مواضيع اليوم

الوراثة الفكرية

نزار يوسف

2010-04-28 18:23:59

0

الوراثة الفكرية

من كتابي ( الوصاية الفكرية )

 

هل تشكل الوراثة الفكرية نوعاً من الوصاية الفكرية أو تمثل امتداداً لتشكيل وصاية فكرية ؟؟

مما لا شك فيه أن الإنسان منذ ولادته و حتى المراحل الأولى من سني عمره ، يتعرض لوصاية عامة شاملة من أبويه أو أولياء أموره ، و ذلك من باب تعليمه المبادئ الأولية لأصول الحياة و التعامل معها و التصرف حيالها ، كالكلام و الوقوف و تناول الطعام و التعريف بالأشياء الموجودة من حوله و أسماؤها و صفاتها و وظائفها و عملها و فائدتها و ضررها ، و إبعاده عن كل ما يشكل خطراً جسدياً فقط عليه . هذا كله يندرج ضمن إطار واحد متجانس و متشابه عالمياً و هو موجود في معظم مجتمعات العالم من أدناها إلى أرقاها ، و هو أمر يلاحظ له وجود حتى في الخطاب الديني السماوي أيضاً ، أي يمكن اعتبار ذلك أمراً طبيعياً بديهياً و متعارف عليه لا بل هو حاجة أساس في التربية
مما لا شك فيه و الحالة هذه أن مفهوم الوصاية الفكرية هنا ، و المطبق على الأفراد منذ ولادتهم و حتى بلوغهم نصاباً معيناً يناهز العشرة أعوام ، هو مفهوم وصاية عامة شاملة لا تقتصر على الوصاية الفكرية بحد ذاتها فقط بل تتعداها لتشمل مراقبة دائمة لكل حركات و تصرفات الطفل و خصوصاً في المرحلة الأولى من ولادته . و تتميز تلك المرحلة و المرحلة التي تليها مباشرة بأنها مرحلة اكتساب معلومات و خبرات بدائية ، و لا تخلو هذه المرحلة أيضاً من وجود وصاية فكرية بدائية و بسيطة تتدرج ضمن إطار ما يعرف بالتلقين الأولي لما يفيد الطفل أو يضره .. ذلك بدلالات و تعابير يمكن أن نسميها بأنها أحادية المفهوم ، كمنع الطفل من الاقتراب من الأجسام الحارة و السوائل الساخنة أو الأدوات الحادة و غيرها ، و إفهامه بأنها ستؤذيه و تضره ، و أنها بالمطلق في غير صالحه . و كذلك الأمر في توجيهه نحو ما يفيده و ينفعه كشرب الحليب مثلاً أو النوم باكراً و ما إلى ذلك . هذا كله من دون أن يتم تقديم المسوغات المنطقية الكافية له لقبول تلك التوجيهات المفروضة عليه بشقيها الموجب و المانع . و لا نستطيع و الحالة هذه أن نقول إن هذه الوصاية الفكرية البدائية و البسيطة ، لها مآرب أخرى للمنفعة المادية أو التوجيه المعنوي ذي الأهداف و الغايات الخاصة . و السبب في ذلك كله هو أن المرء في مرحلة الطفولة المبكرة هذه ، يكون لا فائدة من فرض أية وصاية فكرية متقدمة عليه لأنه بالأساس لا يمتلك ناصية التفكير و المحاكاة العقلانية و الفهم المتقدم المرتبط باللغة و إدراك معاني الأسماء الحقيقية و ما يرتبط بها من مفاهيم .


لكن و بعد فترة زمنية لاحقة ، يصبح لزاماً و بشكل عفوي زيادة نسبة التعقيد في الوصاية الفكرية المفروضة عليه . و شيئاً فشيئاً ، تتطور الوصاية الفكرية المفروضة على هذا الشخص لتدخل في مجال التوجيه الفكري العقائدي و العاطفي ، و ذلك على الأرجح يبدأ من سن العاشرة فما فوق . و بإيرادنا للمثال التالي ، يمكن أن نكون قد أوضحنا شيئاً مما نود توضيحه للقارئ ، و هو عبارة عن محادثة بين أب أو أم لطفلهما تتدرج خلال سني العمر من الثالثة أو الرابعة و حتى أواخر المراهقة .


