لا نريد أن نبدو هنا كمن يقف على عتبة باب الهيئة الكُردية العليا، فينتظر ما تجود به قريحة أعضائها من دُرر ليُرصع بها تيجانهم، أو ليتصيد ما يصدر عنهم من زلات فيثير بها زوابع من الغبار على أحذيتهم الكريمة، لكن المرء يجدُ نفسه مُرغماً أحياناً، و كمتابع، متعثراً بالخطايا المزمنة و ليس بمجرد الهفوات التي يسبحُ فيها بعضهم، و لا أقول أنه يضع بها مصداقيته على المحك، لأننا لم نجد حقيقةً، و حتى الآن، في أداء الكثيرين شيئاً مفيداً، أو يحتمل شُبهةً، يمكن وضعه في ميزان حسناته.
فقد إتخذت الهيئة العليا في الثالث من أكتوبر الجاري قراراً صريحاً بتشكيل (وفد شعبي لمراجعة مديرية التربية في الحسكة و المحافظ للمطالبة بحصة دراسية باللغة الكُردية في المناطق الكُردية و بتشجيع تعلم اللغة الكُردية في المدارس الحكومية و توفير الإمكانات اللازمة لها..).
أما اليوم، فقد أصدرت الهيئة توضيحاً لما سبق و إن إتخذته من قرار، قائلةً إن الأمر يتعلق بـ (إمكانية تشجيع تشكيل وفد شعبي من أولياء الطلاب للقاء مدير التربية و محافظ الحسكة بخصوص الإجراء التعسفي...) مُضيفةً: (وللتوضيع نقول بأن الهيئة الكردية العليا لا تتبنى أي وفد شعبي بهذا الخصوص ونحن كهيئة كردية عليا لن نطالب هذه السلطات المطعونة في شرعيتها القانونية بمثل هذه المطالبات..).
تتخيل الهيئة الكريمة، أنها و بعد أن جوبه قرارها بتشكيل وفد شعبي لمقابلة ممثل بشار الأسد قاتل السوريين بالإستنكار، تتخيل بأنها و بتلاعبها المُعيب بالألفاظ تكون قد نجحت أيما نجاح في التلاعب بالعقول أيضاً، و بالتالي في طمر قرارها الطازج في غياهب النسيان، و أخلت مسؤوليتها الأخلاقية عنه، و أحرجت منتقديه و أظهرتهم بمظهر المُتجني عليها، و الحقيقة هي أن قرارها الواضح يفتقر إلى أدنى درجات الإلتباس، و كذلك أدنى درجات الشعور بالمسؤولية و الحس الإنساني، ففي الوقت الذي يُقتل فيه السوريون على مدار الساعة، و تدمر بيوتهم فوق رؤوسهم، و في الوقت الذي تحولت فيه مدارس سوريا إما إلى معتقلات أو ملاجئ أو سويت بالأرض، يحاول هؤلاء إظهار أنفسهم بمظهر الحريص على اللغة عبر شراء صكوك الوطنية لأنفسهم من محافظ الحسكة، خليفة سليم كبول، و عبر بوابة من يشن منذُ عقود حرباً شعواء على اللغة الكُردية و الناطقين بها، و الذين صمدوا مع لغتهم و حافظوا عليها في الصدور، متوهمين أن الحفاظ على اللغة متوقفٌ على بضعة أيام أو أسابيع هي باقي عمر النظام.
أما توضيح الهيئة، و الذي زاد الطين بلةٍ، فهو يفتقد بدوره إلى أدنى درجات الشفافية، و كذلك إلى أدنى درجات الشجاعة في الإعتراف بالخطأ التي يتميز بها الفرسان، لكن المُراقب يتساءل مع التوضيح عن ذلك (الإبداع اللغوي) الذي أدخلت معه الهيئة قارئها في حيرة عظيمة و تلبك معوي، فمن جهة تتحدث عن (إمكانية تشجيع تشكيل وفد شعبي من أولياء الطلاب..) و بالوقت ذاته تقول: (وللتوضيع نقول بأن الهيئة الكردية العليا لا تتبنى أي وفد شعبي بهذا الخصوص).
إذاً، البيان الأول لم يكن يتعلق بتشكيل وفد شعبي و لا بتشجيعه، و لكن بإمكانية تشجيع تشكيله حسب توضيح اليوم!؟ أحسنتم، أسجل لكم فتحاً لغوياً، سياسياً و دبلوماسياً خفف من آلام الشعب كثيراً إن لم يكن قد شفاهُ تماماً و أعاد لكم رونقكم ثانيةً، الهيئة (ستشجع إمكانية تشكيل) وفد شعبي، و لكن (لا تتبنى هذا الوفد)، حزورة رائعة تستحق المليون، و حلها هو أن الوفد الذي سيتشكل عفوياً، من تلقاء ذاته، سيلقى الهتاف بحياة أعضائه و بالتصفيق، و لكنها ـ أي الهيئة ـ بريئة براءة الذئب من دم يعقوب من هذا الوفد إذا كانت نتيجة مقابلة المحافظ سلبية، لأن لها مبادئها التي تقول بأنها (لن تطالب السلطات المطعونة في شرعيتها القانونية بمثل هذه المطالبات في الوقت الذي تتبنى في إسقاط النظام)، إذاً لا بأس أن يطالب أولياء الأمور ـ على فرض صحة توضيح الهيئة و تصديقنا له ـ السلطات المطعونة في شرعيتها القانونية، لأن الغاية تبرر الوسيلة، و لأن هؤلاء الأولياء ـ و بالمفهوم المعاكس لتبريرات الهيئة ـ أقل وطنية من أعضائها، و هم من يتوجب عليه تحمل التبعات الأخلاقية و الأدبية و ربما المادية للقرار الذي إتخذوه بناءً على توريط الهيئة لهم عبر تشجيعها، أما إذا كانت النتيجة إيجابية، و هو من رابع المستحيلات فقد إحتفظت الهيئة بشعرة معاوية مع الوفد عبر قيامها بـ(إمكانية تشجيع تشكيله)، و يمكن تسجيل هذا الإختراق التاريخي حينها في سجلها الذهبي.
لعل أحسن ما أختم به هنا هو ما خطه يوماً صديقي د. كسرى حرسان عبر تنويهٍ خاطب به المجلس الوطني الكُردي، قائلاً: (أشعر باعتذارٍ شديد مستديم لا يطاق عن كل مقالٍ كتبته عنكم، لأني لا أشك قيد أنملة أني قد عاتبتُ بكم من لا يؤاخَذ؛ فدوركم أدنى من أن يقوَّم به اعوجاج، واعذروني إذ لم أضع في حسباني أنني أكتب سُدىً، فناديتُ مَن عدِمَ حياة).
لن أزيد على ذلك شيئاً سوى بالقول: من عاشر الملثمين أربعين يوماً صار منهم.
التعليقات (0)