شن رئيس تيار التوحيد الوزير السابق وئام وهاب في 17 آذار 2010، حملة انتقاد شعواء على رئيس الجمهورية ميشال سليمان، وصلت الى حد مطالبته اياه بالاسقالة، ومما جاء في كلامه: "إن ثمة عطلا أساسيا في رئاسة الجمهورية، وهذا الأمر أساسي في الشلل الحاصل على صعيد كل الدولة. فاليوم نفتقد الرئاسة القوية والرئيس القوي. ونظرية الرئيس التوافقي سقطت ولم توصل الى مكان، ربما حلت مشكلة خلال السنتين الأخيرتين. لكن هذه النظرية من الآن فصاعدا تعطل الامور أكثر مما تسهلها. نحن في حاجة الى رئاسة جمهورية تراقب كل الناس وكل المؤسسات، وتكون مسؤولة عن كل شيء. فالرئيس هو الرئيس الأعلى لكل المؤسسات، يجب أن يراقب كل التعيينات وكل عمليات الإهدار والتقصير. وإذا لم يعد قادرا على القيام بكل ذلك، فالاستقالة تصبح أفضل، لأننا لا نستطيع أن نكون في السنة الثانية للعهد وكأننا في أيامه العشرة الأخيرة".
واعتبر وهاب ردا على سؤال: ان "المسألة في الشخص (رئيس الجمهورية) لا في الصلاحيات. الرئيس السابق إميل لحود كان بدون صلاحيات وكان رئيسا شجاعا وقادرا على أن يمنع كثيرا من الأمور. لسنا مع رئيس يسمي نفسه توافقيا أو لا رأي لديه في كل ما يجري، أو يبقى على الحياد. لا يستطيع مسؤول أن يبقى على الحياد في كل ما يجري، يجب أن يكون له موقف واضح من كل القضايا، وإلا نشعر بأننا أصبحنا في آخر أيام العهد".
وفور صدور هذا التصريح الهجومي على ميشال سليمان، حظي رئيس الجمهورية بموجة ردود دفاعية واسعة عنه قادتها قوى 14 آذار بجميع اطيافها، وساندتها بعض المواقف المؤيدة الخجولة الصادرة عن قوى 8 آذار، ما شكّل رسالة مضادة لمحاولة التطاول على سليمان، بدت أقرب الى مبايعته مجدداً رئيساً توافقياً قبل شهرين من الذكرى السنوية الثانية لانتخابه في 25 ايار 2008.
وقد اتجهت معظم التحاليل السياسية، الى ان حملة التهجمات التي يتعرّض لها سليمان هي محاولة جديدة لاستهداف الدولة بجميع مؤسساتها، بدأت ملامحها واقعياً عقب زيارة الرئيس سليمان للولايات المتحدة في 13/12/2009، ثم تصاعدت مع دعوته الى عقد أولى جلسات الحوار المستعاد في قصر بعبدا في 9/3/2010، والتوقيت الذي اختاره للاعلان عنها؛ فقد اعلن سليمان تشكيل هيئة الحوار الوطني في 28/2/2010، اي بعد القمة الثلاثية (قمة الحرب)التي انعقدت في دمشق في 25/2/2010 وجمعت الرئيس سوري بشار الاسد ونظيره الايراني محمود احمدي نجاد وامين عام "حزب ولاية الفقيه" حسن نصر الله، الذي توجه الى العاصمة السورية بمواكبة من طائرات الاستطلاع الاسرائيلية التي لم تغادر الاجواء اللبنانية في ذلك اليوم، كما جاء الاعلان عن طاولة الحوار عقب مطالبة ملحة من قوى 14 آذار بعقدها، وبعد ان دعا الامين العام للامم المتحدة بان كي مون في 27/2/2010 رئيس الجمهورية صراحة الى معاودة جلسات الحوار الوطني حول استراتيجية الدفاع الوطني بغية التوصل الى اجماع وطني حول هذا الموضوع، فاختار سليمان يوم 9 آذار تاريخا لعقد اولى جلسات الحوار، الامر الذي خلّف استياء بحسب هؤلاء المحللين لدى السوريين وقوى 8 آذار.
كما رد بعض المحللين الحملة على سليمان، الى بعض الملابسات التي حصلت في جلسة الحوار الاولى، مع حذف بند من بيانها الختامي كان يتضمن كلمة المقاومة. فقد تنبه الرئيس فؤاد السنيورة، الذي تولى مع المدير العام في رئاسة الجمهورية السفير ناجي ابو عاصي مراجعة مسودة البيان التي اعدت في رئاسة الجمهورية، الى عبارة "حق لبنان بجيشه وشعبه ومقاومته في الدفاع عن لبنان"، التي ادرجت فيه فحَذَفَها. وعندما وزعت النسخ على المتحاورين، بادر رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد الى السؤال عن سبب حذفها، فجاء الجواب تباعا من مسيحيي 14 آذار الذين اعتبروا العبارة نقطة خلافية. فانتهى الامر بتدخل الرئيس سليمان طالبا شطب العبارة ما دامت لم تحظ بتوافق المجتمعين.
وقد تزامنت هذه الحملة ايضاً، مع تصعيد مماثل استهدف رئيس الوزراء سعد الحريري وافتعال ما سمي قضية "الاتفاق الامني" مع الولايات المتحدة الذي تبين ان اتفاقات مماثلة له عقدتها بلديات جنوبية تابعة لـ "حزب ولاية الفقيه" مع الجهة الاميركية عينها، ما شكّل قناعة لدى القوى السيادية ان الحملة على الرئاسة وبعض المؤسسات التي يتولاها عدد من الحلفاء السياسيين والحزبيين لسوريا، هي من اجل فرض شروط ومعطيات جديدة على اركان الحكم والمؤسسات في ضوء معطيات اقليمية باتت توفر لدمشق هامشاً اكبر في اطلاق يدها في لبنان مجدداً.
وفي المقابل، ثمة رأي آخر لم يجد له محلا في وسائل الاعلام، ينص على ان الحملة التي يتعرض لها رئيس الجمهورية ليست حملة استهداف وتشهير وتطويع، بل حملة ستر ودعم وتأييد لخطه السياسي المنحاز لفريق 8 آذار، والذي بدأ يتكشّف تدريجيا منذ اعتلائه سدة الرئاسة الى اليوم.
1- ففيما يتعلق بالزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية الى الولايات المتحدة في 13/12/2009، والتي عدها المدافعون عن سليمان اولى اسباب التهجم عليه، يمكن القول انها لا تستحق هذا القدر من الاهمية لجعلها سببا لاستياء سوريا وحلفائها من الرئيس اللبناني، فقد ركّز سليمان في جدول اعماله على ما يشبه اللغة او الخطاب اليومي لسلفه الرئيس اميل لحود طوال تسع سنين، اي "التوطين" وسلاح ما يسمى "المقاومة"، اللذين حمل لواءهما العماد عون كذلك بعد عودته من فرنسا. ولم يخرج سليمان عن السياق الذي فرضه عصر الوصاية في التعامل مع دمشق، فقد حرص على احاطة بشار الاسد بمضمون الزيارة واهدافها في اتصال هاتفي اجراه معه عشية مغادرته، وربما عبر قنوات اخرى غالباً ما يستخدمها، هذا فضلا عن زيارة التعزية التي قام بها الى سوريا في 18/12/2009، التي استغلها لاطلاع بشار الاسد على نتائج الزيارة التي قام بها الى واشنطن.
2- وكذلك، يمكن ان يعدّ مبالغا من اعتبر دعوة سليمان لمعاودة جلسات الحوار الوطني والتوقيت الذي اعلن فيه عن تأليف هيئتها، سببا لامتعاض قوى 8 آذار وبالتالي احد اسباب الحملة التي شنّها البعض ضد الرئيس؛ ذلك، ان كلا الفريقين، وخصوصا فريق 8 آذار، يعلم علم اليقين ان هذه الطاولة لا قيمة لها، وما سيتمخض عن جلساتها لن يؤثر قدر انملة على المشروع الخارجي الذي يسير فيه "حزب ولاية الفقيه"، الذي سيبقى مصادرا قراري الحرب والسلم من يد الدولة، ومحتفظا بسلاحه الذي ينعم بزيادة وتطوّر مستمرين ليس لمقاومة اسرائيل، بل لمقاومة الدولة اللبنانية واحكام السيطرة عليها. فطاولة الحوار اليوم، فضلا عن كونها مخالَفة وبدعة دستورية لتهريب المواضيع الحساسة من مؤسستي مجلس النواب ومجلس الوزراء، ليست اكثر من "هايد بارك" للاطراف السياسية لكي تدلي بآرائها بكل صراحة حول الاستراتيجية الدفاعية وسلاح ما يسمى "مقاومة"، في حين لن يطبّق في النهاية سوى رأي قوى 8 آذار الذي تفرضه بقوة سلاحها. وهذا ما عبّر عنه عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب نواف الموسوي في 20/3/2010، عندما اكّد: ان "احداً لا يستطيع شطب المقاومة من حيث يجب ان تكون... ومن حاول شطبها من البيان الوزاري شطبته من الوزارة. ومن تسلل الى شطب المقاومة من بيان لا قيمة له شُطِب".
اضف في هذا السياق، ان قوى 14آذار لم تنظر بعين الارتياح الى المعايير التي اعتُمِدت في الهيئة المعدّلة، اذ جاءت بعد توسيعها من 14 عضواً الى 19 بمثابة تكبير لحصة قوى 8 آذار والمعارضة و"الوسطيين" على حساب الغالبية. فقد شكلت الهيئة واقعا من سبعة ممثلين لقوى الغالبية و14 آذار، وسبعة لقوى المعارضة و8 آذار، وخمسة وسطيين.
ومن هنا نخلص الى ان الاسباب التي ساقها المدافعون عن سليمان تعدّ ضعيفة وواهية وغير كافية، ليستدلوا بها على ان تهجمات بعض المفلسين سياسيا وشعبيا عليه والباحثين عن منبر اعلامي او موقف شاذ او متطرّف ليُعَوِّموا به موقعهم المندثر، امثال الوزير السابق وئام وهاب والرئيس عمر كرامي، انما تعبّر عن "استهداف مشبوه لرئيس الجمهورية وموقع الرئاسة، وتنم عن محاولة لاستئناف الهجوم على الاستقرار ومرتكزه الاساسي في الدولة"، او انها تعكس "عدم رغبة البعض في قيام دولة فاعلة وقادرة لأن قيامها سيكون على حساب بعض الاحزاب غير المستعدة لفقدان السلطة التي تتمتع بها حاليا".
وهنا، لا بد للسؤال الجوهري ان يطرح نفسه: فإذا لم تكن هذه التهجمات جزءا من محاولة اضعاف رئيس الجمهورية والتشهير به من قبل سوريا وحلفائها، كيف لها ان تكون محاولة لتأييده ودعمه وستره من قبل ذلك الفريق المتهم اصلا بمحاولة اضعافه؟!
الجواب على هذا السؤال ليس صعبا، لكنه يحتاج الى استعراض تاريخي لبعض مواقف سليمان وردود فعل قوى 14 آذار عليها، وعندها ستتضح الامور وتنقشع الرؤية وينجلي الغبار، مظهرا ان المراد من تلك الحملة هو دعم رئيس الجمهورية وتغطيته وتأييده بعد انكشاف امر انحيازه لقوى 8 أذار.
1- في 27 ايلول 2009، يوم كانت ازمة تشكيل حكومة ما بعد انتخابات 2009 في اوجها، وقوى 14 آذار الفائزة بالاكثرية النيابية تواجه العراقيل السورية-الايرانية التي وضعتها المعارضة في طريقها من اجل الحؤول دون تشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات، اكد الرئيس ميشال سليمان في حديث لصحيفة "الحياة"، انه "لا يعتقد ان هناك أي دور سوري او ايراني في العجز عن تشكيل حكومة لبنانية"! وأن السوريين "ليس لديهم النية بالعرقلة أبداً، وكذلك الأمر ليس لديهم النية بالتدخل بالشؤون الداخلية اللبنانية"! وعن توزير الراسبين الذي عارضته قوى 14 آذار بشراسة، أكّد سليمان أن "عدم توزير الراسبين ليس دستوراً، وإذا كان عُرفاً فقد خُرق مرات عدة، والمصلحة الوطنية هي الأجدر بالالتزام بها".
وقد لاحظت مصادر مطلعة عبر صحيفة "اللواء" في29/9/2009، "أن الموقف الذي أعلنه رئيس الجمهورية من موضوع توزير الراسبين في الانتخابات، أدى الى حالة إرباك على صعيد استشارات الرئيس المكلف الذي فوجئ بهذا الموقف والذي أعلن من دون تنسيق مسبق، لكن الرئيس الحريري آثر عدم الرد عليه حرصاً على مسيرة التعاون مع رئيس الجمهورية". وقد شد هذا الموقف عصب المعارضة ودفعها الى مزيد من التصلب والعناد في مطالبها التسلطية، اذ يعد ذلك بمثابة اعطاء براءة ذمة لسوريا وايران عبر قوله انهما لايتدخلان في الشؤون اللبنانية، وفيه ما فيه من تجاهل لارادة الناخبين لناحية عدم ممانعته توزير الراسبين بحجة انه ليس عرفا.
2- ومع انسداد افق تشكيل حكومة ما يسمى "وحدة وطنية" بسبب الشروط التعجيزية التي وضعتها المعارضة، برزت عدة اصوات استقلالية سيادية تطالب بتشكيل حكومة اكثرية، وكان من ابرز هذه المواقف ما ادلى به رئيس الهيئة التنفيذية في حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في 7/10/2009 عندما لم ير في مقابلته مع وكالة رويترز "ان فرص تشكيل الحكومة صارت كبيرة"، وقال: "انا ارى، ويا للاسف، ان الامور لا تزال مكانها ما دام الرئيس المكلف يصر على حكومة ائتلاف وطني والآخرون مصرون على شروطهم". وأوضح أنه "في غضون اسبوع او عشرة أيام، اذا لم يتبين ان هناك جدية في تشكيل حكومة ائتلافية، فيجب على رئيس الجمهورية ان يستعمل القلم الذي في حوزته. لا يمكنه أن يترك البلد من دون حكومة". وكان رد الرئيس ميشال سليمان على هذه الدعوة، تشديده في27/10/2009 خلال حديث إلى صحيفة "الأخبار"، على أنه "لن يوقّع إلا حكومة وحدة وطنية ميثاقية، متوقعاً حصول ذلك قريباً جداً". وقد صب هذا التصريح ايضا في الاتجاه الذي يخدم اطماع المعارضة، وزاد من منسوب ابتزازها فريق الاكثرية.
3- وعندما تكلّم رئيس الجمهورية عن ما يسمى "مقاومة" وكأن ثمة اجماعا عليها من اللبنانيين، في عيد الاستقلال 23/11/2009، وجه اليه الدكتور سمير جعجع في 10/12/2009 انتقادا مؤدبا ولاذعا، وذلك في معرض رده على موضوع تهجم البعض على زيارة رئيس الجمهورية للولايات المتحدة قائلا: "نحن من يجب أن تكون لديه بعض الملامة على بعض المواقف التي اتخذها الرئيس، خصوصا عندما تكلم في عيد الاستقلال وخلال عرض الجيش اللبناني عن المقاومة"، وأضاف "لا أعرف أي مقاومة، لانه عندما نتحدث عن مقاومة فذلك يعني أن كل الشعب اللبناني يجب أن يكون موجودا فيها، فنحن من يجب أن تكون لديه ملامة حول كيف انه يستمع الى الاميركيين، وكيف ان هذا الامر يتناسب مع المواقف التي يتخذها، والتي أعتبرها أنا شخصيا منحازة في اتجاه وجهة نظر الفريق الآخر، وهذا يتناقض مع ذاك".
