مواضيع اليوم

الهروب من الوطن

عبدالكريم البليخ

2017-09-16 09:09:31

0

ما يُلفت، وفي هذه الفترة، أن أبواب السفارات الغربية، وفي أكثر من عاصمة عربية، صارت تشبه هذه الأيام دكاكين البقّالة أيام الحرب، أو محطَّات البنزين أيام أزّمة النفط!.
فالطوابير تصطّف أمامها من الفجر حتى ساعة الإغلاق، كل يطلب فيزا للهروب من الوطن!. ومكاتب الهجرة في عواصم الغرب، تكادُ تُصبح كأبواب السفارات في عواصمِ العَرب.
فالعربُ باتوا يبحثون اليوم عن جنسيات جديدة. جوازات سفر جديدة. يستبدلون بها القديم، خوفاً من أن يُصبح القديم مثل جواز السفر الروسي بعد سقوط القياصرة.
هذا يريد أن يصبحُ أميركياً، والثاني بريطانياً.. كندياً.. فرنسياً.. ألمانياً.. هولندياً.. نرويجياً.. سويدياً.. نمساوياً.. دانماركياً.. وحتى برتغالياً.
وفرحة الحصول على جنسية جديدة أصبحت تعادل فرحة الحصول على حياة جديدة، مستقبل جديد، وآفاق جديدة.
هكذا وصلنا مع الوطن، أو هكذا أوصلنا الوطن!!.
ولا مانع لدى معظم الدول العربية، فهي تعطي الحق بجوازي سفر، فأنت لبناني في لبنان، وأمريكي في ويسكونسن، ودنْفِر، وسان خوسيه، ولوس انجليس، وأنت أردني في عمَّان، ونمساوي في فيينا، وألماني في برلين وهامبورغ، وبريطاني في مانشيستر، ونيوكاسل، وبريستول، وأنت سوري في دمشق، وكندي في كيبك.
والفرحة.. تكاد تُنسي الناس ماذا تعني الغربة إذا طالت، وماذا يعني أن تكون بلا وطن.. حتى لو امتلأت حقائبك بكل جوازات سفر العالم.
وبعيداً عن السخرية التي تثير الدمع، فانَّ ما يحدث هو أكبر من حجم الكارثة، والغريب إننا لانهتم لها، ونعتبر شيئاً طبيعياً، ولكنها إذا استمرت فقد نجد عدد العرب في أسلو، أو كوبنهاغن أكثر منهم في أي مدينة عربية، ونفقد ـ بالتالي ـ كل آمال وأحلام المستقبل، مع فقدان الذي يصنع المستقبل: الرجال.
أطفال الغربة.. لايعرفون العربية، بعضهم يتقن الهولندية، والآخر الفرنسية، والثالث الألمانية، والرابع السويدية، والخامس الدانماركية، وهكذا دواليك.. ولكن أحداً منهم لا يعرفُ العربية!.
يُسمونهم الجيل الثاني، أو الثالث، أو حتى الرابع. هؤلاء في خلال أعوام سيحاربون مع جيوش البلدان التي اكتسبوا جنسيتها، ولا يعرفوا عن الوطن إلا مايسمونه.. عرضاً من آبائهم وأمهاتهم. وهكذا تضيع الأوطان، وفي زمن الانهيار والهجرة القسرية!.
وهل من المجدي أن يصل بنا الحال إلى أن نخترق كل هذه الحواجز، وأن نغمض أعيننا أمام ما يجري حتى يتمكن المواطن العربي الذي صار يعاني الكثير من مؤسيات الحياة، وتأجيج مشاعره، والوقوف مطولاً أمام هذه الدكاكين التي من الصعوبة بمكان أن تُمنح تأشيرتها بدون اشتراطات مسبقة، إلى ذاك المواطن الذي أصيب بخيبات أمل، وهو يحاول، وبكل ما يدّخر من جهد، وما يكتنز من مبالغ مالية، من أن يضعها في خدمة البعد عن الوطن! وكل ذلك من أجل الخلاص من رمادية الحياة التي أصابته في مقتل!.
نعم، هذا حال مواطننا.. الذي لم يعد قادراً اليوم أن يميّز بين الغَث والسمين. مكرهٌ أخاك لا بطل، إلى التوجه إلى أي مكان في هذا الكون الذي لم يعد يطلب سوى العيش بأمان.
الأمان، الذي افتقده في مختلف المدن والساحات العربية، وتناهبته الأيدي الخبيثة، ولم يعد بمقدور حكامها ومشايخها حمايتها، فأصبحت مرتعاً للمرتزقة واللصوص، والمدّعين الجدد التي لم تعد تطاق معهم السبل الكفيلة بتجاوز هذا الواقع الذي حوّلوا كل ما هو جميل في عيون أبناء هذه الأمّة إلى مزاميل خيل، ورعاية خبيثة لجماعات حصّنت كل ما كسبته من هؤلاء القوم، بذريعة الدفاع عنه، ورغم ذلك لم يشفع لهم إلاّ بغزوهم وسرقتهم، ونهبوا كل ما هو من حق أخوتهم وأبنائهم وفرضوا عليهم الجزية، وقتلوا ما قتلوا باسم الدين، ومن هنا لجأ العديد منهم إلى بوابات الدكاكين المغلقة، للهرب بحثاً عن الحرية والعيش بكرامة، فما هو الحل؟
الحل، بأن نفسح المجال أماهم، وإلا سيكون مصيرهم الموت، كما هو حال الكثيرين ممن لاقوا مصيرهم المحتوم، فهم يحاولون الفوز بمقعد، أياً كان مصدره، بهدف الفرار من المعاناة والخوف والموت الذي صار يترصّدهم في كل مكان..!
   ولا يسعنا، في هذا الإطار، من أن نقف، وباحترام شديد، أمام التسهيلات التي قدمتها مجموعة دول اليورو حيال المواطن السوري الذي فرّ هرباً من الموت الزؤام، والخراب والدمار الذي لحق به، واللحاق بركب الدول الراعية للإنسان.
نقول هرباً، لأنه ما قدم للمواطن السوري، وما تلقاه من دعم ومساعدات وخدمات جليلة يعجز البلد الأم في تقديمها له، وفي الوقت نفسه لم تبادر الدول الإسلامية، التي تدّعي بكائيتها على المواطن السوري، أن تحتضنه، وتقوم بإيوائه، بل ساهمت بإغلاق حدودها أمام حاجته، ما ساهم في تشرده، والحال الكئيبة التي عاناها وتحمّل مؤسياتها!.
إنَّ العروبة التي يدعون، ما هي مجرد اسم يصرخون، وماهي سوى قربة مقطوعة ينادون بها، ووسام مرصّع بالزيف والعهر، يكتفون بالوقوف أمام عدسات التلفزة بالتصفيق والنداء باسم العروبة التي صارت تستخدم السوري رمزاً للشر، وما هو في الواقع سوى إنسان متواضع، ومحروم من أبسط مقوّمات الحياة الآدمية.
 التزم الصمت، وضُرب بالسوط وبالحذاء، بدون مبرّر، وهو الذي كما يقال بالمثل الدارج: "يمشي الحيط الحيط.. ويقول ياربي الستر"!
وفي المقابل، هاهي تركيا الدولة العلمانية ــ الإسلامية المحافظة، احتضنت، وبكلٍ حب واحترام المواطن السوري وآوته، وقدمت له الكثير من المساعدات والخدمات الجليلة، بل وصل بها الحال إلى تجنيس البعض من السوريين... ناهيك عمّا ساهمت في تقديمة الدول الأوربية الأخرى من مساعدات حقيقية للمواطن السوري والذي يعجز القلم عن تصويرها، واللسان عن الإفصاح عنها، والفكر عن تذكرها.
المساهمات كبيرة، والمساعدات أكبر من كل تصور، فيما نرى بلاد العرب أوطاني، وقف أغلبها موقف المتفرج حيال تقديم أي خدمة يمكن من خلالها أن تسهم في مساعدة ابن سورية الذي يظل باراً بعروبته الذي لفظته، وهو الذي لم يعرف الذل والاهانة، واستطاع أن يتحمّل ما تعرّض له، وبكل صلابة، على الرغم من قساوة المعاناة، والحال الذي وصل إليه من اهانة، وتشرّد وضياع  لم يسبق وأن عاشه، أو تدثّر فيه!.
وما يؤسف له، أنَّ السوريين وقعوا ضحية القريب قبل الغريب.. وهذا ما أرّق مضاجعهم، وتحولوا إلى أسراب من المهاجرين، المشرّدين، حيث عجز العالم عن استيعابهم، ولكن الواقع ألزمهم بالهرب حلاً مما يعانون من قتل وتدمير، وهكذا أصبح حالهم.

 
عبد الكريم البليخ
فيينا

16/09/2017




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !