مواضيع اليوم

الوفاء بالوعد من منظور الفقه الإسلامي

A.Fattah Edris

2012-06-28 19:25:36

0

بسم الله الرحمن الرحيم

الوفاء بالوعد من منظور الفقه الإسلامي

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام علي المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلي آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين ... وبعد:
فإن الإنسان مدني بطبعه, في حاجة دائمة إلي غيره, فهذا يمشي في حوائجه, وذاك يزيل عسره, وثالث يمد إليه يد العون في ضائقة, ورابع يقصده في ملمة, وخامس يبغي منه البحث له عن عمل يتكسب منه أسباب حياته, وسادس يطلب منه قرضا لإتمام بناء أو زواج أو تأسيس منزل, وسابع .. وثامن .., وهكذا دواليك, ولن يعدم المرء أحدا من هؤلاء يعده بتحقيق ما طلب, فيظهر له بارقة أمل يتشبث بها لإشباع ضروراته أو حاجاته, وقد يتخلف الوعد أو يضل طريقه أمام الموازنة بين ضرورات وحاجات الواعد وضرورات وحاجات الموعود, فيعود الموعود إلي سابق حاله يرقب من يجدد فيه جذوة الأمل, لتوفير متطلبات حياته ومن يعول, وأيا ما كان الأمر فلن يسعده أن من وعده لم يف بما وعده به, وقد يوقعه عدم الوفاء بالوعد في حرج, إن كان قد رتب علي تحقيق ما وعد به عقدا أو تصرفا, ولذا فإن من المناسب بيان الحكم في مدي لزوم الوعد للواعد ديانة أو قضاء.
والوعد في عرف الفقهاء:عبارة عن " الإخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل ", وهو يختلف عن العقد الذي من تعريفاته أنه " ارتباط الإيجاب الصادر من أحد المتعاقدين بقبول الآخر, علي وجه ينشأ أثره في المعقود عليه ".
ومن الاختلافات بينهما: أن العقد يتضمن إنشاء الالتزام في الحال, أما الوعد فإنه لا يتضمن ذلك, وإنما هو مجرد إخبار عن إنشاء الالتزام في المستقبل, وإذا كان هذا هو الفارق بينهما من جهة المعني, فإن هناك فارقا بينهما من جهة الحكم, وهو أن العقد يلزم العاقد الوفاء به ويجبر علي هذا قضاء إذا امتنع من تنفيذه باتفاق الفقهاء, وأما الوعد فإنهم اتفقوا علي استحباب الوفاء به, وأنه من مكارم الأخلاق.
وأما الخلاف بينهم فهو في مدي وجوب الوفاء به قضاء, ولهم فيه مذهبان:
المذهب الأول:
يري أصحابه أنه لا يجب الوفاء بالوعد قضاء, فلا يملك القاضي إجبار الواعد علي الوفاء بوعده .
إلي هذا ذهب جمهور الفقهاء, ومنهم الحنفية وبعض المالكية, وهو مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية.
المذهب الثاني:
يري من ذهب إليه وجوب الوفاء بالوعد, وأن الواعد يجبر علي الوفاء بوعده قضاء إذا امتنع عنه اختيارا, علي تفصيل بين أصحاب هذا المذهب في ذلك .
وهو قول ابن شبرمة الذي يري أن الوعد كله ملزم, ويقضي به علي الواعد ويجبر علي الوفاء به, واختار ابن الشاط من المالكية أنه يقضي بالوعد علي الواعد مطلقا, سواء أدخل الموعود في السبب أم لا, وسواء دخل السبب بالفعل أو لم يدخل, ومشهور مذهب المالكية أنه لا يجب الوفاء بالوعد قضاء, إلا إذا أدخل الواعد الموعود في السبب بالفعل.
أدلة هذين المذهبين:
استدل أصحاب المذهب الأول علي عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاء, بما يلي:
أولا: الكتاب الكريم:
قال تعالي: " ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ".
وجه الدلالة من الآيتين:
نهي الحق سبحانه المرء عن الوعد بشيء, إلا إذا استثني في وعده, فقال: إلا أن يشاء الله, أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل, وهذا يدل علي حرمة الوعد بدون هذا الاستثناء, فمن وعد ولم يستثن كان عاصيا, ولا يجوز أن يجبر أحد علي معصية الله تعالي, فإن استثني في وعده فلا يكون مخلفا له إن لم يف به, لأنه إنما وعد غيره أن يفعل إن شاء الله تعالي, ولو شاء لأنفذه, فإن لم ينفذه فلم يشأ الله سبحانه الوفاء به .
ثانيا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها:
1- روي عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له, فلم يف ولم يجئ للميعاد, فلا إثم عليه ".
2- روي عن صفوان بن سليم " أن رجلا قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: أكذب لامرأتي يا رسول الله ؟, فقال صلي الله عليه وسلم: لا خير في الكذب, فقال الرجل: يا رسول الله أعدها وأقول لها ؟, فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا جناح عليك ".
وجه الدلالة منهما:
أفاد الحديثان عدم الإثم في إخلاف الوعد, وهذا دليل علي عدم وجوب الوفاء به علي الواعد, وأنه لا يقضي عليه به .
اعترض علي الاستدلال بهما:
إن في سند هذين الحديثين ضعف, ففي سند الأول راو مجهول وهو أبو وقاص, ولم يقل أحد بتوثيقه, وسند الحديث الثاني غير مسند, فكلاهما لا يحتج به, وعلي فرض صحتهما فلا حجة فيهما علي عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاء, لأن الحديث الأول إنما دل علي عدم الإثم في حال إخلاف الوعد, إذا كان ثمة عذر يمنع الواعد من الوفاء بعد انعقاد نيته علي الوفاء, بدليل قول رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحديث: " إذا وعد الرجل ونوى أن يفي به ", وقد تأول بعض العلماء الحديث الثاني, بأن المراد من قوله: " أعدها وأقول لها ", أي: أعدها وأنا أعتقد الوفاء, ثم يحدث منه إخلاف الوعد في المستقبل, علي أن هذا الحديث ورد في علاقة الرجل بزوجته, وهي علاقة يتجوز فيها بما لا يتجوز في غيرها.
استدل أصحاب المذهب الثاني علي وجوب الوفاء بالوعد قضاء, بما يلي:
أولا: الكتاب الكريم:
1- قال تعالي: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ".
وجه الدلالة من الآية:
أفادت الآية الكريمة أن من قال ما لا يفعله, فهو مقترف معصية من الكبائر, لأن الحق سبحانه يمقت هذا مقتا كبيرا, وعدم الوفاء بالوعد يستوجب ذلك, فكان الوفاء به واجبا, قال ابن العربي: وعموم الآية حجة لنا, لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله علي أي وجه كان, من مطلق أو مقيد بشرط.
اعترض علي الاستدلال بها:
قال ابن حزم: هذا الإثم إنما هو علي ترك القائل - الذي لم يفعل ما قاله – الاستثناء بالمشيئة, إذ الوعد محرم بغير استثناء, فمن وعد ولم يستثن فقد عصي الله تعالي في وعده, وعلي هذا تحمل الآية الكريمة.
2- قال سبحانه: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا ".
وجه الدلالة من الآية :
أفادت الآية الكريمة وجوب الوفاء بالعهد الذي قطعه المرء علي نفسه, سواء أوجبه علي نفسه لله تعالي, أو لأحد من خلقه, قال الجصاص: توجب الآية علي المرء الوفاء بما عاهد الله عليه من النذور والدخول في القرب, حيث ألزم الله تعالي إتمامها, وكل ما قامت به الحجة من أوامر وزواجر فهو وعد.

