النوم والكتابة وغيطان العنب
احمد الشريف
من النوادر الجحوية التى ارتبطت عندي بفعل الكتابة تلك النادرة التى خلاصتها أن رئيس الحرس مر به فى منتصف الليل , وهو يدور فى الشارع كمن يبحث عن شيء فسأله عم تبحث ؟ فقال جحا : هرب نومي وأنا أبحث عنه ! النوم والكتابة مشتبكان عندي , غالبا يكون الهرب من الألأم والمناخ الرديء والظروف الصعبة بالنوم , ولكن ما العمل فى حالة عدم مجيء السيد النوم؟ يجب إذن القيام بعمل شاق كى يستطيع المرء أن ينام مع مرور الزمن وبا مصادفة عرفت أن فعل الكتابة يأتي ويعقبه النوم بعد فترة على شرط ألا يكون فعل الكتابة فى الليل , لأنه حدث أن كتبت فصة فى الليل , وما أعقبها ذلك كان أشبه بالجنون .. أنام قليلاً وفجأة أستيقظ فى الثانية او الثالثة صباحا , كى أحذف جمله او أضيف كلمة وانتهت معظم الكتابات الليلة بتمزيقها مع شروق الشمس , بعد تلك التجارب الليلة المؤرقة , غيرت توقيت الكتابة وبدأت أكتب فى النهار من الحادية عشر إلى الثالثة أو الرابعة بعد ذلك أقوم بأي عمل كا حضار الخبز والطعام من السوق وعمل القهوة والشاي والوقوف المتكرر فى مواجهة البحر , بحر أسكندرية الوسيع _ وذلك أثناء دراستى هناك _ ساعات الكتابة لا اشعر فيها بمرور الزمن , كذلك يحدث فى النوم العميق والأحلام وهذا لا يعني ان كل ساعات الكتابة , كانت المتعة بعينها , هناك أوقات كانت تنتابني فيها حالات من الضيق والعصبية , واللاجدوي , هل سبب ذلك أن الفن والفكر منذ البداية ثمنها الألأم " هولدرلين " ربما وربما أيضا بسبب الظروف الحالكة التي نمر بها فى هذه المنطقة من العالم . الكتابة فى عالمنا صارت فعلا للمقاومة ونسياناً للآلام .. اللوحة والكتاب كلاهما تجديد لمجموعة الوجود " سارتر " ليس اللوحة والكتاب فقط , بل القطعة الموسيقية والأغنية الجميلة وسائر مفردات الطبيعة .
ولدت وسط الحقول الشاسعة من غيطان العنب , فى القرية التى تدعى فليكسا , كانت منتجعا للارستقراطية الإغريقية ويقال : إن الاسم يعني ! أرض الخضرة والماء , اشتهرت القرية بغيطان العنب , ألهذا يا تري كانت منتجعاً فى الزمن القديم , برميل كبير من الخمر لا ينضب ؟ ذكر "أميلينو"فى جغرافيته قرية باسم ط philoxzenos وقال " إنها بإقليم الفيوم وإنه لم يستدل على موقع هذه القرية لأختفائها وإنى أرجح أن فيلو كسنوس هو الأسم الرومى للقرية " أبوكساه " هذه وقد حرف إلى اسمها الحالي ووردت بوكسا , من العمال الفيومية .. الميلاد كان إذن فى تلك القرية الغريبة الواقعة فى مدينة أعزب " الفيوم " ذلك المنخفض فى الصحراء الغربية يبعد عن القاهرة حوالى مائة كيلو مترا سميت بالقبطية " أيوم " أي الخزان , وقيل أن أسنها " بيوم " أي البحيرة لوجود بحيرة قارون بها و مالحة المياة , مساحتها 55 ألف فدان عمقها ما بين 12.50 متر ونصف وهى جزء من بحيرة موريس القديمة , وفيها طيور مستوطنة على مدار العام , مثل النور والخضري والحباري والزرقاوي ولقد سميت كذلك " بيوم " و" فيوم " وأضاف العرب إليها "أل " فنطقوها " الفيوم " وقد وجد بها أثارما قبل الإنسان شمال بحيرة قارون وعاشت فيها حضارات ما قبل التاريخ والحضارة الفرعونية واليونانية والرومانية والقبطية والإسلامية وعندما استولى اليونانيين على مصر أهت بطليموس الثالث بالزراعة فى الفيوم وزراعة العنب ومعاصر النبيذ فى قراها , وقد سميت الفيوم باسم زوجة بطليموس الجميلة " أرسينوي " ويقال إنه عشقهما معاً – وهناك بردية عثر عليها فى الفيوم للشاعر اليونانى " كاليماخوس " مدح فيها شعر زوجة الملك بطليموس الثالث , وأشار إلى شعرها الجميل الذي قصته عندما خرج زوجها للحرب فى أسيا . وأخذت تتعبد فى " كانوبى " أبو قير الحالية , وكانت تترقب النجوم وتتضرع إلى السماء لكى يرجع إليها زوجها سالماً وقد وضعت شعرها فى مكان أمين بعد أن قصته و لكنها لم تجده و فقال عنها كاليماخوس ؟إن الإلهة قد خطفت شعر الملكة الجميلة المخلصة , دون وعى أو بوعى فيما بعد , تسلل هذا المكان المتفرد إلى ذاكرة الكتابة , كان مع هذا المكان الذي استوطن ذاكرتي , جدتى والعم عارف , وحكايته وقصصها التى لم تنته حتى الآن فجدتى تحكى القصص بأدق التفاصيل وتصف أيضا الفعل الجنسي وتسمى الأعضاء الجنسية , ليس بالاسم العربى الفصيح ولكن بالأسماء العامية .
