كانت طباع سكان المدينة الجديدة التي تعينت بها قريبة من طباعنا ان لم تتشابه .. لا توجد بها سوى ثانوية واحدة تجمع أبناء المدينة مع أبناء القرى المجاورة , الذين يأتون للدراسة ويعيشون وحدهم بعيدا عن أسرهم ويعتمدون على ما يصرف لهم من إعانات مالية من الوزارة .. ورغم صغر المدينة كان يفد إليها الكثير من المعلمين من باقي مدن المملكة في كل عام كما روى لي الزملاء الجدد .
جاءت فكرة السكن مع احد الأصدقاء المعينين من منتصف العام .. بعد ان اتصلت عليه لأعرف منه معلومات وأخبار ( استخبارات شخصية )عن المدرسة التي سبقني إليها .
أجاب على جميع الأسئلة التقليدية التي قمت بطرحها عليه بصدر رحب .. ثم سألني أين سكنت .. أخبرته باني لم أقم باستئجار منزل .. عندها بارد بتقدم الدعوة لي لمشاركته السكن .. ووافقت بدون تردد .. فالمدينة صغيرة ولا يوجد بها فنادق وشقق مفروشة - قبل 17 عام - ومن الصعوبة ان تحصل على شقة وتقوم بفرشها وتجهيزها وتداوم في نفس الوقت .
صديقي الجديد من أسرة ثرية ومعروفة في مدينتنا .. كان في قمة الاحترام والكرم والانضباط .. كل شئ عنده يتم بتنظيم وترتيب مسبق .. يحضر دروسه في كل يوم ويعطيها الاهتمام المطلوب , رغم انه يدرس خمس مواد دراسية .. واعتقد ان تغلبه على كثرة المواد التي درسها من العام الاول للمرة الاولى يعود لتفوقه الدراسي .. فهو متخرج بتقدير مرتفع في الجامعة رغم صعوبة تخصصه وعنجهية وتسلط هيئة التدريس بالجامعات السعودية .
كان زميلي أفضل مني في كل تصرفاته .. حتى انه من كثرة إخلاصه وحبه للعمل .. قرر تخصيص غرفة في ( سكننا ) لطلاب المرحلة التي يدرسها .. ليقوم من خلال (الصف المنزلي ) بإعادة شرح مواده لمن لم يستوعبها في الصف .. وكان عدد الذين يتوافدون على المنزل يزيد عن الـ ( 10 ) طلاب .
أتذكر ان احد الطلاب كان يأتي معه والده ليوصله لمنزلنا كل يوم ليستفيد من دروس التقوية التي يقوم بها زميلي لوجه الله ودون إلزام من احد .. وكان والد الطالب يدير احد القطاعات العسكرية في المدينة .. وقد اشتهر بالتعامل بقسوة مع العاملين تحت إدارته وسمعته سيئة بين سكان المدينة لكن يهابون رتبته .. كان يتودد لنا بشكل يفوق الوصف لان ابنه يدرس حينها في الصف الثالث ثانوي ويحرص على حصوله على مجموع عال ..وللأسف الابن يتمتع بغباء نادر وضعيف في تحصيله العلمي وصاحب شخصية مهزوزة بسبب سيطرة والده على كل تصرفاته.. فحديثه معه امامنا يشعرك ان ابنه في المرحلة الابتدائية .
بالاضافه لحرصه على احضاره للاستفادة من الدورس كان يحرص على تقديم كل إمكانيات إدارته المهمة لخدمتنا ليحصل ابنه على الـ (600 ) درجة من المجموع الكلي للدرجات .. ومن ضمن عروضه المميزة .. تقديم رحلات ترفيهية (بحرية ) خاصة لنا ولضيوفنا متى رغبنا حتى في الاماكن الممنوعة .. إضافة لتقديم وعد بالمساعدة في الحصول على خط هاتفي .. بدل ان نشتريه بأكثر من عشرة الآف ريال .. قبل الخصخصة وقبل الجوالات .. أيام وزارة البرق والبريد والهاتف .. المهم ان السنة انتهت ونجح ابنه ولم نستفد من عروضه .
أتذكر ان صديقي لم يترك لي فرصة لأقوم بفعل شئ يشعرني باننا شركاء في السكن .. كان يقوم بشراء كل ما نحتاجه في بداية كل شهر .. بأمانة أحسست وقتها بانني عالة على كثرة كرمه وطيبته .
