لأول وهلة قد يتسلل لدى البعض شعور بأن التدافع من أجل المذهبية هو أهم بكثير منه باتجاه المواطنة، وهذا اعتقاد من وجهة نظري المتواضعة بحاجة لإعادة نظر، وليس ثمة ما يدعو للشك بأن المواطنة لا تساوي الدين أو المذهب والعكس صحيح أيضا، وبكلام أدق إن الاعتقادات الخلاصية منها أو الأخلاقية أو حتى التنويرية هي لا تغادر في جوهرها القيمة الروحانية. وبالقدر الذي يتمظهر بعضها في سلوكيات ذات طابع جماعي، فهي في الوقت نفسه يكون بعضها الآخر مخبوءًا بين العبد وصلته بخالقه، وبالتالي ليست ثمة مسؤولية لأي جهة كانت أن تتدخل بشكل مباشر في مثل هذه العلاقة المخبوءة؛ لأنها ماثلة في المنطقة المحرمة بمصداق أن القلب هو حرم الله. وهذا ليس له محل من كلامي الآن.
إذن، نحن أمام لحظة استقبال واستجابة جماعية للظفر بمنطق اجتماعي محدد إزاء الظاهرة الدينية، والتي بالإمكان ترجمتها على صيغ متنوعة ومتعددة؛ أديانًا ومذاهب وربما أشكال أخرى مرهون تمظهرها بتطور التجربة البشرية سواء كان ذلك بالسلب أو بالإيجاب. باروخ سبنوزا الفيلسوف المنقلب على اليهودية كمعتقد، والمنتصر للفلسفة وضح الكيفية في تحول اليهودية إلى دين وضعي حتى تسربت إليها الطهرانية باعتبارها المقدس، وبقدرة قادر يسود الاعتقاد بأن اليهود هم شعب الله المختار مثلا، ولا يختلف الحال لدى الفيلسوف الألماني هيجل عندما ذهب إلى الاعتقاد بأن المسيحية أيضا قد تحولت إلى دين وضعي، وقد باتت تتحكم فيه مؤسسات كهنوتية، كذلك واقع الحال في الفضاء الإسلامي، وما موجات العنف والتطرف التي تشهدها بعض الساحات العربية لخير شاهد على مدى فداحة الأزمة، إذ لا يستطيع أحد التنكر بأن الفكر الإسلامي بات نقيًّا من مدعيات الحقانية المطلقة!.
فثمة فرق بين ما نعتقده ونطمئن إليه ونتيقن، وما بين ما هو مفترض أن يكون على الواقع، على اعتبار أن هذا الواقع الجديد بات يفرض تنوعات دينية أو أشكالا مذهبية وفكرية في البيئة الواحدة، وأن الصورة التاريخية الماثلة عن الدولة القديمة واقتضاء الاستفادة منها لا يعني بالضرورة تطابقها مع الصورة الحديثة، الأمر الذي يستدعي إعادة انتاج التفكير الديني على وجه الخصوص، أي: إعادة النظر في الفهم البشري للدين. لا الدين نفسه. أي إدراك الفاصلة ما بين الثابت والمتحول، وهذا مدعاة للبحث والاستكشاف والاستعانة بآليات وطرائق وأساليب لأجل الوصول إلى رؤى وأفكار جادة وجديدة، لاسيما والواقع المعاصر يغرقنا بتساؤلاته المتجددة والمكثفة.
معظمنا يعي المضمون للمفاهيم الحديثة، مثل "الدولة المدنية والمواطنة" ومدى العلاقة ما بينهما، فلا دولة مدنية دون المواطنة، والعكس صحيح أيضا، فكلتاهما يُعزز من حضور الآخر، و"المواطنة" تكون منقوصةً إذا ما جاءت من رحم آخر لا يحمل سمات الدولة المدنية بكل صفاتها القانونية، فهي بمثابة الناظم الواقعي لمجموعة من العلاقات التي تتم بين أفراد المجتمع عبر منظومة قوانين مدنية، محددة للواجبات والحقوق معًا، بحيث يكون ذلك على قدر عال من العدالة والحرية والمساواة، ومجموع ذلك لا يتحقق إلا في إطار مجتمع مدني متين ومتوازن. بمعنى؛ إنه بالإمكان اعتبار المواطنة هي شفرة الحل –وليست كل الحل طبعا - للواقع المأزوم الذي تعانيه معظم الدول العربية والإسلامية على وجه الخصوص.
والدولة المدنية وحسب مضمون العمل بمبدأ المواطنة ما هي إلا محاولة لتحقيق الحد الأعلى والمناسب مما يسمى بـ "الرضا الاجتماعي" بوصفها الخطوة الأساس للوصول إلى علاقة متكافئة بين كافة المكونات الاجتماعية؛ الدينية والمذهبية والفكرية والاثنية والقبلية..، إلى الحد الذي لا يخل مثل هذا التنوع أو التعدد من موازين جوهرها الخاص، إذا ليس من المطلوب أن تنصهر في بعضها البعض بقدر ما يكون الهدف هو بلوغ حالة من التجانس الحيوي فيما بينها، التجانس الذي يقوم على التسامح، ويعزز كل ما من شأنه إلى تأمين العيش الواحد والمشترك، بعد التخلص من كل ما يستحضر لخطاب الكراهية والاستعداء، خاصة وأن عامل المعاصرة يقتضي إيجاد حل ملموس يعطي الإنسان نفسه القيمة الفلسفية مع نفسه ومع الآخر، وإلا لن نصبح بشرًا إلا إذا أصبحنا مواطنين كما يقول جان جاك روسو.
لا شك بأن العبور للقانون والدولة المدنية والعمل بمبدأ المواطنة لا يتضارب مع المعتقدات والأخلاقيات وكذلك الأحكام بالقدر ما هي مرسخة لها، فالفرق جلي وواضح ما بين الصورتين، بين جملة من القوانين المتجددة والمتوافق عليها في التمظهر الخارجي لحياة الناس، وبين الاعتقادات والأفهام ذات الطبيعة الداخلية حسب الوظيفة الروحانية. لاسيما وأن ساحة الحراك الاجتماعي في الواقع العربي بالتحديد، ما تزال غارقة في مستنقعات الانكفاء والتشرنق، حيث ما تزال تشهد معظم المكونات الاجتماعية بألوانها المختلفة حالة من الاصطراعات الفرعية أكثر منها الرئيسية، حتى تبلغ الذروة في محطات عديدة؛ ليأخذ الصراع نبرة أعلى؛ ليتحول ما بين الحق والباطل. ولا عجب عندها إذا ما ساد مبدأ الغلبة للأطر الخاصة على العامة، أو الاحتماء بالمذهب أو الحزب أو القبيلة على حساب مبدأ دولة القانون المدني لا القانون الشرعي!
التشكيل المدني الحديث يختزن في جوهره تلك الطاقة الحضارية التي تعود بالإنسان نفسه إلى حاضرة الحياة النقية والطبيعية، والتي من خلالها يستطيع وبصورة متوازنة أن يتجاوز الولاءات المختلفة؛ الدينية والمذهبية والطائفية والفكرية والقبلية؛ بغية الوصول إلى ثقافات متنوعة ومتعددة ويكون الرابط والناظم لها هي تلك المواطنة باعتبارها ناظمًا مدنيا ووطنيا بالدرجة الأولى. ومؤسسة جامعة مانعة لكل المواطنين بمختلف معتقداتهم وتوجهاتهم وأجناسهم، إذ تمثل في المحصلة الأخيرة تلك المعادلة الوطنية التي تتشكل من واقع مجموع إرادة كلية للمواطنين.
وضمن النسق الاجتماعي العربي المعهود أعتقد جازما وكما هو مطلوب من كافة المذاهب والتيارات والأنماط القبلية والعشائرية أن تنحو باتجاه التقيد بمبدأ "المواطنة"، أيضا بات من الضرورة بمكان تحقيق كافة لوازم الدولة المدنية الحديثة، وتأمين كل ما من شأنه أن يعزز الدور للعمل الديمقراطي تحت مظلة دولة القانون المناشدة للعدالة والحرية والمساواة، في هذه الحالة نستطيع القول بأننا أوجدنا حالة من الشعور بالرغبة في التغيير نحو الأفضل، وبأننا وقفنا عند نقطة البدء لتجاوز الهويات الدينية والعبور إلى منطق القانون المدني الحديث.
علي آل طالب – السعودية
مركز آفاق للدراسات والبحوث
a.altaleb@yahoo.com
التعليقات (0)