وكأن الحياة نزعت من قلبه الفرح وحطت بين أضلعه المرار !..
في لحظة يقدرها القضاء كيف يشاء ..
قبيل مولده.. أو بعد استهلاله الحياة.. أو وهو طفل لايكاد يعي من الدنيا إلا صدر أمه ووجه أبيه ..
في لحظة قدرها القضاء ودون أن يعيها هو..
فجأة .. تغيب الحياة عن حياته ..يقصم الموت ظهره اللدن الصغير .. . ويغادر الأمان جدران فؤاده..
وتثقب قلبه قشعريرة ما يكاد يحسها إلا بعد أن يتيقن أنه صار وحيداً في هذه الحياة ..
لا ظهر يحميه.. لا قلب يرعاه.. لا أب يدفع عنه عاديات الأيام وغوائل الزمن..
لا يد ترفعه على صدر يدق قلبه بدقات الحنان والحب والغريزة الربانية ..
هنا فقط يشعر أنه في هذه الحياة وحده .. هو أشد الخلائق شعوراً بلفحة الحر.. ولسعة القر وقرصة الجوع.. وسخونة الدموع ..
وأشد الأحاسيس التي تقتله كل يوم وكل لحظة إحساسه بأنه في هذه الدنيا يتيم ..
نعم .. إنه اليتيم ..
تعرفه من نظرته المنكسرة الكسيفة .. وتستشعره من انكسار نفسه الحسيرة..
له قلب سكنه الوجع قبل أن يعرف معنى الألم .. وله لسان كتب عليه أن يحس طعم المرار حتى في مذاق أشد الأشياء اشتهاء ولذة ..
هو الذي تسكن أوجاعه أضلاعه .. وهو الذي تترنم تراتيل الحرمان في أسماعه ..
هو الذي حرمته الحياة بهجتها .. وأدارت له الأيام ظهرها ...
والــُيتم كالموت .. طعمه واحد .. مذاقه واحد .. لا علاقة له بدين أو ملة أو ثقافة أو عقيدة أو جنس أو لون..
ولكن تختلف وطأته ويتباين أثره باختلاف وتباين الظروف المحيطة به ..
فهو يشتد كالموت كلما كان اليتيم فقيراً من المال أو الأهل أو الرعاية أو الصحة .. وأشهر يتيم عند المسلمين هو نبيهم ورسولهم محمد صلى الله عليه وسلم ..
ذاق اليتم بنوعيه .. مرتان.. مات أبوه قبل أن يراه .. فهو اليتيم قبل أن يولد ... وهذه أشد حالات اليتم قسوة وألماً ..
وقد فجر ربه في قلب جده عبد المطلب ينابيع من الرحمة فوق الينابيع الإنسانية التي يحسها كل جد جاه حفيده الذي مات أبوه دون أن يراه ..
ثم ماتت أمه وهو ابن ست سنوات .. فصار يتيم الأبوين .. ثم مات جده .. فكفله عمه أبوطالب ..
وهكذا انتقل النبي من يتم إلى يتم إلى يتم .. ربما كان من أشد الناس تجرعاً لمذاق اليتم ..
أما أشهر يتامى الأدب الإنساني فهم يتامى الروائي الفرنسي الرهيب فيكتور هوجو
مثل "كوزيـت" في رائعته " البؤساء" والتي أبكى بقصتها قلوب أشد الرجال قسوة ..
فقد ولدت" كوزيت" لأب هارب من استحقاقات لحظة السعادة التي عاشها مع أمها ..
ولأم فقيرة أنجبتها ولم تقدر على نفقات إعاشتها ..
فأودعتها أمها وهي لم تبلغ الفطام بعد طرف صاحب فندق حقير وزوجته ليربياها بالأجر حتى تتفرغ الأم للعمل من أجل الإنفاق عليها ..
وظل صاحب الفندق يبتز الأم برسائله ليحتلب كل ما في طاقتها من جهد ومال ترسله إليه للعناية بطفلتها الصغيرة "كوزيت" بينما استغل " تيناردييه" صاحب الفندق وزوجته تلك الصغيرة في أعمال الخدمة ..وتنظيف الفندق ..وجلب المياه من الغابة ..وخدمة طلفتيهما اللتين في ذات سن "كوزيت" ..وعاشت كوزيت أسود أيام عمرها حتى بلغت السادسة من عمرها ..
وكانت رسائل الإنتهازي "تينارديه" تروع الأم في البلد التي تعمل به حينما تسوق إليها "كذباً " مرض الصغيرة وخطورة المرض على حياة طفلتها "كوزيت"..
فيجن جنون الأم حتى أنها باعت أسنانها .. ثم جدائل شعرها .. وأخيراً باعت نفسها لقاء قروش قليلة لترسلها لصاحب الفندق وتستنقذ بها طفلتها من الهلاك !!
واعتلت صحة الأم من الحزن والفقر واليأس حتى ماتت على سرير المرض وهي تنظر حولها كلما أفاقت متمنية أن ترى طفلتها للمرة الأخيرة قبل موتها ..
إلا أنها ماتت دون ان تراها.. فصارت ابنتها كوزيت يتيمة الأم حقاً بعد أن كانت يتيمة الأب حكماً ..
ويظهر دور " جان فالجان" كأروع دور إنساني عشته وربما عاشه العالم كله في رواية أدبية خالدة هي " البؤساء..
وهناك أيضا يتيمان شهيران لفيكتور هوجو في روايته " الرجل الضاحك"
أولهما اليتيم " جوينبلان "
ذلك الطفل الذي تآمر ملك انجلترا على والده الدوق لخصومة سياسية بينهما فنفاه الملك واختطف طفل الدوق ابن العامين وأسلمه إلى شيطان قام بمسخ بتغيير معالم وجه الطفل وباعوه لعصابة تستغل هؤلاء الأطفال في الأعمال البهلوانية ..
وعندما بلغ الطفل جوينبلان العاشرة وتبدل حال الملكية وقام الملك الجديد بمطاردة هذه العصابات ومنع جريمة خطف وتشويه الأطفال الصغار استقلت العصابة مركباً للهروب عبر البحر ..
وعلى حافة صخور جزيرة مهجورة وفي دجى الليل وتحت زخات مطر الشتاء ألقوا الطفل جوينبلان وتركوه وحده وأبحروا بدونه حتى يتخلصوا منه .. وقد ظنوا أنهم نجوا إلا أن البحر هاج عليهم ولاطمت أمواجه مركبتهم .ز
وقبل أن يبتلعهم في جوفه كتبوا رسالة قصيرة في رقعة وضعوها في زجاجة محكمة الغلق حملها البحر على سطحه بينما طواهم هم في جوفه .. وقد وجد الطفل جوينبلان ابن العشر سنوات نفسه وحيداً يقف على صخرة ضخمة في ليلة ظلماء حلكاء باردة قارصة ..
ودفعته غريزة البقاء إلى التحرك لينشد سبيلاً للنجاة فارتفع إلى قمة الصخرة ووجدها موصولة بصخور أخرى غطاها الجليد فسار عليها على غير هدى إلى أن سمع أنيناً بشرياً متقطعاً واهناً في غسق الدجى فارتعب منه أول مرة ثم آنس له وسار تجاهه وهو لا يكاد يرى نفسه فلم يجد شيئاً .. فآيس منه .. إلى أن سمعه مرة أخرى يصدر من تحت قدميه . فأيقن أن تحت الجليد شيئاً فحفر بكلتا عزيمته فأسفر الجليد عن وجه متجمد جزع فزع فاغر فاه ..إنه وجه امرأة غادرتها الحياة بعد أن غطاها الجليد ..
وهم الطفل جوينبلان أن يتركها إلا أنه سمع أنات أخرى متقطعة فهوى الطفل يجلو الجليد عن جثة المرأة فوجد طفلة رضيعة جاثية على صدر امها المتوفاة والذي ما زال يحتفظ رغم الموت ببعض دفء أبقى الرضيعة على قيد الحياة حتى وجدها الطفل "جويبلان" فكانت هي اليتيمة الثانية التي جاءت إلى الحياة على صدر أمها الميتة وانقطعت عنها أسباب الرجاء ..
إلا أن للقدر دائما حكمته ..
فقد تركت العصابة الطفل جوينبلان في قلب الليل البهيم على صخرة صماء في عرض البحر ليهيم الطفل ويسير تائهاً ولكن على خطو القدر ليسمع أنات الرضيعة التي أمات البرد أمها ودفنهما الجليد ليستنقذها الطفل "جويبلان " الذي رقت إنسانيته لها فنزع سترته ولفها بها وحملها وسار بها والإعياء والجوع والعطش كادوا يقتلونه إلى ان أبصر بعض نار على مسيرة بعيدة وهناك وجد "عربة" يعيش فيها كهل ومعه ذئب .. فاستغاثه واستدفأ عنده واكتشفوا أن الرضيعة قد أفقدتها عضة الصقيع بصرها فسماها الكهل "ضيا"..
ونشأ جويبلان وضيا في كنف الكهل " أرسوسو" إلى أن بلغ جويبلان الخامسة والعشرين وكن يجوب القرى مع وضيا والذئب و الكهل في عربته التي حولها إلى مسرح متجول ليقيموا عروضهم المسرحية ..
إلى أن شاءت الأقدار أن يقذف البحر بزجاجة تلقفها رجال متخصصون من البلاط الملكي في استقبال ما يلقي البحر من زجاجات ورسائل وإشارات من أصحاب السفن والمراكب الموشكة على الهلاك أو التي تطلب النجدة أو التي تسرد ما في البحر من عواصف أو أعاصير أو رياح ..
و فض رجال الملكة آنا ملكة انجلترا الرسالة فإذا بها اعتراف كامل من العصابة التي كان معها الطفل جويبلان وحددت كيفية شرائه وشخصية الذي قام بخطفه وتشويه وجهه وأن هذا الشخص قابع في أحد سجون انجلترا وأن هذا الطفل اليتيم الذي تم تشويهه هو ابن الدوق المنفي..
ولرواية " الرجل الضاحك" لفيكتور هوجو تكملة مثيرة .. وقد شعرت أنني أطلت فيها حد الإسهاب بما يخرجنا عن موضوع المقال ..
والشاهد من ذلك ..
أن اليتيم له خواص لا تختلف على مدى أزمان البشرية ولا تختلف باختلاف الجنس أو اللون أو العقيدة ..
وفي الإسلام فقد أحاط القرآن اليتيم بعناية تعكس العناية الربانية .. وتوقظ في قلوب الناس مشاعر التراحم .. والتعاطف .. والتحنان على هذا القلب الكسير والنفس الحسيرة ..
وكما أسلفنا فإن أشهر يتيم عند المسلمين هو نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم والذي رعاه ربه وأحاطه بعنايته حتى أنه حينما بلغ أشده وحمل الرسالة خاطبه ربه بقوله تعالى " ألم يجدك يتيماً فآوى .. ووجدك ضالاً فهدى..
ثم أوصاه آمراً إياه " ((فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)))
فأما اليتيم فلا تقهر ..
يا الله .. هل تأملت اللفظ القرآني ؟!!.. فلا تقهر !!..
هل شعرت بمشاعر قهر اليتيم!!
هل في حياتك قهرت يتيماً بقصد أو دون قصد ؟
هل صعرت له خدك؟.. هل أدرت له ظهرك ؟..
هل حرمته طعاماً اشتمه من ريح قدرك وبطنه على الجوع طاوية؟ !!
هل ضننت عليه بقروش في جيبك ؟!!
هل أكلت ماله ؟!! هل غصبت حقه ؟!! هل آذيته بكلمة ؟!! هل مددت عليه يدك ؟!!
لو أنك فعلت هذا .. أو شيئاً من هذا .. أو شيئاً كهذا .. دون أن تثوب أو تتوب أو تستدرك..
فتربص ..
فأنت مطلوب للثأر والانتقام منك كأشد ما يكون الثأر والانتقام ..
خاصة لو علمك أن الذي سيثأر منك لليتيم هو رب العالمين وأحكم الحاكمين ..
التعليقات (0)