4- في 23/1/2010، وتعليقا على الحملات التي تطاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، اعتبر جعجع "ان فخامة الرئيس هو من يعرض نفسه لهذه الحملات، بمعنى أنه كلما وضعوا امامه عرقلة ما أو شنوا هجوما عليه يحاول لايقاف هذه الحملات، ارضاءهم. وعندما وجدوا ذلك مناسبا لهم أكملوا على هذا المنوال "لقيوها تجارة ربّيحة"، اذ عندما يريدون شيئا منه يشنون حملة عليه. هذا من جهة،ومن جهة اخرى (اضاف جعجع)، هذا المسار، في رأيي، جعل رئيس الجمهورية يحيد عن موقعه التوافقي الذي كان فيه في الاشهر الاولى من عهده، فاذا رأينا مواقفه في كل المحافل العربية او الدولية او حتى في لبنان فهي اقرب الى الفريق الآخر، لقد اتى رئيس الجمهورية على اساس توافقي، وذلك يعني ان مواقفه يجب ان تكون الحد الادنى المتوافق عليه بين جميع اللبنانيين، وآسف لذلك واتمنى ان يأخذ مجددا موقعه التوافقي بغض النظر عن الهجومات التي يتعرّض لها من الفريق الآخر، لانه اذا اراد اعطاءهم تحت ضغط الهجوم عليه سيهاجمونه باستمرار".
5- في 5/2/2010، اعتبر رئيس الجمهورية ميشال سليمان "ان الدول وفي ظل هذه المتغيرات (ما بين عامي 2000و2010)، بدأت التفكير بالديموقراطية التوافقية التي تعطي الجميع دورا في الحياة السياسية حيث يبدو النموذج اللبناني في هذا المجال المثال الافضل من بين الانظمة الديموقراطية".وإذ لفت الى "أن ما حصل من تغيير بين عامي 2000 و2010 على المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية جعل العالم يكتشف إشكالات الديموقراطية العددية التي تهمش وجود الاتنيات الأقلية ودورها، ويكتشف كذلك مساوئ تفلت النظام الرأسمالي من قيوده وضوابطه"، شدد على "أن النموذجين المتبعين في لبنان سياسياً واقتصادياً يشكلان عاملين أساسيين في ترسيخ الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي(..)".
ولا يخفى ما في هذا التصريح من تبن واضح وصريح لوجهة نظر المعارضة؛ فما يعرف بالـ"ديموقراطية التوافقية"، انما يعني ان تتنازل الاكثرية عن حقها في الحكم، ما يجعل الانتخابات النيابية دون جدوى. ثم ان مسألة فرض "التوافقية" التي يعيش اللبنانيون اليوم رهائن لها ليحكم لبنان على اساسها، تمس مباشرة النظام الديموقراطي البرلماني الذي جرى الارتضاء به مرجعاً وحكماً منذ عهد الاستقلال الاول وصولا الى دستور الطائف عام 1989. وفي قراءة متأنية لوثيقة "حزب ولاية الفقيه" السياسية التي اعلنها في 30/11/2009، يُلاحَظ انها لم تكرر فقط رفض الاعتراف بمرجعية اتفاق الطائف ميثاقا ودستورا، لكنّها جعلت الوطن معلّقاً على شروط، والدولة مشروعا مؤجلا بشروط أخرى، وذهبت إلى جعل الدستور نفسه معلقا تحت عنوان "الديموقراطية التوافقية" بديلا من "الديموقراطية البرلمانية".
ففي موضوع "الدولة والنظام السياسي"، رأت الوثيقة ان "المشكلة الاساسية هي الطائفية السياسية" وان "الشرط الاساسي لتطبيق ديموقراطية حقيقية يمكن على ضوئها ان تحكم الاكثرية وتعارض الاقلية هو الغاء الطائفية السياسية". وأضافت: "والى ان يتمكّن اللبنانيون من تحقيق هذا الانجاز(...)،فان الديموقراطية التوافقية تبقى القاعدة الاساس للحكم في لبنان (...) وتشكل صيغة سياسية ملائمة لمشاركة حقيقية من الجميع".
وبهذا الطرح او الفرض الذي ينسف اسس الطائف، يجعل الحزب نفسه رابحا في كلا الحالين، اذ "التوافق" (كما هو معمول به الآن) يعني فرض اوامره عل الاكثرية، والغاء الطائفية السياسية يعني تحكّمه بالبلاد بفضل سلاحه وتفوّق طائفته العددي التي يحتكر قرارها وتمثيلها، بلا حاجة الى توافق.
6- في 25/2/2010 رضخ الرئيس سليمان لضغوط إسرائيل و"حزب ولاية الفقيه" بإلغاء صفقة "الميغ" الروسية، وذلك بعد ان اجمعا على رفض تزويد سلاح الجو اللبناني بها. فقد "تمنى" سليمان على الحكومة الروسية اثناء زيارته روسيا، استبدال الهبة التي سبق ان وعدت بتقديمها الى لبنان صيف 2008، والمؤلفة من 10 طائرات "ميغ29"، بطوافات عسكرية من طراز "مي 24" المتطورة والتي تعتبر من اهم الطوافات العسكرية في الصناعة الروسية، وذلك لسد حاجة الجيش الملحة الى هذا النوع من المروحيات خصوصا مع تزويدها بصواريخ خاصة بها. وجاء طلب استبدال هذه الطائرات المقاتلة والقوية بأسلحة اخرى للجيش اللبناني، بحجة كلفة صيانة طائرات "الميغ" المرتفعة واثمان قطع غيارها، التي تنوء موازنة المؤسسة العسكرية تحت اعبائها.
وكان الجانب اللبناني استند في طلبه الى دراسة أجرتها قيادة الجيش عن طائرات "الميغ" بحيث تبين ان الحاجة الملحة راهناً هي الى هذا النوع من الطوافات العسكرية المجهزة بصواريخ ووسائل قتال دفاعية متطورة.
الا ان حقيقة محاولة سليمان ابعاد "كأس الميغ" الروسية عن شفتي عهده "الموصوم" بـ"الاعتدال والحيادية المفرطين" (بحسب ما افادته صحيفة السياسة الكويتية) لتمرير سنواته المتبقية في الحكم بأقل اضرار ممكنة دون ان يضطر لمواجهة احد لا في الداخل ولا في الخارج، تكمن في ان قيادة حسن نصر الله مدعومة سرا من قيادة الجيش السوري، ترفض رفضا قاطعا حصول الجيش اللبناني على مقاتلات جوية او اي نوع من انواع الاسلحة المتطورة التي يمكن لها ان تواجه منظومته الصاروخية وترسانته التقليدية في حال انقلاب الاوضاع في لبنان رأسا على عقب لغير صالحه، باقدام المجتمع الدولي على تقليم اظفار ايران النووية واقتلاع انيابها الذرية. وقد تلاقت رغبة الحزب الايراني وسوريا مع وجهة النظر الاسرائيلية، فقد قالت اوساط ديبلوماسية لبنانية في فيينا واكبت زيارة سليمان الى موسكو عن كثب، ان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو كان "تمنى هو ايضا على الرئيس الروسي مدفيديف في موسكو قبل اسبوع من زيارة سليمان روسيا، "تأجيل" البدء بتسليم هدية الطائرات العشر الى لبنان حتى اواخر هذا العام، كيلا يُضطر سلاح الجو الاسرائيلي للاشتباك معها في حال التصدي له.
7- مع بداية شهر شباط 2010، بدأ يثار في الاوساط السياسية موضوع القمة العربية المقرر انعقادها اواخر آذار في ليبيا. فقد رأى المجلس الشيعي الاعلى في بيان اصدره في 4/2/2010، "ان مشاركة لبنان، على أي مستوى في القمة العربية المزمع انعقادها في ليبيا، تخلياً عن المسؤولية الوطنية تجاه جريمة إخفاء سماحة الإمام السيد موسى الصدر وسماحة الشيخ محمد يعقوب والصحافي عباس بدر الدين، كما يعتبرها تحدياً لمشاعر اللبنانيين من جهة، وتجاوزاً للقضاء اللبناني وأحكامه من جهة أخرى". ثم ما لبثت ان كرّت سبحة التصاريح التهديدية والترهيبية الصادرة عن "حركة امل" و"حزب ولاية الفقيه" للدولة اللبنانية لثنيها عن المشاركة في تلك القمة.
وفي 11آذار 2010، أبلغ رئيس الجمهورية ميشال سليمان مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها الخميس في قصر بعبدا، انه لن يشارك في القمة العربية التي ستعقد في ليبيا في أواخر الشهر الجاري؛ وردّت صحيفة "الاخبار" ذلك الى "أخذه في الاعتبار مشاعر الطائفة الشيعية التي لا تزال تنتظر جلاء قضية اختفاء الإمام موسى الصدر ورفيقيه، على ان يتم خفض تمثيل لبنان في القمة الى المستوى الأدنى".
وعدّ رئيس مجلس النواب نبيه بري هذا الموقف حسب "الاخبار" "انتصاراً سياسياً، لا في وجه أحد في لبنان، بل في وجه الحكم في ليبيا الذي يرفض متابعة الموضوع". وصرّح مصدر وزاري رافضا ذكر اسمه في 13/3/2010، ان سليمان "لن يشارك في قمة ليبيا على اساس ان فريقا من اللبنانيين طلب منه ذلك، وعلى رأسه رئيس المجلس النيابي نبيه بري".
ولعلنا بعد سرد هذه المواقف المنحازة لفريق 8 آذار والصادرة عن رئيس الجمهورية "التوافقي" بامتياز ميشال سليمان (مرشّح قوى 8آذار منذ عام 2007)، مضافا اليها ما صدر عن بعض اركان قوى 14 آذار من مواقف ممتعضة من خروج سليمان عن التوافقية التي انتخب على اساسها، لعلنا بعد ذلك ندرك ان الحملة التي شنها عليه وئام وهاب كانت من قبيل ما يعرف بـ "التأييد الانعكاسي"، الذي يستعمل عادة من بعض التنظيمات إمعاناً في سَتْر فرد من افرادها اذا خُشِيَ عليه من انكشاف امره، اذ تَعمَد قيادة التنظيم (المحور السوري-الايراني) إلى توجيه بعض المعروفين بالانتماء إليه (وئام وهاب) لمقاومة ذلك العنصر الذي يُراد سَتره (ميشال سليمان)، ولمهاجمة أفكاره وانتقادها بصورة لا تجرَح جوهر المذهب (المحور) الذي يُراد التبشير به وترويج مبادئه، أو لانتقاد تصرُّفاته الشخصية . وبذلك تضمن المنظَّمة توجيه الفكرتَين المتصارعتَين أو المذهبَين المتضادَّين صوريا، ضمن الخطوط المرسومة لهما، فتُمدُّ أحدهما بمقدار، ثم تُمِدُّ الآخر بمِقدار، وتُقيم بينهما تمثيليَّة الصراع بمقدار، ويجري كل ذلك وفق خطط مرسومة تحقِّق أهداف المنظمة.
هذا، وقد جرى توزيع الادوار على النحو التالي: ففي حين جُنِّد وئام وهاب وعمر كرامي ليكونا رأسَي حربة في الهجوم على سليمان، رأى الوزير محمد فنيش المنتمي الى "حزب ولاية الفقيه" ان "لا حملة على الرئيس سليمان، وهذا موقف شخص واحد واتخاذ موقف يكبر الامور". كما اعتبر الرئيس نبيه بري في 17/3/2010، عندما سئل في اي خانة يضع هذه الحملة؟ "ان هذا الموضوع يعطى اهمية اكثر مما يستحق، ويهمني ان اقول امرا فقط، انه على طاولة الحوار ليس فخامة الرئيس من طلب شطب كلمة المقاومة، انما هو من كان قد هيأ مسودة للبيان، فحرام التظلم".
وبالفعل، فقد آتت هذه المكيدة ثمارها، وذلك مع اتساع ردود الفعل على الحملة التي استهدفت الرئيس سليمان على نحو لافت، لتشمل اتجاهات سياسية مختلفة، فكانت اشبه باعادة مبايعة سليمان كرئيس توافقي بعد نحو سنتين من انحياز واضح مارسه لمصلحة قوى 8آذار، وتوجت هذه الردود في 18/3/2010، بموقف للبطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير الذي قال: "كل مرة يفتشون عن احد ليتهجموا عليه، والآن جاء دور الرئيس سليمان الذي يقوم بعمله على افضل وجه"، مؤكداً ان "علينا ان نقف الى جانبه". كما كان لافتا موقف رئيس الهيئة التنفيذية لحزب "القوات اللبنانية" الدكتور سمير جعجع، الذي رأى ان المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية "تلقى ارضية خصبة داخل قوى 8 آذار، والا لما كان متيسراً للاشخاص الذين اطلقوا هذه الدعوات ان يقوموا بذلك". وتمنى "ألا تكون الاحزاب الكبرى في 8 آذار وخصوصاً "حزب الله" وحركة "امل" تقف في مكان ما خلف هذه الدعوات وهذا ما اشك فيه"، واصفاً الدعوات بأنها "أبعد من الذين يطلقونها".
ولعل خير ما نختم به هذا التحليل للاستدلال على مدى نجاح المعارضة في ستر انحياز رئيس الجمهورية، ربما تمهيدا وافساحا للمجال امامه لاتخاذ مزيد من المواقف المنحازة، التي لن يجرؤ ربما اركان قوى 14آذار على انتقادها صراحة اذا ظهرت بعد هذه الحملة المكيدة، قول احد الصحفيين: " هل يجب أن نشكر بعض المشككين بمسيرة الرئيس ميشال سليمان الوفاقية على تصريحاتهم ومقالاتهم التي أدت الى مبايعة جديدة ومساندة وتأييد سياسته الحكيمة والمعتدلة. إن ضريبة النجاح غالية، فالرئيس سليمان نجح في نقل لبنان من بلد مقسم الى بلد موحد بتأليفه حكومة اتحاد وطني. وها هو قد جمع جميع القيادات ومن جميع المناطق والطوائف والتيارات السياسية المختلفة تحت سقف بعبدا. فهل المطلوب ان يكون طرفاً حتى يرضي فئة دون أخرى؟ وهل انتخب ليكون رئيساً لفريق دون آخر؟ طبعاً لا، فالشعب اللبناني بفئاته المختلفة قال كلمته واجمع على رئيس وفاقي تكون له كلمة الفصل عندما تشتد الأزمات. إن هذه الهجمة على الرئيس والاجماع العام عليه تؤكد المثل الشائع "إن أمه صلت له في ليلة القدر"، وهذا صحيح فهذه الأم التقية، ربّت أولادها الاربعة وعلمتهم التربية الصالحة والسلوك المستقيم واحاطتهم بشغفها وحنانها. وقد اعطت لبنان واللبنانيين هذا النموذج الصارخ، الذي طبق عليه فعلاً وقولاً "القوة الهادئة" التي لا تهزها الرياح والعواصف العابرة و"يا جبل ما يهزّك ريح" كما يقول المثل الشائع. فتحية لها بمناسبة عيد الأم لأنها انجبت قائداً لمسيرة بلاده الى الشاطئ الأمين". عبدو شامي
التعليقات (0)