فى حكايات جدتى , المرأة كان لها الدور الأكبر وهى الأكثر مكرا وذكاء أو دائما معرضة للانقضاض عليها من الذكور , ليس ذكور البنى آدميين بل الحيوانات أيضا , لا أنسي تلك الحكاية التى حكتها عن امراة بيضاء جميلة مكحولة العينين , خرجت إلى السوق فرأها قرد وخطفها إلى الغابة حتى أنجب منها وفى غفله منه أخذت القارب الوحيد وهربت , كانت فى عرض البحر وقد رآها فقام من غيظة بتمزيق الولد أمامها علها تنهار لكنها استمرت فى التجديف حتى الشاطئ , العم عارف أيضا حكاء كبير عاشق للحياة والنساء و ويعتبر الأنثى سر الحياة , دائما يحدثني عن المرأة ككائن كلى القدرة " يا بنى الواحد منا له مرة واحدة أما المرة لها مية راجل " لم أفهم ساعتها ماذا يقصد و دوما كان ينسب للمرأة الحب والعطاء والغدر والخيانة والشهوة والدفء والموت , عند وفاة أمه أحتضنها من المغرب حتى الصباح وقام بغسلها بنفسه .
عم عارف اطلع على كتب السحر القديمة و حكى لى ذات مرة عن المرأة الوحيدة التى أحبها فى حياته , كان وقتها يعيش مع أمه وحيدين فى البيت الواقع على أطراف " فيلكسيا " بجوار حقول " الزيتون " كان فى تلك الليلة يقرأ فى غرفته , وفجأة وهو منكب على كتاب قديم , تحولت حروف الكتاب إلى قطع من نور والغرفة كلها استحالت قطعة من قمر , رفع رأسه فرأي امرأة بيضاء كاللبن تبزغ من الركن فى الجدار , أفلت الكتاب من يده وعندما حاول الاقتراب منها سمع صوت أمه فالتفت بسرعة لأخبارها بقدومه كى لا تدخل عليه الغرفة , وعندما رجع برأسه إلى موضع المرأة كانت قد اختفت للأبد .
فى ظل هذا المكان " الفيوم " وحكايات وقصص الجدة والعم " عارف " اقتربت بشكل جميل من تخوم الحكى والكتابة لكن المسيرة لم تكن فى حالة من الصحو والصفاء و الدائم لأني ولدت فى بيت تاجر صغير ومغامر فشل فى الاحتفاظ بما ورثة عن أبيه من أراضٍ عقارات لم تكن كثيرة غير أن الإحتفظ بها كان يعني الحياة بشكل شبه مستقر لقد حاول هذا الأب أن يتاجر كى يعوض بعض ماضيه ولكى نعيش بشكل أفضل فكانت حياتنا تتحول من النقيض إلى النقيض بشكل دائما , وذكر إنه عندما شعر أخى بألم خفيف فى عينيه و حمله إبى فى سيارة خاصة إلى القاهرة للعلاج عند د مشهور , بعد هذه الواقعة بشهور قلائل و مرض أخى هذا مع فارق صغير هذه المرة , إننا لم نكن نملك ثمن تذكرة دخول مستشفى حكومة , حدث نفس الشيء معى أثناء دراستي بالإسكندرية و كنت أخذ نقوداً كثيرة تكفى للحياة وشراء الكتب ودخول السينما والمسرح وبعد نهاية الشهر لا أجد ما أحتاجه لعودتي هكذا كانت حياتنا , حالة من التغيير المستمر و لكم تمنيت أن يكون أبى موظفا حكومياً له دخل ثابت رغم أن ما ينفق فى البيت فى أسبوع يوازي رواتب عشرة موظفين , تلك الحالة منعتني من دراسة الفلسفة التى كنت أحبها ومازلت كما أنها جعلتني دون أن أدري أحس بإنه لا توجد أشياء ثابتة وصلبة وذلك دفعني لعدم تبنى أية أفكار أو أيديولوجيات جامدة , كما أن تلك الحالة ضربت عندي فكرة القيمة الكبيرة للنقود , لقد عرفت أن النقود تأتى وتذهب , لذا لا لا داعي للصراع من أجلها وبسبب ذلك ايضاً كرهت دروس الحساب والرياضيات وأحببت التاريخ والفلسفة ومشاهدة الطبيعة والوقوف أمام مفرداتها من أشجار ونباتات وزهور وبحيرات وغيطان وحيوانات و تلك الظروف والأشياء فى حياتي دفعتني لتسلق شجرة الحياة والاندفاع نحو نهرها الفوار و لم تعد تؤثر فى كتابة الهياكل العظمية و صرت أؤمن بكتابة اللحم والدم و لم أعد استمتع سوي بالفن بالفن الذي ينبض بالحياة وصخب العالم وجلبته مع عدم إغفال المغامرات الأخرى واختلافها مع ما أحب على شرط أن تكون هذه المغامرات قوية من حيث التكنيك والعمق كى يظل بداخلي لها تقدير ما للمهارة الفنية و للزوايا المختلفة , أو لجعلي أعمق من رؤيتي للعالم . والآن لنبدأ الحكى والكتابة
التعليقات (0)