وقفت يوما أمام مرآة نفسي...
و نظرت ...
نظرت طويلا علني أجد سبيلا إلى قلبي...
تلوت صلاة الليل...
و رحت أتجرع كؤوس المنايا من دون توقف...
سكرت من ذلك المدام الأبدي...
تعبت من النظر...
فلا سبيل إلى مكنونات القلب غير ذلك الورق البالي...
جلست على حافة النافذة يرقبني القمر بعيون ناعسة...
طفقت أسكب حبر روحي على ورق الدهر...
جنون ذلك الحب...
محض أكذوبة...
صوت زخرات المطر أغنية للوجود...
لا يزال وقعه في مسامعي...
و صمت رهيب يملأ المكان...
من أنا؟
من هذه الفتاة التي أراها؟
تحدق إلي...
لماذا لايرجع انعكاسي صدى حكايتي على مسامع الأنام...
اف لفتى الجمال...
أثقل منكبي بوعود مزيفة...
خطته الحياة قصيدة عذبة في صدري...
ثم محاها الموت...
لا زالت تلك الرسائل في صندوقي الفضي، تشهد على حبنا الساذج... تسبح بين سطورها كلمات غامضة لا قافية لها و لا بحر...
فحبيبي لم يكن شاعرا و لا كاتبا...
بل كان هو فقط...
بحرا عميقا لا نهاية له...
و حلما جميلا لا يقظة منه...
و نبيذا حلوا لا صحوة بعده...
اشتد البرد...
و أصبح المطر غزيرا و كأنه يروم تطهير جسد الأرض من الخطايا و الآثام...
انبريت أغلق النافذة و لكن شيئا منعني من ذلك...
شيء قد أومأ لي بأن أبقى على نافذة الوجود، أرصد أيامي، و أتأمل مستقبلي...
شيء قد أيقظ الهزيع الأول من الليل، ليقلي في صدري بذور الشوق و الحنين، بذور الأسى و الحزن، بذور الموت و الحياة...
انبثق ذلك النور الجريح من اللاشيء
و همس في آذاني كلمة لا أبدلها بأقدس ما في الكون:" ابقي حبيبتي..."
"هنيهة فقط... دعيني أتبين ملامحك فقد أنساني الموت تعابير وجهك اللطيفة"
مد إلي يديه كغير عادته فخفت و تراجعت إلى الوراء، و تسارعت دقات قلبي بجنون...
"هيا أسرعي، فلم يبق لي في هذه الحياة الظلماء سوى سويعات من الزمن
تعالي معي، رافقيني يا محبوبتي، دعي ستار الليل يحجبنا عن عيون هذه الوحوش"
فقلت: "الغيوم لا تناسبني يا حبيبي، و الشفق يعمي بصري... إني لا أطيق تغريدة الحسون، و الليل ستار للمجرمين و قطاع الطرق... أفضل البقاء هاهنا"، فأجابني و في صوته شيء من الغضب:" ما الذي صنعه الزمن بك بعد رحيلي يا حبيبتي؟ من أنت اليوم يا نديمة أمسي؟ يا بحرا لقصائدي...
هل جرفتك الأيام بعيدا عني؟ إلى ضفاف التناسي؟ أو تدرين من أكون؟"
فقلت بجفاء تام:" قد كنت لي حبيبا لي بالأمس، و لكنك اليوم مجرد طيف ذكرى..."
قد وقفنا وجها لوجه أمام ظلام الكوى...
آه يا حبيبي ما أعمق بحر النوم، ما أطول الليل...
كان النهار يصارع الدجى بسهام أشعته، و لكن الليل قد نضبت قواه فهو ينسحب على هون، أشعة قليلة من الشمس تطلع من وراء الحجب مبشرة بموكب الصباح...
مؤذنة لفوز النهار في معركة الأيام، و نسمات الفجر طلائع رتيبة، و جلى شاحبة وردية الخدين... تنسحب النجوم على استحياء من وراء الغيوم فهي أشبه بشعل ملتهبة من ندى الأزاهر، و يتلاشى ذلك الطيف ببطء قاصدا عنان السماء...
"إلى أين"
"إلى أين تحملك الليالي مجددا؟"
"ألا تعلم أن الحزن قد رسم ظلاله على هذه الجبهة التي كانت مشرقة بوجودك... ألا تدري أن الموت قد خط سطوره على هذا القلب الذي لم يعهد في الحب غيرك... ألا تعلم أن المطر قد أتلف هذه الكلمات التي أفنيت عشقي لكتابتها... ألا ترى أن الوجد قد أيبس هذه الشفاه التي لطالما سكرت بخمرة قبلك...
أيها الفتى المزيف، لك أن تتخذ من عرائس الفجر حبيبات للياليك الطويلة، و لكن صورتي لن تفارق مخيلتك، نصبتك ملكا على عرش حبي، فكنت جائرا مستبدا...
إني أرجوك كل الرجاء أن تفك أسري، أن تمنحني حريتي...
خذ الكون بأسره...
خذ الأيام..
خذ الليالي..
إلا هذا الفؤاد الضعيف فإني لا أقدر العيش بدونه...
مذ لبست معطف حبك دب المرض في أوصالي...
مذ سكنت كوخ عشقك تسلل البرد إلى مضجعي... و اخترت شذرات المطر سقفي"
تبعت ذلك الطيف الغريب، كالمجنون قفزت من النافذة ملتصقة بأذياله، فإذ بي بين الفضاء و الأرض، هممت بالسقوط، و لكن هذا كله كان مجرد حلم...
مجرد كابوس...
فحبيبي الأثيري لا زال يتمطى في مرقده بجانبي، غير أن مرآة نفسي استحالت ألف قطعة و قطعة...
ألف حكاية و حكاية...
نبذت تلك الحكاية الزائدة عن الألف...
و نبذت حبيبي الأثيري...
لأقيم في تابوته الخشبي منذ الساعة إلى أجلي، على كراهية الأثير بسببه...
فأحبس الأنفاس عن جسدي...
لأنطفىء مع أنوار المدينة الصاخبة...
براءة ساذجة دفعتني إلى حبه...
ذاكرة ملعونة لا زالت تنخر قلبي...
تبا لذكرى رجل بمجيئه اسودت الأقدار...
لم أعد أشعر بالبرد بعد الآن...
التعليقات (0)