ثانيا: السنة النبوية المطهرة: أحاديث منها :
1- روي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا, ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها, إذا حدث كذب, وإذا عاهد غدر, وإذا وعد أخلف, وإذا خاصم فجر ".
2- روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان ".
وجه الدلالة منهما:
أفاد الحديثان حرمة إخلاف الوعد, وإذا كان كذلك كان الوفاء به واجبا, ويجبر الواعد علي ذلك قضاء .
اعترض علي الاستدلال بهما:
قال ابن حزم: إن هذين الحديثين لا حجة فيهما علي وجوب الوفاء بالوعد قضاء, لأنهما ليسا علي ظاهرهما, فإن من وعد بما لا يحل أو عاهد علي معصية, لا يحل له الوفاء بشيء من ذلك, كمن وعد بالزنا أو شرب الخمر أو بما يشبه ذلك, فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد فغدر مذموما أو ملوما أو عاصيا, بل قد يكون مطيعا مؤديا فرضا, وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون إنجاز الوعد والعهد فرضا, إلا علي من وعد بما يجب عليه, كإنصاف من دين أو أداء حق فقط, ولأن من وعد وحلف واستثني بالمشيئة قد سقط عنه الحنث بالنص والإجماع المتيقن, وإذا سقط عنه لم يلزمه فعل ما حلف عليه, ولا فرق بين وعد أقسم عليه ووعد لم يقسم عليه.
3- روي الليث عن ابن عجلان, أن رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله بن عامر قال: " قالت لي أمي: هاه تعالي أعطك, فقال لها رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما أردت أن تعطيه ؟, فقالت: أعطيه تمرا, فقال صلي الله عليه وسلم: أما أنك لو لم تعطه شيئا كتبت عليك كذبة ".
4- روي هشام بن سعد عن زيد بن أسلم رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " وأي المؤمن حق واجب ".
5- روي إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " لا تعد أخاك وعدا فتخلفه, فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة ".
6- روي الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من قال لصبي: تعال هاه لك, ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة ".

وجه الدلالة من هذه الأحاديث :
أفادت هذه الأحاديث وجوب الوفاء بالوعد, وأن إخلافه يؤدي إلي اتصاف المخلف بصفة الكذب, فضلا عن أنه يورث العداوة والبغضاء بين الواعد والموعود, وذلك يقتضي وجوب الوفاء بالوعد قضاء .
اعترض علي الاستدلال بها :
قال ابن حزم: هذه الآثار لا تصح, فإن حديث عبد الله بن عامر في سنده راو مجهول, وحديث زيد بن أسلم مرسل, وفي سنده هشام سعد وهو ضعيف, وحديث أبي إسحاق مرسل كذلك, وفي سنده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف, وحديث أبي هريرة لم يسمع الزهري من أبي هريرة شيئا, ولو صحت هذه الآثار لقلنا بها.
المناقشة والترجيح:
والذي تركن النفس إليه من هذين المذهبين – بعد الوقوف علي أدلتهما, وما اعترض به علي بعضها – هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء, من عدم وجوب الوفاء بالوعد قضاء, لما استدلوا به علي مذهبهم, ولا ينال من حجية أدلتهم ما اعترض به علي الاستدلال بالسنة, وذلك لأنه لو سلم ضعف الحديثين, فغاية ما تدلان عليه هو عدم الإثم علي إخلاف الوعد, وإن كان يلزم الإثم علي إخلاف الوعد فإنه لا يلزم منه وجوب الوفاء بالوعد قضاء, لعدم التلازم بين تأثيم عدم الوفاء بالوعد والقضاء به علي الواعد .
وأما ما استدل به أصحاب المذهب الثاني علي وجوب الوفاء بالوعد قضاء, فقد أورد عليه بما أوهن من حجيته علي مذهبهم, وعلي فرض سلامتها منه فإن غاية ما تدل عليه هو استحباب الوفاء بالوعد, حتى لا يوصف الواعد بالكذب, أو ينشأ بينه وبين الموعود نوع من العداوة والبغضاء نتيجة إخلاف الوعد, أو اتصاف الواعد بصفة من صفات المنافقين, ولا دلالة في ذلك كله علي أن الوفاء بالوعد مما يجبر الواعد عليه قضاء, لأن الواعد يتطوع غالبا بما يعد به, فهو يحسن إلي الموعود بما وعده به, ولا يقضي علي المرء بما يتطوع أو يحسن به إلي الغير, لقول الحق سبحانه: " ما علي المحسنين من سبيل ".

أ.د. عبد الفتاح إدريس




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !