مواضيع اليوم

الهتاف .. لنجيب محفوظ

 ذات صباح رجع أبو عبده الى حارته ، عرفه كثيرون رغم طلاء الأبهة ، رغم العباءة و العمامة و العصا والمركوب..يا للغرابة يا أبو عبده ،ماذا أرجعك؟ عاش فى الركن الذى كان يقيم فيه بين أسرته و تلفت حوله فى حيرة ، واتجه نحو دكان شيخ الحارة الذى كان يراقبه بامتعاض وحياه و سأله عن أهله وسأله شيخ الحارة بخشونه :

-  ما معنى هذه العودة ؟
فقال أبو عبده الذى لم يكن يتوقع استقبالا أفضل :
-        جئت لزيارة الأهل .
فقال الرجل بغلظة :
-        مات من مات ورحل من رحل هربا من كلام الناس .
ثم بعد فترة صمت مشحونة باللوم :
-        و انت أدرى بالحكاية و أصلها .
فقال أبو عبده بلهجة لم تخل من تحد :
-        ها أنا أعود يا شيخ حارتنا ، و سوف ترانى سيدا يعيش بين السادة
فقال شيخ الحارة بضيق :
-        اختر لنفسك ما يحلو ، أما أنا فلا يهمنى الا الأمن العام .
و سرى الخبر فى الحارة مثيرا أكبر قدر من الاشمئزاز .
و بأكبر سرعة ممكنة راحت خربة تتحول الى سراي لينزل به ذلك الرجل الذى غادر الحارة الى أطراف الحي و جمع ثروة ضخمة من أحط السبل وأحملها للعار حتى صار مضغة للأفواه ومرغ اسم حارته في التراب .
و سأل امام الزاوية شيخ الحارة :
-  ألم يجد فى الدنيا الواسعة مكانا لمسكنه بعيدا عن الحارة ؟
فقال شيخ الحارة :
-        إنه يؤمن بأن نقوده تستطيع أن تفعل المستحيل .
و تلهف أبو عبده مع إعداد السراي ليبدأ ممارسة سيادته .
و لكن طوال مدة العمل لم يعن أحد بالنظر اليه ،كان يشعر بالاحتقار كظله والكراهية مع أنفاسه .
و تساءل فى توجس:ترى هل أقيم لنفسي سجنا وأنا لا أدرى ؟
و نصحه شيخ الحارة قائلاً :
-  انه مشروع فاشل .
فقال بإصرار :
-  بل سوف تلمس نجاحه و تنوه مع الآخرين بأعمالي الخيرية .
فضحك شيخ الحارة رغما عنه فقال أبو عبده :
-        وسأستعين بك فى مشروعي الخيري .
فرمقه بريبه فقال :
-        أنت تعرف متبولى الأعمى ..  كنت مقترضا منه خمسة قروش حين غادرت الحارة فانصحه بأن يذكرنى بها ..
فأدرك شيخ الحاره مقصده ، لم يتحمس ولم يرفض .
وقال لإمام الزاوية :
-        اذا أراد أن يكفر عن منكره فليكفر ..
فقال الإمام :
-        ان الأعمال بالنيات وهو ذو نية سوداء دائما .
غير أن سعي شيخ الحارة باء بالإخفاق وقال لأبوعبده:
-        متبولى يرفض المطالبة بدينه القديم ..
و انزعج أبو عبده،لكنه لم ييأس،صمم على أن يجعل من واقعة رد الدين لمتبولى حادثا يسيل له لعاب الفقراء فى الحارة فيكسب جبهتهم بضربة واحدة .
وانتظر صابرا كظيما يوم السوق ،وارتدى فاخر الثياب ايمانا منه بولع أهل حارته بالمظاهر، و ذهب بقدمين ثابتتين يشق طريقه في الزحام الى حيث يقرفص عم متبولى أمام مقطفه .
قال بصوت جهير :
-        أحيى صديق العهد القديم ..
فرفع متبولى إليه عينيه الضعيفتين و تحركت شفتاه دون أن يصدر عنهما صوت ،وانتبه اليه أناس فتابعوا ما سيحدث باهتمام ودون أن يفارق الفتور وجوههم ،وهمس إمام الزاوية فى أذن شيخ الحارة:
-        ادع الله أن يمر اليوم على خير .
أما أبو عبده فقال :
-        لك دين فى عنقي وجئتك الآن لأسدده .
وأخرج من عبه رزمة أورق مالية لا ترى فى الحارة كل حين و مين ووضعها بين يدي الرجل لضيف مقطفه ، وساد صمت ثقيل ، و تركزت على الرزمة الأبصار..حتى همس شيخ الحارة فى أذن الإمام :
-  اذكر هذه اللحظة التعسة فقد تكون بدء تاريخ طويل من الفساد في حارتنا الطيبة ..
و ابتسم أبو عبده في إغراء ، و لا ترامى الزمن دون حركة تحولت الابتسامة الى توسل ، و لكن متبولى أزاح النقود بمقطفه نحو صاحبها و صاح بصوت سمعه الجميع :
-  خذ نقودك يا قذر ..
عند ذلك هتف الجميع بصوت واحد: الله أكبر..وليحيا الجدعان ....
 
 
 
 
 



التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !