ألوان اللوحة.. نوافذ الغيم
البشير عبيد
حين قرر صديقي الرسام و الناقد التشكيلي مازن رشيد إقامة معرضا في السويد، في إحدى صباحات صيف غائم، لم أكن أتصور أنه سيبقى هناك مدة طويلة بعيدا عن الأهل و الأصدقاء. يسألونه عن الرسم و الفن فيجيب: اللوحة التشكيلية هي ثمرة أسئلة الرسام و نظرته للعالم و الطبيعة و الدنيا. يخرجها من حياض العقل و دهاليز الروح و اضطرابات النفس و خلجات القلب ليلقيها على عتبات الآخرين، آملا في قراءات و تأويلات لا يهم أن تكون قريبة أو بعيدة عن قراءته و تصوراته للفن التشكيلي و دوره في نحت الانسان المعاصر و دفعه الى الأمام، تشكيلا و صياغة و تأثيثا للغد القادم. المهم أن تكون المقاربات للوحة و الأثر الفني عامة قريبة من همسات الروح، و متداخلة و في علاقة جدلية مع الألوان و الأفكار و الهواجس المتأججة في الصدر.. اللوحة كالقصيدة، اذا غاب عنها التناسق و التكامل بين معمارها الهندسي و ما تحمله الحروف من صرخات و أوجاع و تطلعات و أحلام كسرتها غيوم السنين... في صورة غياب هذا التناسق بين المبنى و المعنى، تصبح اللوحة كغابة بلا عصافير و لا أشجار و لا أعشاب وكأننا في صحراء السراب. لا شك أن لوحة كهذه، تأخذنا حتما الى مدائن و قرى و بوادي و براري، يغيب عنها الانسان و لا تحضر فيها إلا كائنات الغياب. تبعا لهذه الفرضية، تكون قاب قوسين من خرائط الهلاك و الدمار و لا يحلق في السماء سوى غربان الخراب، و تأخذها كرها أو طواعية - سفن الموت الى مرافئ القلق - حتى اذا كانت اللوحة مظلمة تماما و قريبة جدا من حيطان العتمة، تباغتها أحيانا سهام من نور و خطوط رقيقة من ضوء متناثر، فهذا يعني أن في جسدها عشق خرافي للحياة و في هيكل جمالها السوريالي مساحة كافية للإفلات من أسوار الاستلاب، ولم الاقتراب شيئا فشيئا من منعطفات الرحيل الى جزر النسيان.
اللوحة انعطاف كلي نحو جدار الدهشة
من ألوانها تنبثق أسئلة القرى المنسية
لا أحد تتبعه ألوان اللوحة سوى رسام الرؤى
يجيب في هدوء تام على تساؤلات شتى لناقد تشكيلي لا يخاف من رهبة الظلال و الفرشاة ورهبة اللوحة المعلقة على الجدار، الحاملة بين أضلاعها هواجس لا تحصى و لا تعد.. يشرب قهوته و يدخن سيجارته غير عابئ بكلام مشاكس صادر عن رجل حاقد لا يقبل أن يرى نجاحات الآخرين، بل يكون في غاية الانشراح حينما يرى خصومه الوهميين يتساقطون الواحد تلو الآخر في كوابيس الإحباط.
·
يكون النظر من شرفة النافذة الى الفضاء الفسيح و التأمل في المطلق و الأبدي أقرب الى النفس و العقل و الذاكرة.
- ما العلاقة بين شرفة النافذة والأفق البعيد؟
- ما المسافة الفاصلة بين ألوان اللوحة و نورها و عتمتها و ظلال شخوصها و انحناءات زواياها و الجمهور القابع خارج المرض؟ لا تربكه خيانة الأصدقاء المتنافرين في كل مكان. لا يخاف من البكاء و الاعتراف بالخيبات التي يبدو أنها ملازمة له.. يأخذ حقيبته و الفرشاة و الأوراق و الألوان و الأحلام التي صارت كالكوابيس، و ينسى أنه كان قرب أشجار السنديان، يترقب إطلالها وجهها. هل هي الآن تتصفح جرائد الصباح و لا تخيفها أخبار الكوارث الطبيعية و الحروب. تتفنن في ارتداء أحلى الفساتين و تستمع لصوت فيروز السابح في ماء الدهشة لا أحد بإمكانه مشاكستها و إرباكها لحظة افتتانها بالقراءة و الكتابة.
هل ستأخذها خطاها الى بوابات الانتشال وتنسى غيمات السنين العجاف .السنونو لايريد أن يغادر الشرفات، وتبقى المدينة حبلى بالضجيج و الهذيان و مرارة الحلم القريب من حائط الانكسار. الذين يجلسون في المقاهي و يتندرون بهذا و ذاك.. لا تعيرهم أي اهتمام. تتذكر قولة جون بول سارتر: "الجحيم هم الآخرون". صديقي الرسام و الناقد التشكيلي مازن رشيد، رآها آتية من بعيد على عجل، كأن مرضا خبيثا باغتها. على الفور سألته لم الرحيل الى بلاد الثلج و الضباب و الشقراوات الفاتنات. لم يجبها، بل نظر مليا في وجهها الباحث عن نضارة سابقة و جنون لا يستطيع أن يبتعد عن نوافذ الغيم.
لا موت يضاهي موت الروح
و لا جسد بإمكانه الهروب من أسوار الخيبة
كلهم يأتون من ضفة الحلم و يرحلون الى رمال النسيان
سيبقى يرسم لوحة بعد أخرى حتى الرمق الأخير. لا يخيفه الموت ولا تربكه أوجاع القلب. كل يوم يرى على شاشة التلفزيون، قتلى و جرحى يتساقطون هنا و هناك.. في الشرق و الغرب، في شمال الكوكب الأرضي و جنوبه. سيبقى حالما بالبحر و النوارس و القصائد و الروايات العابقة بالأسئلة و جمر الكلام. ليس بإمكانه الهروب الى تخوم التيه و الجلوس تحت حائط الانتظار. الأقلام و الأوراق و الفرشاة و الألوان هي المرافئ التي تحمل الأجساد المتعبة الى بر الأمان، و تعطيها دفعا قويا للإفلات من قبضة الزمن المحاصر للأحلام المكبوتة في الصدر، و تسكب دما جديدا يافعا في شرايين الحياة. القوافل الآتية من كل حدب و صوب و الذاهبة الى جزر بلا ضفاف عساها تجد عشاقا قدامى، تاهوا في صحراء الكلمة و أتعبتهم القلوب المنكسرة و المدن الباحثة عن سماء دافئة. هذه القوافل، ترتاح من عناء السفر حينما ترى هذا الرسام الإشكالي المربك لكل المفردات و النواميس و المعتقدات. لا يحب سوى التجريب و التجديد و التجديف في مياه المجهول. هل باستطاعتي أن أنسى كلامه الذي كان دائما يردده في كل مكان: الهدم ثم إعادة البناء، لا بد من تكسير البديهيات و الحفر في خبايا الذاكرة، لا شك أنه سيبقى يرسم لوحة بعد أخرى، غير عابئ بكل التحولات و التقلبات الطارئة هنا و هناك.. لا دليل لديه سوى الألوان و الفرشاة و لا بوصلة توصله الى خيمة السكينة و اللحظة الهاربة من قبضة الزمن الغائم، عدا خيوط النور الطالعة من زوايا اللوحة، الحاملة لتطلعات و هموم و هواجس مازن رشيد، هذا الرجل الواضح الغامض الذاهب كل صباح الى رمال النسيان حاملا على كتفيه نوافذ الغيم.
ملاحظة: مازن رشيد هو الاسم الرمزي الافتراضي للناقد التشكيلي و الرسام خليل قويعة، اختاره كاتب هذا المقال.
كاتب صحفي و شاعر Fr.Yahoo @abidbechir:Email
التعليقات (0)