وبدون قصد أو تعمد مني قابلت كرمه بسوء الأدب فقد كانت ( دشات) القنوات الفضائية تنتشر في ذلك الزمن بين الناس على استحياء .. ومن أول راتب لي عقدت صفقة سرية مع وكيل المدرسة لشراء دشه القديم .. وطار أكثر من نصف راتبي الأول ثمنا للصفقة .. صديقي بعد ان أخبرته لم يعترض على الأمر أو ينزعج , كون الدش من المحظورات الاجتماعية حينها , واختصر رده بابتسامة عريضة وذهب لغرفته الخاصة التي لا يخرج منها إلا بشق الأنفس إما للدروس وإما للأكل .
لم يشاركني فرحة تركيب أول دش في حياتي في تلك الليلة إلا جارنا الذي يعمل في الأمن ويسكن في الدور العلوي وحده .. لان زوجته تكمل دراستها في مدينة أخرى .. وكان شقيقه الصغير احد طلاب المدرسة ومن ضمن وفد الدروس الخصوصية اليومي عند صديقي .. لذلك قام بأعمال بطولية وخدمات لوجستيه لا تنكر لنكمل التركيب في وقت قياسي .
في المدرسة كنا نكون علاقة سريعة مع بعضنا البعض ونلتقي بعد انتهاء الدوام .. طبعا انا لم اُدرس ولو يوما واحدا في حياتي قبل حضوري لتلك المدرسة .. وللأسف جسمي نحيل وتعينت في المرحلة الثانوية لان تخصصي يفرض علي هذا الأمر .. وكان الاعتقاد لدى القيادات التربوية انه كلما كبر جسم المعلم زادت هيبته وهذا الاعتقاد أظن انه باق للان .. والاعتقاد بالطبع يندرج على الطلاب الذين شعرت انهم لم يهضموا شكلي .. ولم يقتنعوا بأنني انفع لان أكون معلم ثانوي .. سني حينها كان ( 24 ) عام .. وفي الصف الثالث ثانوي كان بعض الطلبة قد تجاوزوا هذا السن دون ان يحولوا للدراسة المسائية .. فالأمر يخضع للفزعة والواسطة حتى لو اضر بالتربية .
ولي مع الصف الثالث ذكريات سيئة .. فعندما استلمت الجدول في أول يوم أداوم به بالمدرسة .. كنت مطالبا بحضور الحصص والالتزام بتوزيعه .. وكانت أول حصة عند نفس الصف ( الثالث أدبي ) الذي تحول مسماه الآن إلى ( القسم الشرعي ) ولا اعلم سبب التغيير رغم وجود قسم شرعي متكامل في ثانويات تحفيظ القرآن الكريم , ولا اعلم ايضا لماذا لم يتغير في ثانويات البنات وبقي كما هو تحت مسمى ( القسم الأدبي ) .
فـي أول حصة دراسية لا يشرح أي درس .. وتصبح الحصة عبارة عن ساعة للتعارف أو الدردشة بين الطلاب ومعلمهم .. قررت وقتها ان اسأل الطلاب عن أسمائهم رغم ان أسماء طلاب المدرسة بأكملها كانت معي .. لكني كنت متورطا لأبعد درجة ولا ادري كيف أتصرف فالخبرة صفر ولم أخض التجربة من قبل حتى لو تجربة وهمية داخل الجامعة .. وحين وصل السؤال (الممل) عن اسم وعنوان البحث في العام السابق لأحد الطلاب القابعين في مؤخرة الفصل .. كان جوابه عادي .. قال نسيت اسم البحث .. لم تعجبني طريقة جوابه .. خصوصا ان لي ذكريات ومعارك شرسة مع الكراسي الخلفية عندما كنت طالبا وكنت احد روادها ومحبيها .. ولم يسعفني الموقف للرد على إجابته .. إلا بالاندفاع بعجلة وغباء لأقول له : اخرج من الصف ..اعتقد انها كانت أصعب جملة نطقتها في حياتي ( اطلع برا ) .
الطالب بدوره رفض الخروج .. ومن حسن الحظ ان الحصة انتهت في نفس وقت امتناعه عن الخروج .. وفرحت - في داخلي - عند سماع جرس المدرسة يعلن عن نهاية حصتي الأولى في التعليم .. لأني كنت مرتبكا لأبعد درجة وليس لدي ما أقوله ولا اعرف المنهج المقرر ولم أشاهده حتى بالعين المجردة .. واكتشفت بعد ذلك عدم وجود منهج من الأساس وما سأقوم بتدريسه عبارة عن مفردات تعتمد على شطارة المعلم وفهلوته .
المهم انني خرجت دون ان أرد على الطالب .. وكل ما قمت به تمثل في لملمت أوراقي التي تسلحت قبل بدء الحصة دون هدف ودون فائدة وكانت للتمويه على الطلاب .. وانسحبت من داخل الصف بهدوء .. لم ابتعد كثيرا عن الصف .. وسمعت خطوات تلاحقني في الدرج عند نزولي .. والتفت ولم أجد خلفي غير الطالب العملاق الذي رفض الخروج من الصف .. كان يلاحقني بسرعة .. اعتقدت ان المعركة ستبدأ .. لكن حدث العكس .. وسألني بمنتهى الأدب والاحترام أين تريدان أقف .. يقصد غرفة المدير أو الوكيل .. استغربت من تغير ردة فعله .. طلبت منه العودة للصف.. لان الموضوع انتهى ولا توجد مشكلة ليقف من اجلها .
بالنسبة لمدير المدرسة كان رجلا كبيرا في السن ومغلوبا على أمره .. أوكل أمور المدرسة الفنية لمعلم سوري يشبه الإعلامي جورج قرداحي صاحب البرنامج الشهر " من سيربح المليون " في الشكل وفي طريقة الحديث .. غير انه يلبس الثوب السعودي ويفرض احترامه على الجميع ( طلاب ومعلمين ) .
اما الأمور الإدارية وشؤون الطلاب فيقوم بها وكيل المدرسة وهو المتصرف الأول والأخير .. يخشاه طلاب المدرسة ويحترمه كل المعلمين وأولياء أمور الطلاب .. لأنه مخلص في عمله .. وشخصيته مرحه لأبعد درجة وذكي .. وزيادة على ذلك هو إداري بالفطرة .. لم يعتمد على دورات الوزارة التي يرى كل من يعمل في الميدان التربوي ان وجودها مثل عدمه .. والغريب ان وزارة التربية لا تعد قادة لإدارة المدارس وشؤون الطلاب والإرشاد وغيرها من الوظائف الإدارية ولكن تسد حاجتها عن طريق سحب مجموعة من المعلمين وتفرغهم ليتم تنصيبهم على الشواغر وبعد سنوات قد يحصل بعضهم على دورات لمدة نصف عام .. تدرس لهم خلال الدورة مواد نظرية لها أسماء رنانة تشعرك بان من سيجتازها سوف يصبح إداري من الطراز الأول ويستطيع قيادة مدرسة يزيد عدد طلابها عن ( 1000) طالبا من المراهقين بكل سهولة .
في نفس المدرسة .. أذكر ان احد معلمي المدرسة من مدينتنا كان قد قرر الاستقرار في المدينة التي وفدنا إليها بعد ان تعين ولم يطالب بالنقل .. وقد سبقنا بسنوات في حقل التدريس .. هيئته تدل على الالتزام والتشدد .. كان الكل في الكل في تحريك النشاط الطلابي داخل المدرسة .. وله مميزات خاصة من قبل الإدارة .. ويحترمه الطلاب .. ومؤثر بشكل كبير لا يمكن وصفه .. كانت أتابع تحركاته في المدرسة فهو لا يسير الا بموكب من الطلاب المطوعين والملتزمين دينيا .. وكان يشكل خليه نحل داخل المدرسة .. يعد الإذاعة في الصباح .. ويقوم بإحضار شيوخ ليلقوا محاضرات توعوية .. يجهز رحلات بحرية وبرية للطلاب .. يمارس كل شئ دون ان يترك لغيرة فرصة .. بالطبع كل ما يقوم به ياتي على شكل ديني ولا يسمح بتمرير أي شئ من الممكن ان يخالف مذهبه .
ابلغني شريكي في السكن والمدرسة بان زميلنا ( المطوع ) عزمنا على الغداء .. حاولت الاعتذار وصارحته باني لا أحب طريقته ولا يعجبني ولا ارتاح إليه .. ولو ذهبت معه سأكون مقيدا .. لا استطيع ان أدخن أو أتحدث بحرية .. استحلفني بالله ان اذهب معه .. ووجدت ان الذهاب معه أسهل من إقناعه بقبول اعتذاري .
ذهبنا لغداء زميلنا النشط في المدرسة .. وعند دخولنا للمجلس وجدت رجل ضخم يلبس مشلح وينتصف ( صدر المجلس ) وكل الطاقم المحيط به من نفس الشاكلة لكن دون مشالح .
احضر زميلنا المطوع القهوة .. وتركنا جميعا واتجه للشيخ في صدر المجلس وصب له .. ثم عاد لتمرير القهوة علينا من اليمن كما جرت العادات والتقاليد ..اعتذرت انا عن قبولها .
وهمست في أذن شريكي في السكن .. السنا ضيوفه في الغداء .. لماذا خالف العادات والتقاليد .. رد علي بان الشيخ الذي انتصف المجلس من رجال الفقه المعدودين في السعودية .. وله محاضرات وندوات لا تجد مكانا عند إقامتها من كثرة الحضور ..لذلك يجب ان نحترمه جميعا .. لم اقتنع وسكت وأصبحت أتابع حديثهم .. وأحاول ان اقنع نفسي بان الواجب ان يشرب القهوة أولا الشيخ ثم الضيوف .. لكن نظراته لمن في المجلس وطريقة جلوسه لم تترك لي مجالا للتعاطف معه وتبرير موقف صاحب المجلس .. أحسست ان كل المتواجدين يشعرون انهم اصغر من الشيخ المنتفخ .. انتهى الغداء على خير وعدنا للمنزل .. بعد سنوات عرفت ان الشيخ المنتفخ مزواج ونسونجي درجة أولى .. وقد تعرض لموقف في احد المطارات السعودية يخجل المراهق الصغير من التعرض له .
أعود لزملائي في المدرسة واذكر اننا كنا نلتقي ومتقاربين إلى درجة كبيرة .. واندمجنا مع معلمي المدينة وكان التواصل بيننا قائما باستثناء ثلاثة من المعلمين لم يكن لهم بنا أي اختلاط (بشكل نهائي ) بل ان احدهم لا يسلم علينا اذا صادفنا في ممرات المدرسة .
بالطبع انا أول المحرومين من السلام لأني أدخن بشراهة نادرة .. واستخدم دائما اقرب ظل للمدرسة لاستمتع بالتدخين مما يمكن الجميع من رؤيتي وفي مقدمتهم الملتزمين الثلاثة .
كنت ادخن في الشارع لانني لا املك سيارة ولأتقيد في نفس الوقت بـ النظام فالتدخين ممنوع داخل المدرسة .. ومن كبائر الذنوب التربوية .. رغم انه يباع في المحلات التجارية جهارا نهارا.. ولم أصادف في حياتي مدير مدرسة يسمح به باستثناء احد المدراء لأنه رجل ذكي لا يحترم الأنظمة التعليمية الهشة في وزاراتنا الموقرة .. فقد خصص غرفة بعيدة جدا عن صفوف الطلاب للمدخنين .. ويقول انه يهدف من تخصيص الغرفة لحماية طلابه من رؤية معلميهم وهم يدخنون.. ولحماية مدرسته من خروج المعلمين وتأخرهم عن الحصص .. بالنسبة لي اقدر أهدافه .. لكن لا تهمني بقدر اهتمامي بالغرفة المكيفة المخصصة للتدخين .
نقلت من المدرسة إلى مدينتي الرئيسية .. ومرت سنوات كثيرة على نقلي .. ولقربي من الإعلام كنت أتصفح جميع ما تكتبه صحافتنا المبجلة عن الأخطاء المتعددة والمتلاحقة لواحدة من ابرز الأجهزة الدينية المختصة بالتعامل مع المجتمع مباشرة .. وقد اتهم أكثر من فرع من فروع ذلك " الجهاز " قبل ثلاث أو أربع سنوات بارتكاب حوادث قتل ضد بعض أفراد المجتمع .. وصدمت عندما قرأت اسم المشرف على إحدى تلك الإدارات الرئيسة .. فهو مشابه لاسم احد زملائي المتشددين الثلاثة في المدرسة الأولى التي نقلت منها .
كذبت نفسي الأمارة بالسوء وقلت تشابه أسماء .. اشغلني الأمر بعد حادثة القتل الثالثة .. واتصلت بأحد الزملاء في مدرستي الأولى ..وسألته عن الاسم المنشور في الإعلام وهل يخص زميلينا المتشدد السابق .. فأكد لي انه هو صاحب الاسم .. واخبرني بأن زميلنا المتلتزم بعد السنة التي تزاملنا بها .. ترك التعليم وحول لتلك الإدارة مباشرة واستلم رئاستها .
انتهى حديث زميلي ولا اعلم لماذا ربطت بين : تقصيره في إلقاء تحية الإسلام وبين الاتهامات الموجهة لبعض أفراد إدارته الموقرة بـ التسبب في القتل بهدف الإصلاح .
التعليقات (0)