وجه اخر من اوجه انتفاضات العالم العربي أنها انتفاضات لغويّة بشكل أو بآخر، بدءاً من عالم افتراضيّ محوره الكلمة ولاتنتهي عند عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" التي طالما زمجرت بها الحناجر ,بل تستمرالى قلب الشارع النابض بالحدث.
هكذا؛ تبدو الشعوب العربيّة وكأنها قد اكتشفت لغة جديدة، أو طوّرت أنموذجاً لغويّاً يؤسّس لجدليّة في التفكير وقطيعة معرفية عبر هدم بنية قديمة باتت الحاجة ملحّة لهدمها.
الكلمة بمدلولها من حيث هي عزيمة خلق وإبداع، وهي إذ تتجلّى عن إرادة شعبيّة كمجموعة إرادات كانت مكبَّلة وعتقت نفسها بنفسها تنتقل بالشعب من غثاء وشتات ضائع إلى مركز ضدّ مركز، وبنية ضدّ بنية إنه مركز يبدّد المركز وبنية تخلخل البنية من الداخل.
وبمعنى آخر عبر تقويض نظام معرفيّ متأصّل لتأسيس و انشاء القطيعة المعرفية للنظام الجديد.
ان إرادة الإسقاط..إسقاط النظام، السّرّ الذي طالما انطوى عليه البناء زمناً طويلاً صار علناً في مجال عالم الوعي، وربما يكون اللحظة الأولى في زمن التنوير العربي الجديد المُقبِل.
أن عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" تبدأ من عالم اللاوعي، لتضج بعدها بالمعنى الواقعي الحيّ، فهي إذ تنطلق من مفردة "الشعب" كدالّ لا ينفصل عن مَدْلولاته المفعمة بالنّبض والكثرة، تؤكّد صيرورة الوجود كارادة ووعي للواقع بآن معاً ..
وحين يزمجر الشعب مُريداً إسقاط النظام لا يفضح الواقع المغلوط فحسب، بل ينزع عنه سمة "الطبيعية" المزيفة أيضاً، السّمة التي طالما تعودنا على معايشتها من خلال النظام والموجودة في اللاوعي الفكري الذي الفناه.
اما كون الشعب ينطلق من الإرادة العقلية الواعية فهو يؤكّد إنسانيّته الحرّة المنعتقة مما هو مألوف مفروض من قوّة غير قوّة الإرادة، كما إن فضح الشعب للخطأ الذي أُسبِغ عليه الوصف كعادة مألوفة في الواقع، هو وسيلة من وسائل التّنوير الاجتماعيّ والسياسيّ, واداة للبدء بالتغيير المطلوب لبناء الحضارة الانسانية المطلوبة.
إنّ العقل المُثقل بنصّ سلطويّ في اللاوعي بدأ التعبير بلغة خارجة على النَّص، تكسر قيد المألوف عليه ليعبر عنه غي عالم الواقع "بخطاب" رادماً الانفصال بين الدّال والمَدْلول. كما ان هذا التعبير المتحرّر للتّو لغة ليست مبنيّة من حَرْفيّة دينيّة ولا سياسيّة ولا اجتماعيّة ولا ثقافيّة معتادة ومكرورة، بل هي لغة حرّة من كلّ جذر وقاعدة، من كلّ اتساق ونسَق.
كما ان هذا التعبير يبدأ بالشعب ولا ينتهي؛ لأن اللغة الحيّة اللامنتهية، لغة شعوب، فيما لغة الأنظمة منتهية ميّتة.
. لغة الشعب لغة الإبداع وقد تجلّى هذا لافتاً الانتباه إلى جزء مُهمَل من الدّماغ، هو النّصف الأيمن الذي طالما هُمِّش دوماً لصالح النصف الأيسر، نصف المنطق المُعتاد والمألوف.
. من هنا يمكن لنا وصف اللّغة الجديدة المتجلّية في عبارة "الشعب يريد إسقاط النظام" بأنها عفويّة ابداعية لامُتَوَقَّعة، فهي لا تكشف بعدا لم يكن في البال فحسب؛ بل هي أيضاً تحرّض على التفكير فيما ليس مَفَكَّرَاً فيه عبر خاصيّة "الانبثاق" وعدم المحدودية وهي خاصيّة لا تخضع لقواعد المنطق التقليديّ المضيء أو المُعْلَن كونها ضوءاً غير مُكْتَشَف يقطن العتمة.
ربما لم يعد الإنسان في العالم العربي مع عبارة الشعب يريد.. كائناً مُثقفاً، مبنيّاً كما يروق للثقافة السّلطويّة أن تبنيه، فعبارة "الشعب يريد" إذ تُقرَن بـ"إسقاط النظام" تفتّت ثقافة الللاوعي كبناء وتلغي عبوديّة الإنسان المُثقَّف "المبني" والمُجَمَّد في صورة نمطيّة شيئيّة ساكنة، فتحرّره من عبوديّة المألوف لكي ينطلق في فضاء واسع في عالم الوعي والذي لايعرف النهايات.
ان الجماهير العربية بانتفاضها وثوراتها على لاشعورها لم تعد مُنوَّمة، اذ أن الجمهور قد دخل تجربة الوعي وأعلن أن الشعب يريد، وما عبارة "الشعب يريد.." إلا ضمير "الأنا" المفكرة الموجدة والدالة على الوجود تصريحاً وتلميحاً.
إن إضاءة عالم اللاوعي حيث العتمة والمكبوت ليبدأ التغيير من العقل عبر الإرادة الشعبيّة تبين أهمية انتفاضات الجماهير في العالم العربي لانها تتعامل وتنفتح على عالم اللاوعي لتنشئه من جديد، وقد يبدو اندلاع هذه الانتفاضات مستحيلاً لو لم ينفتح باب اللاشعور على مصراعيه. بالاضافة الى ان اتجاه الإرادة الشعبيّة باتجاه إسقاط النظام؛ معناه مغادرة اللاشعور للعتمة باجتماع إرادات عزمت على أن تكون حرّة وانتهى الأمر..
كما اننا لا نشكّ في أن بداية التغيير الذي يحدث على أرض العقل - إن جاز التعبير- أهم , خصوصاً وأن الفرد في الجمع يجد نفسه في شروط تتيح له أن يفكّ أسْر ميوله اللاشعوريّة المقموعة..
وبتعبير ابن خلدون فان القطيعة المعرفية و وجود الناقض الذي ينقض الواقع لينشئ واقعا جديدا, فإن تحت الهدم الذي انتهجته الإرادة الشعبيّة، بنية، أو يمكن القول "بنية هَدْمٍ مخفيّة" تؤهّل وتؤسّس لهَدْمٍ يُسقِط "بنية خارجيّة قديمة"، ليعود الهَدْمُ إلى تحته ويحاول إبراز بنية جديدة عبر تقويض البنية الخارجيّة القديمة.
التعليقات (0)