مواضيع اليوم

النّقود الكرتونيّة

شيرين سباهي الطائي

2010-06-05 19:59:33

0

أتذكّرُ أنّهُ كانَ هناكَ مخبزٌ واحدٌ في حيّنا يبيعُ الخُبز ولم يكُنْ يعني للشّخص المسئول عن متابعة الزّبائن وهم يأخذونَ احتياجاتِهم أن يدفعوا قيمةَ ما أخذوا نقوداً أو ورقةَ كرتونٍ باليةٍ تُثبِتُ استحقاقَ حاملها لخمسةِ أرغفةٍ من الخُبز أو أقل أو أكثر،وكانتْ تلكَ العمليّةُ التي تتكرّرُ أمامَ عينيّ كلّما خرَجْتُ ظُهراً أبتاعُ بقيمةِ ريالين من العيش قبلَ أن يحينَ موعدُ قدومُ أبي من عمله تشغلُ بالي حتى ظننتُ بأنّ النقود نوعان أوراقٌ أحملُها وقطعةٌ من الكرتون يحرصُ على الاحتفاظ بها ذلك العجوز أو تلك الأرملة ..

بعدَ أن تأكّدتُ بأنّ هذا الإجراء الذي ينتهجُه صاحبُ المخبز ما هوَ إلا صدقةٌ جاريةٌ حرِصَ عليها وراعى فيها كثيراً من الفقراء والمعدومين الذين يسكنون في نطاقِ الخدمة الجغرافية لمخبزِه المتواضع لم أشعُرْ يوماً بأنّ في المجتمع أو في الذين أعرفُهم ـ على الأقل ـ ممّن يشتركونَ معي شراءً ومروراً على هذا المخبز مَنْ يولي الفرقَ بينَ من يملكُ نقوداً ومن يُبرِزُ البطاقة الكرتونية بالاً أو يُعطي هذه الناحية اهتماماً،فالجميعُ كانَ يصطفُّ في الطابور مبتسماً راضياً معترفاً لأخيه بالإنسانيّة والأخوة الإسلاميّة ..

نحنُ اليوم وفي عام 1431هـ وبعدَ هذا السرد التاريخي الذي مرّ على أحداثه ما يقارب الثلاثين سنة نعيشُ بينَ كمٍّ هائل لا يمكنُ عدُّه من المطاعم التي تقدّمَ أصنافاً من المأكولات تفرّقت حسبَ تفرّقنا العربي تمييزاً وتَفَنُّناً وتفرُّداً،ولا يخلو طريقٌ عام ولا شارعٌ فرعي ولا حتى ناحيةٌ أو ناصيةٌ لحيّ أو حارةٍ من مطعمٍ وأخيه وابنِ عمّه،حتى أصابتْ بعضَنا التُّخمةُ من النّظر قبلَ أن تصيبَ البعضُ الآخر نزلةٌ معويّة من سوء التّحضير أو بدائيّة الطّهي ..

يمرُّ الفقراء والمساكينُ على هذه المحلات وهم يحملونَ بطوناً خاوية ونفوساً منكسرة ولُعاباً لا يجدُ ما يعينُه على أن يسيل سوى قلّة الماء في الجسد ليصلُحَ أن يكونَ لُعاباً،ويرمُقُ أبٌ لأبناء تسعةٍ يكبرُ كلّ واحدٍ منهم الآخر بعام أو عامين فقط هذه المطاعم ويقولُ لأكبرِ أبنائه يوماً ما سيكونُ لديكَ ما تستطيعُ أن تشتري به "نفر مندي" أو "حبّة بروست كاملة" أو "شاورما عربي مكتملة" فلا تيأس ..

عائلةٌ أعرفُها تسكنُ بجانب مطعمٍ يبيعُ فطيراً يسمّى "المطبَّق" لم تعرِفْ طعمَهُ إلا بعدَ أن هدى اللهُ أحد المُحسنين وأعطى لصاحب المطعم قيمة وجبة في الأسبوع مرّتين وطلبَ منه أن يبحثَ عن مستحقّها فما كانَ منه إلا أن تذكّرَ عيونَ بناتِ هذه العائلة الصّغار وبشّرهم "بالمطبّق" يومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع لتستغلّ الأم هذه النّعمة وتصرّ على أن تصومَ ذات اليومين وتفطر على بقايا الوجبة شكراً لله ..

كنتُ آكلّ "السّمكَ" مرّة في العام فقط وفي السّفر حتى بلغتُ الحادية عشر من عمري وذلك لأنّ ظروفنا الاقتصاديّة لم تكن تسمحُ بهكذا رفاهيّة،ولم يكُنْ "السّمُكُ" يخطُرُ ببالي وإخوتي إلا حينَ نُسافرُ من المدينة إلى مكّة أو بالعكس في رحلة برّية تستغرقُ الثّمان ساعات نستريحُ خلالها في منطقة تسمى "مستورة" نستُرُ فيها نهمَنا لأكل "السّمك" بفرحةٍ لا توازيها فرحة ونشوةٍ لا يُمكنُ أن أصفها اليوم ..

يُمكِنُ في الوقت الحالي أن تقومَ الشئون الاجتماعية أو الجهات الخيريّة التي تتّصِفُ بالعناية بنفسيّات الفقراء قبلَ جيوبهم أو بطونهم أن تذكي في أصحاب المطاعم شُعلةَ عمل الخير بشيءٍ من المشاركة المجتمعية،وتفرِضَ على هؤلاء أن يتفقّدوا مجاوريهم من المعوزين والمساكين بعينِ الإحساس والمسئوليّة ويضعوا نصبَ أعينهم أن يكونَ لجارِ المطعم الفقير حقٌّ في الوجَبات وهي طازجة ببطاقات أو "كبونات" عندما يبرِزُها حاملها يُعطى ما أرادَ حبَاً وكرامةً لا مِنّةً وأذى ..

لدينا عُقدةٌ نفسيّة حتى في مسألة كالصّدقة التي حثّ عليها ديننا الحنيف ومفهوم العون والمساعدة الذي تتكاتف الأمم لتزيدَ من غرسِه في شعوبها ومجتمعاتها،وهذه العقدَة "الجنزيريّة" تتمثّلُ في أنّنا لا نصدّقُ بأنّ في بلادنا النّفطيّة من لا تعرِفُ "الهمبورجر" إلى فمه طريقاً بسبب قلّة ذاتِ يده،ومن لم يُجرّب مذاقَ "الجمبري" لأنّه لا يملكُ ثمَنَ قضمةٍ منه،بل ومن لم تُتَحْ لهُ فُرصةٌ مادّية ليتلذّذَ بأكل "الكباب" أو قرمشة "البطاطا" المقليّة،وأنّنا أيضاً نُفضّلُ دوماً إخراجَ بضع "ريالات" على مضضٍ لسائلةٍ عندَ باب مسجد أو شحّاذٍ عند إشارة مرور ونظنّ في هذا الفعل تكافلاً اجتماعيّاً بارعاً ..

مُصرُّونَ نحنُ على أن يظلّ الفقيرُ فقيراً وهو يقفُ معنا في صفوف مساجدنا،ويظلُّ المسكينُ مسكيناً وهو يشتري بنصفِ ريالٍ خُبزاً من "سوبرماركت" الحي،ويبقى المُحتاجُ مُحتاجاً حتى ولو أعطيناهُ مئاتُ الآلاف من الريالات،بسببٍ بسيط هوَ أنّ صاحبَ الحاجة لابدّ أن يُثبِتَ فاقَتَه بعبوس وجهه وشاهدي عدْلٍ وإفادة من الجيران واستكانةٍ لإجراءات فيها الكثيرُ من التشهير والإهانة لا يمكنُ لمن يريدُ هذا المال الممزوج بالذّل أن يحصلَ عليه دونَ أن يتكبّدَ غطرسةَ مجتمعهِ هذه ..

نحنُ جميعاً ندفعُ ضريبة الغازات والروائح المضرّة التي تبثُّها مصانعنا العربيّة "البتروكيماوية" من صدورنا وأجهزتنا التنفسيّة دونَ أن تنظرَ إلينا تلك الشركات العملاقة بعين الخجل وترعى جانباً من جوانب الصحّة أو التعليم أو التطوير في بلادنا،فما الضّررُ لو دفَعَ أصحابُ المطاعمَ ضريبة الروائح المنبثقة من طَهيِهم لطعامٍ يشمُّ جيرانهم رائحته مرغمينَ وهم لا يستطيعونَ شراءه أو حتى الحلمَ به ..

أفهمُ شيئاً واحداً أنّ التكافُل الاجتماعي لا يعني أنّ الناس فريقين فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير،بل يعني بأنّ الحياةَ مكفولةٌ بجميع أصنافها للجميع الأغنياء والفقراء على حدٍّ سواء،والفئة التي تملكُ المال تسعى لأن ترقى بمن هو دونها ليكونَ مثلها أدباً وتقديراً واحتراماً للإنسانية لا تعالياً وإشهاراً وإعلاناً للصدقة ليُخبرَ الحاضرُ الغائبَ كما يفعلُ من يُنفِقونَ وهم كارهون ..

وعودةً للنقود الكرتونيّة التي كانَ يحملُها فقراءُ زمنٍ عِشتُ قليلاً منه أجدُ أولئك الرّعاةُ لتبسيطِ الفوارق المظهريّة بين الغنيّ والفقير وإزالةِ الحواجز الفولاذيّة بينَ من يملِكُ ومن لا يجدُ قوتَ يومه أجِدُهم قد غابوا بموتِهم وغُيَّبوا بأنْ خلَفَ من بعدِهمْ خَلْفٌ يسرُّهم أن يتذكّروا بياضَ ثيابِهم نصاعةً بخطوطِ العرَقِ على قميصِ عامِلِ النّظافة،وينتبهِوا لتضخّمِ أرصدتِهم في البنوك ببضعة دراهم يلقونَها عياناً في صندوقٍ زجاجي لجمعيّة خيريّة للزواج من أرامل الشهداء ..
 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات