أعاد التقرير الأخير لمنظمة هيومان رايتس ووتش الجدل حول الوضع الحقوقي بالمغرب إلى واجهة الأحداث، حيث أشار إلى تراجع وضعية حقوق الإنسان بشكل عام في المغرب السنة الماضية 2009. وهو ما اعتبرته الجمعيات الحقوقية أنه كان متوقعا، لعودة الدولة إلى تطبيق ممارسات الماضي في التعامل مع عدة قضايا، منها خنق حرية التعبير بالإبقاء الخطوط الحمراء، حيث أودعت السجن عدد من الصحفيين، فضلا عن عدم الالتزام بما جاء في توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وهي أبرز المؤشرات التي جعلت المغرب يسجل تراجعا بحسب المنظمات الحقوقية الدولية على مستوى مجموعة من الالتزامات والاتفاقيات الدولية.
وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لمنظمة هيومان رايتس ووتش في ندوة صحفية بالرباط، "أن المغرب لديه مجتمع مدني حيوي وصحافة مستقلة، لكن السلطات بمساعدة القضاء تستخدم تشريعات قمعية لمعاقبة وسجن معارضين سلميين، وخاصة منتقدي النظام الملكي والمشككين في (مغربية) الصحراء أو الذين يسيئون إلى الإسلام".
وعلى الرغم مما ورد في تقرير هيومان رايتس ووتش أبدى عدد من الحقوقيين تفاءلا كبيرا تجاه التطور الذي يشهده المجال الحقوقي، مؤكدين بأن الوضع الحقوقي المغربي يسير منحا تصاعديا، وما تم إنجازه منذ تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة يعد جد مشجع.
ولم ترق خلاصات تقرير هيومان رايتس ووتش السلطات الرسمية في الرباط، فسارعت إلى الرد عليه من خلال وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية، خالد الناصري بدعوة المنظمات غير الحكومية الحقوقية الدولية إلى التحلي بمزيد من التروي والموضوعية، واصفا خطابها بـ "السطحي" ومقاربتها ب "الانتقائية".
ويأتي تقرير هيومن رايتس ووتش في وقت أصدر فيه القضاء المغربي رزمانة من الأحكام القاسية في حق الجرائد المستقلة حتى سمي عهد حكومة عباس الفاسي بالتاريخ الأسود للصحافة المغربية. فأغلقت جرائد وصودرت أخرى وسجن صحافيون، وغرم آخرون مبالغ مالية وصفت بالخيالية.
وأتى تقرير هيومن رايتس ووتش متزامنا أيضا ونشر المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان (مؤسسة مدنية) تقريرا عقب انتهاء عمل لجنته المكلفة بالبحث في توصيات "هيئة الإنصاف والمصالحة"، وتم الإعلان فيه عن حل العديد من الحالات العالقة التي اعتبرت معقدة بالنظر لقدمها وكذلك لطبيعة الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها الضحايا المعنيون.
واعتبر رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان أحمد حرزني، أن أغلبية التوصيات جرى تنفيذها، كما أن الأغلبية الساحقة من ملفات جبر الضرر الفردي عولجت، وأن مجلسه ورث 66 حالة وهي من أصعب الحالات عن هيئة الإنصاف والمصالحة، من أصل 800 حالة من مجهولي المصير، وأنه لم يتبق سوى 9 حالات لم يجر التوصل بعد بالحقيقة فيما يخصها، بسبب الإمكانات المادية واللوجيستية التي لا تسمح بتحر دقيق يوصل إلى حقيقة الاختفاء.
وكشف تقرير لجنة المجلس الاستشاري أنه استطاع استخراج رفات 182 شخصا لنقلها أو للتأكد من هوية أصحابها، وتمكن من "حل العديد من الحالات العالقة التي اعتبرت معقدة بالنظر لقدمها وكذلك لطبيعة الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها الضحايا المعنيون"، وأن 89 عائلة من أقارب ضحايا الأحداث الاجتماعية بالدار البيضاء والناظور تمكنت من التعرف على أماكن دفن ذويها، كما تم الكشف عن جود 49 حالة اختفاء قسري في البلاد في الفترة من 1956 إلى 1999 "كانت لأشخاص لهم علاقة بقضايا سياسية"، وأن أكثر من 18 ألف ملف للمتضررين من انتهاكات حقوق الإنسان تم البت فيها ما بين التعويض المادي أو الإقرار بعدم الاختصاص أو الرفض أو الحفظ، وتدارك المجلس ذلك حين تعهد بمواصلة البحث في الملفات التي بقيت عالقة.
ويؤكد القيمون الرسميون على الشأن الحقوقي بالمغرب أن هذا التحرك يتضمن حرصا قويا على طي صفحات الماضي الأكثر إيلاما، حيث تم بمقبرة الناظور إغلاق ملف ضحايا 1984 بشكل نهائي بعدما حددت هوية جميع الجثث على إثر تفاهم مع أسر الضحايا، وفق المعايير الدولية المعمول بها في ذات المجال.
وغير أن العديد من الهيئات الحقوقية المغربية المدنية رأت عكس ودلك وتتحفظت على نتائج التقرير ووصفتها بـ "المخجلة"، نتائج قالت أن إعدادها تطلب أربعة سنوات من عمل لجنة تابعة للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان المغربي (مؤسسة حكومية رسمية) وأصدرها في أواسط شهر يناير للسنة الجارية 2010 دون أن تحمل جديدا، بدليل أنها لم تستطع حل لغز ملف اختفاء الزعيم السياسي المغربي المعارض المهدي بنبركة الذي اختطف بفرنسا في 29 أكتوبر عام 1965 وبقي قتله ومكان دفنه مجهولا لأكثر من أربعين عاما ومحاط بكثير من التعتيم.
وهو ما دعا بمتتبعي الشأن الحقوقي بالمغرب إلى أن تصفية كامل تركة سنوات الجمر والرصاص بقيت معلقة إلى حين، حيث فشلت لجنة المجلس الاستشاري في تقريرها الأخير في الكشف عن كل حالات الاختفاء القسري أيام سنوات الجمر والرصاص، مكتفيا بإصدار لوائح المفقودين، والتصريح بأن الذين وردت أسماؤهم فيها قد توفوا في مراكز الاحتجاز أو غرقا، من دون الاتصال بعائلاتهم وإطلاعهم على تفاصيل هذه الاستنتاجات، هو ما لم يرق عائلات الضحايا، فسارعت إلى الإعلان عن مسلسل جديد لمواصلة الاحتجاج إلى أن يتم استكمال الحقيقة وكشف المصير.
وقد اعتبر عدد من الحقوقيون أن التقرير الأخير للجنة المجلس الاستشاري لم يتضمن أي جديد مقارنة بتقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، سوى التصريح بعدم التوصل إلى أي نتائج في ما يخص ملفات المختطفين والإعلان عن إغلاق الملف والانتهاء من تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، ولرفع اليد بصفة نهائية والتملص من الملف، والإصرار على عدم إجراء التحليلات الجينية للرفات المعروفة أماكنها، عكس إرادة العائلات في إقرار الحقيقة.
إلا أن عددا من أعضاء هيئة الإنصاف والمصالحة التي انتهت مهمتها أوضحوا أن المغرب عرف تقدما كبيرا في مجال حقوق الإنسان والحريات الفردية، على الأقل مقارنة بالدول العربية والإفريقية، وأن المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بات يعزز المكاسب الحقوقية. فيما ذهب مجموعة من الحقوقيين إلى اعتبار وقوف المجلس عاجزا عن كشف مصير اختفاء الزعيم السياسي المغربي المهدي بنبركة، ينفي عنه إضافة أي جديد على الساحة الحقوقية فيما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة التي ورث عنها المجلس عدة ملفات هو ملزم بكشف حقيقتها كإنهاء ملف الاختفاء القسري.
ويرى آخرون أن عدم حسم المجلس في ملف اختفاء المهدي بنبركة، يفقده ثقة الرأي العام الوطني والدولي كمؤسسة وطنية مهتمة بالشأن الحقوقي، فيتم تصنيفها ضمن المؤسسات المخزنية التي تتستر على جرائم عدة شخصيات لها علاقة بسنوات الجمر والرصاص. وهو ما يجعل البعض ينعثونه اليوم بأنه فد تحول إلى مؤسسة رسمية برتوكولية فقط، تقدم الاستشارة فقط دون أن تنزع منزع الوقوف على الخروقات في مجال حقوق الإنسان.
وتكثر اتهامات الرأي لشخصيات قوية في الدولة بتورطها في اختفاء الزعيم المعارض المهدي بنبركة. هذا في وقت يتداول فيه الشارع العام عدة روايات بخصوص مصير بنبركة، وتتحدث عن سيناريوهات مختلفة من بينها أن بنبركة قتل في باريس، ونقل جثمانه إلى المغرب حيث أذيب في حامض كيماوي، بإشراف وزير الداخلية الأسبق الجنرال "محمد أوفقير" الذي كان يعارض عودة بنبركة إلى البلاد، وهناك من روج أن الزعيم المختطف قد دفن في مكان ما بضواحي الرباط...
وأكد عدد من المراقبين أن التقرير الأخير للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان وبفشله في حل لغز اختفاء "بنبركة" وباقي ضحايا الاختفاء القسري يجعل الوضع الحقوقي في المغرب لا يراوح مكانه، على الأقل في أعين المنظمات الحقوقية الدولية، ويربطون تراجع الوضع الحقوقي في المغرب في تقارير هذه المنظمات إلى عدم تحمل الدولة المغربية لمسؤوليتها في تصفية ملف المهدي بنبركة، مما يمحى كل المجهودات التي قامت بها الدولة في مجال جبر الضرر من خلال هيئة الإنصاف والمصالحة.
ولا تزال البوليساريو والجزائر تكبد المغرب إحراجا قويا لدى المجتمع الدولي، فبالرغم من تأكيد المغرب أن محاكمات الصحراويين هي محاكمات مدنية عادية، تبقي المنظمات الدولية على اتهامه للمغرب بتنظيم محاكمات سياسية في حق الناشطين الصحراويين. وفي هذا السياق نشرت منظمة العفو الدولية "أمنستي" تقريرا طالبت فيه السلطات المغربية بتحديد هوية المسؤولين الذين ارتكبوا أو رخصوا بارتكاب التعذيب وتقديمهم للعدالة، وطالبت بضمان محاكمة عادلة للطلبة الصحراويين.
كما ذهبت أبعد من ذلك عندما حملت، بطريقة غير مباشرة، المسؤولية للمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بعدم تنفيذه لتوصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وطالبت بـ «تنفيذ توصية هيئة الإنصاف والمصالحة لإصلاح قطاع الأمن، لا سيما في ما يتعلق بتدخلات رجال الأمن، وتنفيذ توصية الهيئة أيضا في ما يتعلق بعدم الإفلات من العقاب.
وأمام هذا الوضع لا يزال المشهد الحقوقي بالمغرب مقلقا، في وقت تقوم فيه الدولة بتجاوزات كبيرة فيما يخص التعامل القمعي مع الحركات الاحتجاجية المطالبة بالتشغيل، وخاصة حاملي الشواهد العليا المعطلين، إضافة إلى الدولة قد عادت إلى أسلوب الاعتقالات في قضايا شتى، وهو ما ينظر إليه كتراجع عن عدد من المكاسب الحقوقية.
وعموما يبقى تجاوز الملاحظات المسيئة حول الوضع الحقوقي المغربي رهين بإسراع تسوية كامل ملفات الاختفاء القسري بصفة نهائية والكشف عن حقيقتها أمام الرأي العام الوطني والدولي.
وعليه فإن الوضع الحقوقي في المغرب سيبقى متشنجا على المستوى الداخلي ومسيئا لصورة الدولة على المستوى الخارجي، ما لم تبادر الأخيرة إلى تقديم ضمانات واقعية لعدم العودة إلى الأساليب الماضوية، وفي وقت تنظر فيه الهيئات الحقوقية المغربية إلى مجهودات الدولة في مجال حقوق الإنسان بعين من التوجس والريبة، وتصر على المطالبة بالاعتذار الرسمي لعائلات الضحايا من ما قامت به الأجهزة الأمنية من قمع.
Elfathifattah@yahoo.fr
0663215880
التعليقات (0)