في سن الرابعة مثلاً ، يطلب الوالد من ولده إحضار كتاب عن الطاولة ، فيذهب الولد و يحضر له كأس ماء فارغ ، يجيبه الأب قائلاً : كلا يا ولدي هذا ليس كتاباً هذا كأس ماء ، هذا هو الكتاب و هذا هو شكله و نحن نستخدمه للقراءة ، أما الكأس فهذه هي و نحن نستخدمها لشرب الماء . بعد سنة أو سنتين يشاهد الولد حيوانات معينة في حياته اليومية و يشاهد بني البشر و يحس بالغريزة بفارق ما بينهما من خلال المعاملة و التصرف و السلوك ، فيسأل والده الذي يجيبه قائلاً : يا ولدي الحيوانات تختلف عن الإنسان ، فهي لا تتكلم و لا تفكر مثلنا و لا تستطيع القيام بالأعمال التي نقوم بها نحن ...  نحن يا ولدي ننتمي إلى فصيلة البشر و نحن نشكل عائلة واحدة متجانسة في هذه الدنيا ، نحن نقف و نتكلم و لنا صفات كذا و كذا و نحن عائلة الإنسان .

بعد سنتين أو أكثر ، يتطرق الولد بمناسبة معينة أو حادثة ما إلى بني البشر ، فيجيبه الأب أو الأم : نحن يا ولدي صحيح أننا ننتمي إلى بني البشر و لكننا لسنا تماماً كما تتصور ، حيث يوجد هنالك المسيحيون و المسلمون و اليهود و الهندوس و البوذيون و ... و ... و نحن يا ولدي من الطائفة الفلانية و بالتالي نحن نختلف عنهم بكذا و كذا و نعتقد بكذا و كذا . و بعد سنتين مثلاً ، يعاد طرح الموضوع : نحن يا ولدي صحيح أننا من الطائفة الفلانية و لكننا ننتمي أيضاً إلى القومية الفلانية ، فنحن عرب أو أوروبيون أو أمريكيون أو صينيون أو يهود .. أو .. و بالتالي فنحن نختلف عن هؤلاء باللغة و التاريخ و بكذا و كذا .

بعد سنتين مثلاً و بمناسبة معينة يطرح الموضوع بشكل مختلف تماماً : صحيح يا ولدي أننا من الطائفة الفلانية ( مسيحيين – يهود – مسلمين .. الخ ) و لكننا في طائفتنا لسنا متجانسين بل مقسمين إلى مذاهب متعددة هي كذا و كذا و نحن من المذهب الفلاني و نختلف عن بقية المذاهب بكذا و كذا . 

مع تقدم الولد في العمر ، يتعرض إلى المزيد من التحديد الديني و السياسي و الاجتماعي : صحيح يا ولدي إننا من المذهب الفلاني و لكننا من الفرقة الفلانية في هذا المذهب الذي يحتوي على فرق أخرى هي كذا و كذا و تختلف عنا بكذا و كذا . و صحيح يا ولدي أننا من هذه الفرقة و هذه الفرقة من هذا المذهب الذي هو من هذه الطائفة . و لكن يا ولدي يوجد في هذا العالم نظريات و أفكار سياسية هي ( الماركسية – الشيوعية – الاشتراكية – الرأسمالية – البرجوازية – الوجودية .. الـ ... الـ ... ) و نحن يا ولدي نعتقد أن النظرية الفلانية هي الأصح و هي الأساس و هي التي تعمل لخير المجتمع و الإنسان و غيرها يفعل كذا و كذا . و تستمر عملية حصر الولد في أتون قطاعات و أحزاب و زواريب ضيقة حتى يصل في فترة مراهقته و ما بعدها إلى وضع يشبه وضع الحصان الذي يكون في غرفة السباق الضيقة التي تلتصق به تماماً و لا يستطيع الحراك إلا إلى الأمام و فقط عندما يفتح الباب الذي أمامه حسبما يريده الراكب أو منظم السباق . أو البغل الذي يدور حول حجر المطحنة محركاً إياه لطحن الحبوب و الذي يوضع على حافتي عينيه الجانبيتين ، قطعتين من الجلد بحيث لا يستطيع أن يرى إلا أمامه فقط و لا يتحرك إلا حول حجر الطحن التي لا يراها و لا يعرف أنه يدور حولها ، و كل اعتقاده أنه يسير في طريق مستقيم .


