطة، العهد الجديد..الخ، شعارات صفراء فاقع لونها لا تسر من أدق النظر..!
لكن ما مصير الفصائل والأحزاب التي نادت بالديمقراطية ضد مخزنة المجتمع؟؟
ثالثا: فشل الخيار الثوري:
حاولت التنظيمات اليسارية الراديكالية، في عهد قد تولى، إيجاد مكانة سياسية تؤهلها لقيادة الشعب وفئاته من المظلومين والكادحين، وبما أن التنظيمات تكونت على هامش التمرد على الحركة الوطنية، والتي توصف بكونها خانت مهامها التاريخية تارة وبعدم قدرتها على تجاوز سقفها الطبقي – فإنها تفتقد للشرعية التاريخية والانتماء للحركة الوطنية والمساهمة في معركة الاستقلال . لذلك ارتكزت شرعيتها الثورية على ما يلي:
- رفض اقتسام السلطة أو المشاركة الجماعية في تسيير شؤون البلاد .
- تبني خيار الاستحواذ الثوري على السلطة، الشيء الذي سيؤدي إلى عزلها ومناصبتها العداء من لدن الجميع.
بالرغم من ذلك بذلت التنظيمات اليسارية الثورية مجهودات أساسية للبرهنة على ما يلي :
- عدم وجود استقلال حقيقي، أي أن المغرب لم يحصل إلا على استقلال شكلي .
- خيانة الحركة الوطنية لمهامها باعتبارها لم تنجز مهمة الثورة الوطنية الديمقراطية أو الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية.


- تبني مفهوم جذري للاستقلال أي قطع كل أواصر التبعية .
- تبني النظام الجمهوري .

- التركيز على اللاءات الثلاث : لا وطنية ولا شعبية ولا ديمقراطية النظام.
وبالرغم من تبني التنظيمات اليسارية الراديكالية للماركسية –اللينينية – ذات الوجه الروسي والصيني- كأيديولوجية رسمية اصطلحوا عليها بالمنهج العلمي للواقع والعمل على تطويره الحتمي – بقيادة الحزب الثوري الذي تصنفه الجماهير العمالية و الفلاحية والمثقفون الثوريون- فان هذا البعد الثوري لم يجد له صدى في المجتمع. وهذا ما يطرح سؤالا صعبا ، برأيي،على هذه التنظيمات : إذ كيف لا يؤدي الفقر والبؤس والظلم بالفقراء والبؤساء والمظلومين إلى التبني الموضوعي لإيديولوجيتهم التي تضمن خلاصهم وتحررهم، بل والتي تضمن انتقالهم من محكومين مضطهدين إلى حاكمين شرعيين شرعية شعبية وثورية ؟؟.
رابعا: فشل الرهان على النضال الديمقراطي:
إن خط النضال الديمقراطي الذي رسمه الاتحاد الاشتراكي منذ 1975، سيقتفي أثره فصيل يساري سيحصل على الشرعية ويشكل "منظمة العمل الديمقراطي الشعبي" سنة 1983 ، وحتى حين احتدم الخلاف بين تيارين داخل المنظمة سنة 1992 ، لم يكن أبدا حول "الخط الديمقراطي" بل كان حول حدوده …
إن انتصار الاستراتيجيا "الاحتوائية " لم يفض فقط إلى الانتقال من الخط "الثوري" إلى الخط"الديمقراطي" بل أدى كذلك إلى تحول في طبيعة المعارضة السياسية بالمغرب، إذ لم تعد معارضة للحكم بل أضحت معارضة صرفة للحكومة، ولم يعد الصراع حول طبيعة نظام قائم، بل انحصر في طبيعة سياسية حكومية متبعة ، بل إن المعارضة للحكومة ستختزل في معارضة لوزارة الداخلية تحديدا.
لقد فشل اليسار بصنفيه الحزبي والراديكالي في قيادة المجتمع لأسباب ذكرنا بعضها، فارتمي في أحضان المخزن بعدما فشل في تحقيق المشروع المجتمعي الذي حلم به اليساريون سواء الثوريون أو الإصلاحيون على حد سواء، والسبب هذي المرة هو الخوف من التيار الإسلامي المتنامي، حيث قال الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي في سوسيرا بعد مرور عامين على التناوب وهو يرد على منتقديه "يجب أن نعمل على إنجاح التناوب مهما كان وإلا فالبديل هو الأصولية" ، ويقصد السي عبد الرحمن اليوسفي بالأصولية الإسلاميين المغاربة.
لقد حق قول علي عمار في الوزير الأول اليوسفي: " اليوسفي كان رجلا ثوريا في سابقا، ولم يكن ديمقراطيا حداثيا" [4]، بمعنى أن هناك سببا آخر يعود إلى فشل اليساريين المغاربة في تحقيق مشروعهم بالرغم من المناخ العالمي الذي كان مساعدا لهم آنئذ مع الحرب الباردة ووجود معسكر اشتراكي ودول عسكرتارية وصلت للحكم في الوطن العربي،عكس الإسلاميين حاليا، وهو غياب الديمقراطية الداخلية في التنظيمات سواء السرية أو العلنية، وممكن العودة لكتابات الأستاذ "محمد لومة" فهي غنية في تفاصيل كثيرة تضع الأصبع عن غياب الديمقراطية وغلبة الوصاية و"المشيخة" لدى اليساريين المغاربة !!
ملحوظة:المقال جزء مبتسر بتصرف من مداخلة مطولة شاركت بها في ندوة في طاطا عام 2000 رفقة الزميل والصديق الأستاذ محمد انبابة من طانطان وهو رئيس الجمعية المغربية لحقوق الإنسان.
...................................
هوامش :
1-مجلة فكر ونقد عدد 1 ، 1997، ص 9.
2-Remy Leveau “ le fellah marocain défenseur du trône” .p :123
3- جريدة "بيان اليوم" الناطقة يلسان حزب التقدم والاشتراكية وهو أول حزب شيوعي بالمغرب قبل أن يغير اسمه بتعليمات من القصر كما يحكي الحسن الثاني رحمه الله في ذاكرته. وشغل وزارة الاتصال في الحكومة السابقة بالسيد نبيل بنعبد الله والآن يشغل نفس المنصب خالد الناصري. والكل يعلم دور وزارة الاتصال في تزيين وجه الخطاب الرسمي للمخزن
4- حوار مع الصحافي علي عمار، جريدة المساء يوم 15-07-2009
.

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !