ترى هل تبخّر ذلك الحلم العذب المذاق بالليالي الملاح بعد أن انبلج الصبح ولاح بـما سمّي بـ"الرّبيع العربي" ؟..
ترى هل أذّن الديك وصاح فأعرضنا عن الكلام الحلو المباح وعدنا لما حذقناه من عويل ونواح ؟...
لئن نبقى مسكونين بقناعة مفادها أنّ الشعوب العربية مُصِرّة اليوم،وقبل أيِّ وقت مضى،على الانعتاق من كلّ ما يُكبِّل إرادتها الحرّة،فإنّ واقع الحال يفرض التوجُّس من الانزلاق إلى مسارِ خديعةٍ يلتف على إرادة ذات الشعوب الثائرة الهائجة ليُعاقبها على اعتقادها أنها جديرة بحياة الأمم المُهابة...تلك الهيبة المستمَدَّة من إثبات القدرة على الإسهام في الارتقاء بالعطاء الإنساني بما يفضي إلى حياة كريمة للجميع على هذا الكوكب الأرضي المُنهَك والمُغتَصَب،حيث استعذبت قوى الدول العظمى الهيمنة عليه لزمن طال في ظلّ انقياد الشعوب المتخلفة إلى قدَرها البائس ومنها العربية التي أرهقتها الحضارة واستعصى عليها فهم نواميسها رغم كلّ ما تملكه من ثراء الإرث وخصوبة الجغرافيا وعنفوان العمران البشري...
لئن كانت الشعوب العربية تنشد حياة كريمة مُرفَّهة،فإنّ الخطر ليس فيما تتطلَّع إليه بقدر ما هو في صعوبة القدرة على التحكم في عواطفها المتلتهبة لصالح الاحتكام إلى نبراس العقل عسى أن تقفز على الأشواك وتسلم من الأفاعي التي تتربَّص بطريقها لتطحنها بتبرير مضلل يدَّعي أنّ طبيعة الثورات لا يستقرّ حالها إلا بعد ذبح القرابين تلو الأخرى على مقصلة الحرية لتتطهَّرُ بدمائها آثام الشعوب الثائرة،أي بعد أن تهتزّ الأوضاع اهتزازا عنيفا لا يُبقي ولا يذر وتعمّ الفوضى لعقود ويستفحل داء الفتنة بين أبناء الشعب الواحد الذي ليس له من حلٍّ سوى التسليم بقدَر الثورات كما نظّر لها المُنَظِّرون بتلك القراءة السلفيّة لشرْعِها بمعنى أنّ التاريخ ليس إلاّ أحداثا تتكرّر على نفس الشاكلة وفي كلّ زمان ومكان...
حيث اتّجه الاهتمام،اليوم،في الأنحاء الفسيحة الممتدّة المتّصلة لما بشّر به الأمريكان "الجدد" تحت مُسمَّى "الشرق الأوسط الكبير" أو"الجديد" نقف،ودون عناء، على أنّ المنطقة واقعة في مجرى رياح عاتية يُترجمها احتجاج شعوبها على السائد وإرادتها القويّة في التغيير وتؤَجّج ذات الرّغبة أيادي خارجية خبيرة بفنون "الطبخ السياسي" والإغراء...لكن ليس ثمّة وضوح فيما ستؤول إليه الأمور ولصالح مَنْ ؟...
وعلى دقّة الوضع وخطورته،لا نرى بَوْصلة تهدي سبيل دول الإقليم المرَشَّحة لمزيد من الهيجان،ولا نعثر على خططِ تنسيقٍ جدّيّة بينها لدرء مخاطر موجة التغيير ومكر الأعداء،وبالتالي ضرب الموعد مع تاريخ جديد يتشكّل بما تنشده الشعوب من وُلوجٍ لأنوار المدنيّة الحديثة...توصيف الحال يضعنا أمام شعوب منشغلة بثوراتها،كلّ منها "يُغنّي على ليلاه"،وأخرى تشاغب حكّامها من أجل إصلاحات أعمق،وثالثة ترصد المتغيّرات مكتفية بانتظار تداعياتها لفائدتها أو ضدّها...
يُمكن تبسيط المشهد،على شدّة تعقيده،في ما يتراءى من تحالفات تحاول الصمود قائمة بين أنظمة حكم وتيّارات مذهبية مدعومة بقوى عظمى تقليدية أو صاعدة كالآتي:
- التحالف الإيراني السوري اللبناني (حزب الله)،دون التغافل عن الدور العراقي المعلَن والخفيّ في هذا التحالف وعن تأثير بعض الأنصار الآخرين الموزّعين هنا وهناك...
- التحالف العقائدي السّنّي الذي يُمثّله بالخصوص تيار "الإخوان المسلمين" وتفرّعاته،بعد أن استطاعت أجنحة منه أن تستفيد من الثورات العربية بصعودها إلى الحكم في كلٍّ من تونس ومصر..(والبقية بصد التبلور)،وهي مدعومة من تركيا "الأردوغانية" وأنظمة حكم خليجيّة تقليدية...
- تحالف غير مسنود برؤية متجانسة بين "الأنظمة العربية التقليدية" التي بقيت ،نسبيا،في منأى عن الاهتزازات العنيفة والتي تعتمد إصلاحات متأنّية وحذرة،بدت آخر "انتصاراتها" في الانتخابات البرلمانية الجزائريّة التي فازت بنتائجها جبهة الحزب الحاكم على حساب انتظارات كانت تُرَشّح الإسلاميين لهذا الفوز...
- تحالف تيارات العنف الثوري الجهادي التي تطرح التغيير الرّاديكالي بفرض دكتاتورية تقوم على الصراع الدّموي والتي يُعَدُّ الفكر الجهادي الإسلامي،بما فيه "القاعدة" أبرز مكوناته الفاعلة...
إزاء مستجدّات هذا الوضع المحتقن،تنشط إسرائيل في الاضطلاع بدورها التاريخي المعهود في المنطقة المتمثّل في خلط الأوراق وتأجيج الصراعات حتى تظلّ المستفيد الرّئيسي من أيّ إعادة ترتيب...والواضح أنّ إسرائيل تستعجل الحاضر من أجل مزيد التغلغل في المنطقة،وفرض تسوية مهينة للقضية الفلسطينيّة وفقا لأهوائها...
لا يُمكن للشعوب العربية التي ظلت لقرون في صراع مع مكر التاريخ وقساوته عليها أن تستمرّ في تقديم التضحيات بتلك الطريقة العبثية التي أنهكتها لزمن طويل...
لدى ذات الشعوب،اليوم،من التجارب المريرة ما يكفي لتزويدها بعدم الوقوع في أخطاء الماضي التي دفعت ثمنها غاليا أجيالا وأجيالا...
واقع الحال أنَّ قِدْرَ الطّبخ العربي يغلي على نارٍ يشتدّ سعيرها...قد نكون على بيّنة من الخلطة التي يحتويها،لكننا لا نعرف نوع الطّبق الذي ينضج لنستهلكه...ثمّة أيادي كثيرة ولغايات متضاربة تفرض تدخلها لإنضاج هذا الطبق وفقا لأهواء وأذواق ليست بالضرورة لصالح غذاء صحّيّ بنكهة رائقة نُقبل على وليمته...
العالم العربي يتشكل من جديد على صفيح ساخن لبؤرة توتر ملتهبة تسكنه عفاريت القاعدة والجهاد الإسلامي وشيطان اللوبي الصهيوني وصلف "آيات الله" وعودة أوجاع العثمانيين واستكبار العمالقة الكبار وأحلام المراهقين من مثقّفينا المتعَبين وساستنا الجشعين...
يستهوينا وهج الثورات بمحاذيره ليزيدنا إصرارا على عدم الاستسلام من جديد لقدر الاستبداد الذي أذلّنا طويلا...غير أنّ وليمة "الربيع العربي" ليست جاهزة للاستمتاع بملاذّها دون جهد مثابرة رصين يمنع،فيما يمنع،استفادة الطفيليين من غفلة لا تترك مجالا للثمار تنضج على مهل...الطفيليّ يقتنص اللحظة المناسبة لأكل الزرع أخضر في غفلة ممن رعوه نبتا...والطفيلي،أيضا،لا يهتمّ بمتاعب إعداد الوليمة إنّما بحضور موعد الاستمتاع بها...وقد لا يندم إلا إذا وقع في ورطة،كما تروي هذه الحكاية من نوادر المتطفّلين:
ظنّ طفيليٌّ أنّ قوما ذاهبون إلى وليمة،"فقام وتبعهم،فإذا هم شعراء قد قصدوا باب السلطان بمدائح لهم،فلمّا أنشد كلُّ واحدٍ منهم شعره وأخذ جائزته،لم يبْقَ إلاّ الطّفَيْلِيّ،وهو جالس لا ينطق،فقيل له:أنشِدْ.فقال:لسْتُ بشاعِرٍ..قالوا:فمَنْ أنتَ ؟..قال:أنا من الغَاوِينَ الذين قال الله جلَّ ذِكْره:(والشُّعَراءُ يتَّبِعُهُمُ الغاوُونَ.)...
إذا كان الغاوون كثيرين من مثقّفي وساسة وأبناء الشعوب العربية،فإنّ السؤال مَنْ هم شعراء الإلهام في قصر بلاط "الرّبيع العربي" ؟.. ومنْ هو "السلطان" ؟..
تلك قضيَّة أخرى وشأنٌ آخر قد يجرّنا لأبعد ما رُمْنا الذّهاب إليه في مقال الحال...
التعليقات (0)