هذه الأفكار التي يتم سوقها للطفل خلال كل تلك المراحل المتلاحقة ، تكون بشكل أكبر مترافقة مع سرد قصص و روايات تاريخية مصحوبة بفضائل الطائفة و من ثم المذهب ثم الفرقة ثم الجزء من الفرقة ثم القسم من الجزء من الفرقة . و سرد سلبيات الطوائف الأخرى و المذاهب الأخرى من طائفته و الفرق الأخرى من مذهبه و بقية الأجزاء و الجزيئات الدقيقة و ما يرافق ذلك من حروب و أعمال بطولية أو مشينة بحيث تنغرس كلها في عقل الشخص و مخيلته في فترة خطيرة جداً من حياته . و منبع الخطورة أنه في تلك الفترة التي تسبق و ترافق و تلي المراهقة بجزء يسير ، يكون المرء مستعداً لتقبل كل ما يقال له ، لكون النضج و الوعي العقلاني لم يكتملا بعد لديه ، و يكون متأثراً بالبعد العاطفي الاجتماعي المحيط به و الذي يتلقى منه المعلومات ( أب – أم – جد – جدة – خال – عم ... الخ ) و هنا يكون لامناص من القول بإن هذا الشخص قد تحصّل على ميراث فكري تغلغل إلى ذهنه و تشربه بالكامل و أضحى يشكل وصاية فكرية قوية لديه ، تؤثر به و تسييره وفق بنودها و محتوياتها .
هذه الوصاية التي ورثها الشخص و التي لازمته و اكتملت معه حتى العشرينات من عمره إن صح القول ، هي معرضة إما للبقاء معه و ملازمته و التطور طرداً مع التقدم بالعمر و بأشكال و حيثيات تتناسب و السن الذي يبلغه ، أو أنها معرضة للزوال و الاندثار إما شيئاً فشيئاً أو بشكل فوري نتيجة صدمة معينة . و بأرجح الأحوال ، يتم استبدالها بوصاية أخرى ذات تأثير قوي أو ضعيف أو يتم استبعاد أية وصاية فكرية ، إلا حسب ما يقتضيه العقل و المنطق عند ذلك الشخص . ذلك كله مرهون بأمور عدة تحدد سير الميراث الفكري الذي وقع على عاتقه و من ثم مآله و نتيجته و من ذلك :


1) – الوعي الثقافي و التنوع الفكري البيئي الاجتماعي المحيط بذلك الشخص ، سواء في الأسرة أم جو القرابة خاصته أم الدائرة الجغرافية المحيطة به كالقرية أو البلدة أو المدينة أو حتى الدولة . و مقدار الحرية الفكرية المرتبطة بكل ذلك من حيث الكم و النوع . فكلما كان الوعي الثقافي المذكور آنفاً و مقدار الحرية الفكرية متزايدين باطراد ، كانت نسب استمرار الوصاية الفكرية التي تجرّعها و تشرّبها ذلك الشخص ، ضئيلة ، هذا إذا كانت موجودة لديه بهذه القوة في ظل تلك الأجواء و الوسط المحيط به .
أما إذا كان هذا الشخص يعيش في بيئة ثقافتها الفكرية محدودة و أحادية و تنوعها الثقافي معدوم و محكومة بنوع من أنواع الغيتو الفكرية ، تكون و الحالة هذه النسبة المئوية لانعتاقه من نير الوصاية الفكرية المفروضة عليه ، منخفضة و في حدودها الدنيا .

2) – الوعي الذاتي و التنور العقلي و الفكري اللذين يتمتع بهما ذلك الشخص بغض النظر عن الجو و الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه ، و القدرة على المحاكاة العقلانية المنطقية و المقارنة الفكرية التي يتلقاها عبر وسائل الإعلام المتعددة و الأشخاص الذين يلتقي معهم من خارج نطاق بيئته الاجتماعية أو الدينية أو المذهبية أو السياسية و ما إلى ذلك .
و بديهي أن توافر هذه العوامل لديه ، يقلل من تأثير الوصاية الفكرية التي عاصرته و نمت معه منذ سني طفولته و العكس هنا هو الصحيح .


3) – مقدار التثقيف الذاتي الذي يتحصّل عليه الشخص ، و الثقافة الفكرية المكتسبة بشرط التنوع و العموم . و ميزة الحوار المفتوح و الانفتاح على الآخر . و مقدار الوصاية الفكرية هنا يتناسب طرداً مع الكم في هذه العوامل و العكس هو الصحيح .


4) – مقدار الهزات و الصدمات الفكرية و السياسية و الاجتماعية و الدينية التي يتعرض لها الشخص ، تؤدي بشكل من الأشكال إلى التفكير في نفسه و وضعه و أفكاره التي يبني عليها شخصيته و قراراته و آراؤه و إعادة النظر فيها أو تعديلها في أحسن الأحوال .


إن الموروث الفكري الذي ينشأ مع أي شخص بشكل عام ، لا بد و أن يأخذ حيزاً قوياً في عقله و ذهنيته و يكون في موقع القوة من ذلك ، لأن الأمر كما ذكرنا سابقاً ، يتعلق في الجانب العاطفي الاجتماعي لدى هذا الشخص . و فضلاً على ذلك ، فإن عامل المدة الزمنية يؤدي دوراً لا يستهان به في هذا الخصوص . إذ أن طول الفترة الزمنية المتاحة في تثبيت آراء و أفكار و وجهات نظر معينة على مدى عشرين عاماً دون طرح أفكار مغايرة أو الاطلاع على آراء و وجهات نظر مجانبة لها ، كفيل بأن يجعل من الصعوبة بمكان تغيير أو إزاحة هذه الأفكار . و على كل حال فإنه من الممكن لنا اختصار أمر الوراثة الفكرية أو التوريث الفكري و مدى تأثيرهما اللاحق بعد فترة المراهقة(1) لنقول إنه مرهون بأمرين أو معيارين اثنين هما المعيار العقلي و المعيار العاطفي . و لا نجانب الحقيقة و المنطق إذا قلنا إن هذين المعيارين بشكل عام هما اللذان يحددان وضع الميراث الفكري الذي يتحصل عليه المرء ، من حيث بقاؤه أو تغييره ، بل يتعدى ذلك إلى مفهوم الوصاية الفكرية ذاته ، إذا أنه هو أيضاً مرهون بهذين المعيارين .


و يهمنا القول في هذا السياق ، إن الميراث الفكري الذي يتلقاه الشخص منذ الطفولة ، ليس بالضرورة أن يكون مجانباً للعقل و المنطق ، و ليس بالضرورة أن يتم تغييره أو إجراء تعديلات جوهرية عليه في حال تم وضعه على محك العقل و المنطق و المصداقية الفكرية و الواقعية العقلانية ، و ذلك إذا توافرت له كل شروط الموضوعية و سبل إنجاحه و فائدته .


إن كل تدرجات الأنماط الفكرية ، من السيئ و الضار إلى الخيّر و المفيد ، و من الخاطئ و الفاسد إلى الصحيح و المقبول ، لا بد لها كلها من أن تُطرح كوصاية فكرية و كنتاج ميراث فكري على الإنسان في مراحل طفولته و حتى أواخر سني مراهقته . و المشكلة الأساس في هذه الأنماط الفكرية ، هي أنها لسوء الحظ ، لا تخضع لقانون الانتخاب الطبيعي لناحية البقاء للأصلح ، أو كما يقول المثل الشعبي العالمي المتعارف عليه " لا يصح إلا الصحيح " . فهذا ما تتسبب به الوصاية الفكرية . و ما يدعم هذه المقولة هو قضية المخلفات الإيديولوجية و الفكرية و التي تلعب دوراً كبيراً في عملية الميراث الفكري الذي يتعرض له الإنسان و مدى قوتها و تغلغلها في المجتمع و البيئة الاجتماعية و السياسية المحيطة بالشخص نفسه .

نزار يوسف

من كتابي ( الوصاية الفكرية ) .




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !