الباب الأول
تمهيد تاريخي:
1- النهضة العربية والوعي السياسي- الحضاري:
يظهر أن حملة بونابرت على مصر عام 1798م مثلت نقطة البداية لمحاولة النهوض في البلاد العربية الإسلامية، فقد مثلت الحملة شجة قوية في الوعي السكوني العربي، وبالتالي لم تأت اليقظة العربية إستجابة لحاجات أو تفاعلات داخلية وإنما كانت استجابة "للتحدي الذي فرضه الغرب على كل مستويات الإجتماعي، السياسي الإقتصادي والنفسي"
ولقد جاءت صيحة الشيخ حسن العطار تعبيرا صادقا عن ذلك، فقد قال بعدما اقترب من علماء الحملة الفرنسية وأبصر ما لديهم من علوم:"إن بلادنا لا بد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها" . ومنذ ذلك الحين بدأ العرب يتحسسون مكمن الداء ويشعرون بالهوة الحضارية التي أضحت تفصل بين ديار الإسلام والغرب.. فنشأ التفكير في هذا الإقليم أو ذاك بضرورة إصلاح ما فسد.. وترتيب ما تبعثر.. وبحث ما اندثر حتى تستعيد ديار الإسلام قوتها ونهضتها و استقلالها، وغدا البحث متركزًا في إشكالية التغيير الواجب إدخاله على نمط الحياة السياسية والفكرية والإجتماعية.
إن هذه المفارقة كانت قد تأسست على منهج مقارن يستحضر ثلاث أقطاب رئيسية وهي: "آن الأنا" الذي أصبح يعيش في ظلمات الجهل والإنحطاط.! ومقارنته "بماضي الأنا" المجيد..!؟ ثم "آن الأنا "و"آن الآخر" المتمثل أساسا في الغرب المتقدم.
ولقد تجسدت فكرة الإصلاح في جيل أول، كان أبرز من مثله رفاعة رافع بدوي الطهطاوي (1801-1873) وخير الدين التونسي (1810-1890).
كانت لرحلة زعماء هذا الجيل إلى الغرب واطلاعه المباشر على ثقافته وحضارته دور كبير في تحديد الحلول التي تقدم بها هذا الجيل للخروج من وهدة الإنحطاط و التخلف الحضاري.
أ- نقد حكم الإطلاق لدى رواد "النهضة العربية":
ولقد انصب اهتمام هذا الجيل على نقل واقتباس ما تفتقت عنه الذهنية الأوروبية في أصول الحكم والسياسية والعلوم والتقنيات الحديثة، فترجموا بعض الدساتير الغربية وخاصة دستور الثورة الفرنسية وما تنص عليه من حرية ومساواة مثلما فعل الطهطاوي في "تخليص الإبريز" وخير الدين التونسي في "أقوام المسالك" انطلاقا من إيمان هذا الجيل بضرورة إجراء تنظيمات سياسية واجتماعية تناسب التنظيمات التي نهض على أساسها الغرب، وأولى هذه التنظيمات القضاء على حكم الإطلاق وتغييره بنظام دستوري. ونشر العلم والحرية، ووجد هذا الجيل نفسه مجبرا على إعادة تأويل التراث الإسلامي بما يتيح إفساح المجال أمام دخول هذه التجديدات الحضارية المادية والعقلية.
إن هذا الجيل كان قد نقد الإستبداد السياسي بسبب طغيان "الجانب القمعي والإستبدادي في سياسة عبد الحميد" ولكن وحدة الخلافة ووقوفها في وجه الإستعمار الغربي شكل هاجسا أكثر أهمية في برامجهم، كما أن فكرة "حاكم غشوم خير من فتنة تدوم" كانت لا تزال تسيطر على الأذهان.! وهذا ما جعلهم لا يحملون حملة قوية على الإستبداد العثماني ما دامت جل الولايات العربية لا تزال بمنأى عن الإستعمار الغربي..بالإضافة إلى أن فكرة "الجامعة الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية" كان لها تأثيرها القوي في الأذهان..! فالخلافة "تجسد السلطة الزمانية كلها وهي مصدر الشرعية في المجتمع والدولة".
ب- النهضة وبروز التيار السلفي:
تتراجع الرابطة الإسلامية كشكل من أشكال ضمانات البناء السياسي القائم وتحصينه، أمام ضربات الإستعمار الغربي الموجعة وتقطيعه لأجزاء عديدة من الخلافة العثمانية وسقوط البلاد العربية الواحدة تلو الأخرى في براثن الإستعمار الغربي المباشر بدءا بالجزائر عام 1830 وتونس عام 1881 ومصر1882.. بالإضافة إلى اشتداد السياسة الإستبدادية التي سلكها السلاطين العثمانيون المتأخرون، كل هذه العوامل بدأت توقظ شعور العرب التدريجي بكيانهم الذاتي. وتبدأ الدعوات القومية في السفور بعد أن ظلت لمدة طويلة مختفية تحت لبوس العالمية الإسلامية أحيانا أو العروبة الخجلة أطوارا أخرى.إن معالجة البناء السياسي داخل فكر النهضة إن بدت في أول الأمر متجانسة فإنها ومع دخول أوروبا الإستعمارية وبداية تدميرها للخلافة العثمانية وتقطيعها للولايات العربية.. هذه المعالجة سترى العديد من التوجهات والرؤى تبشر بنهضة المجتمع و"عصر تنوير" يقتبس الضوء من الغرب تمد الجسور مع منبع "التقدم والعقل والحرية". ويبدو أن تيارا فكريا بدأ يظهر على السطح حينئذ كان قد بثه جمال الدين الأفغاني (1839-1879) وجمع من تلاميذه في الشرق الإسلامي في العصر الحديث وقد مثل حركة إسلامية هامة.ولعلّ أبرز من مثل هذا التيار محمد عبده (1849-1905) والكواكبي 1854-1902) موضوع دراستنا، ورشيد رضا اللبناني الأصل (1865-1935).. كانت هذه الحركة سلفية لأنها قامت على إعادة تأكيد حقائق الإسلام الجوهرية، وكانت إصلاحية لأنها استهدفت إحياء ما كانت تعتبره العناصر المهملة في التراث الإسلامي، غير أن عملية هذا الإحياء قد تمت – وهذا مهم جدا– تحت تأثير الفكر الليبرالي الأوروبي..! فأدت تدريجيا إلى تأويل جديد للإسلام والمفاهيم الإسلامية بغية جعلها معادلة للمبادئ الموجهة للفكر الأوروبي في ذلك الحين.!
الباب الثاني
I -النزعة النقدية لدى الكواكبي:
1-الكواكبي ونقد الإستبداد:
أ- مفهوم الإستبداد:
يستعمل الكواكبي مصطلح " الإستبداد " مرادفا لعبارة الحكم المطلق الجائر، مقابلا إياه ب"الحكم العادل" و"الحكومة الحرة المنتظمة"، مع العلم أن الإستبداد لا يطابق في اللغة معنى الظلم، فالإستبداد في اللغة هو " الإبتعاد والإنفراد" وهو هنا الإنفراد بالرأي والحكم.
يدلل الكواكبي عن مرجعيته الإسلامية في تعريف الإستبداد ، فهو حين يقرر أن المستبد يحيد عن الفطرة التي خلق عليها "فيرى نفسه كان إنسانا فصار إلاها". لا شك انه كان يستحضر قصة فرعون الواردة في القرآن والتي ادعى فيها الربوبية قائلا لبني إسرائيل : ﴿ ما علمت لكم من إله غيري﴾.
إن فكرة ادعاء الألوهية من قبل المستبد كفيلة _ حسب الكواكبي _ بأن ترشحه إلى الظلم والجبروت وإتباع هوى النفس في إدارة شؤون المجتمع حتى يغدو هواه قانون المجتمع وشريعته، ويهيمن على جميع السلطات في إدارة الحكم، وبالمقابل تعيش الأمة الواقعة تحت الإستبداد مستعبدة ذليلة ليس لها في شؤونها حل ولا عقد، وإنما هي خاضعة لحاكم مطلق، إرادته قانون، ومشيئته نظام يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد.!
كما يلفت انتباهنا في هذا التعريف لمفهوم الإستبداد طغيان بعض المصطلحات الواردة في كتاب "الفياري" الذي كنا قد أشرنا إليه سابقا.. فقد عرّف هذا الكاتب الطغاة قائلا:"كل الذين توسلوا بالقوة أو الحيلة..إلى القبض التام على أطراف الحكم ويعتقدون أنهم فوق القانون، أو هم كذلك.."
لا يتكلم الكواكبي عن أمور خيالية بل ينطلق في وصفه للحكم الإستبدادي المطلق من معاينته الشخصية لحكومة عبد الحميد ذلك الطاغية الجبار، فقد "فرض على رعيته حكما فرديا قاسيا ازدادت حدته يوما بعد يوم واستهدف كافة طوائفها من عرب ويونان وأرمن وغيرهم".
كما يدلل الكواكبي في "طبائع الإستبداد" على تمكنه واستيعابه للفكر السياسي الذي مهد للثورة الفرنسية عام (1789) كنظرية التعاقد الاجتماعي لدى "لوك" وروسو" وأصناف الأنظمة السياسية وخصائصها كما جاء في كتاب "روح الشرائع" "لمنتسكيو"... فهو قد شدد على ضرورة تقيد الحكومة العادلة بالقوانين التي يشترك الشعب في وضعها عن طريق ممثليه، وتبعا لذلك يرى أن " الإستبداد" هو صفة للحكومة التي يرأسها مستبد ولا توجد بينها وبين الأمة رابطة معينة معلومة مصونة بقانون نافذ الحكم". فلم يعد هناك مجال لأن يدعي إنسان أنه يحكم باسم الله فلا حاجة له بقوانين يتواطأ عليها البشر، بل أصبح إيجاد قانون يرضى عنه الجميع لتسيير دواليب الدولة أمرا مفروغا منه كي لا تسقط الحكومة في مستنقع الإستبداد الآسن؛ و بناء على ذلك تصبح اشد أنواع الحكومات إستبدادا واستهتارا بحق الفرد و المجموعة هي "حكومة الفرد المطلق ‘الوارث للعرش؛القائد للجيش؛الحائز على سلطة دينية "كما هو شأن الأتراك العثمانيين و على رأسهم السلطان عبد الحميد.
ثم يبحث الكواكبي عن فلسفة يقوم عليها الحكم الإستبدادي الجائر.. فيجد أن هذه الفلسفة ترتكز بالأساس على نظرية احتقارية للإنسان وتقييم سلبي له واتخاذه وسيلة لا غاية في حدّ ذاته. بالإضافة إلى اعتباره قاصرا و عاجزا عن المساهمة في إدارة شؤونه بنفسه..! لقد عبر عن ذلك تعبيرا صريحا توفيق باشا خديوي مصر في حواره مع الأفغاني ؛ فقد قال ما معناه :"إنني أحب كل خير للمصريين؛ و يسرني أن أرى بلادي في أعلى درجات الرقي و الفلاح ؛ و لكن مع الأسف إن أكثر الشعب خامل لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقونه من الدروس المهيجة...
إن كل من يقرأ "طبائع الإستبداد" يلفت انتباهه منذ أول وهلة نقمة الكواكبي الشديدة على الإستبداد ومحاربته لجميع مظاهره في أيّ موقف كان، واعتباره مصدر كافة الشرور والأوبئة التي تصيب المجتمعات البشرية، مفسرا لثنائية التقدم /التأخر طبقا لطبيعة المؤسسة السياسية، لأن الجهاز السياسي في اعتباره هو التشخيص المؤسسي لحالة المجتمع وبالتالي فهو التعبيرة الصادقة للواقع وتشكل من تشكلاته، فإذا ما كان المجتمع يشكو من الضعف والإنحطاط و التخلف..‘ فلا شك أن هناك خللا في الجهاز السياسي، وهذا الخلل يتمثل في الإستبداد والإنفراد بالحكم..! لقد تميز أسلوب الكواكبي بالحماس الفياض والصدق والوضوح والدّقة المتناهية رغم صعوبة الظرف الذي كتب فيه مؤلف "الطبائع" وقد قلب موضوعه عن ظهر بطن رغم وعورته، ولا يدانيه في عداء الإستبداد، أحد سوى الكاتب الإيطالي "فكتور الفياري" الذي كان يمجد الحرية باعتبارها أشرف من الحياة واعدا بأن روحه الحرة "لن تجد سلاما أو راحة" حتى يكتب صفحات "قاسية لهدم الطغاة" وقد قال في معرض حديثه عن الإستبداد:"لا، ولن يكون نصيب كلامي أن تبدده الرياح إذا ولد رجال صادقون بعدنا يؤمنون بأن الحرية لا غنى عنها للحياة". وعلى غراره كتب الكواكبي يقول في بداية كتابه "الطبائع" :"كلمات حق وصيحة في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح قد تذهب غدا بالأوتاد".. صحيح أن جلّ المصلحين من جيل الكواكبي كانوا قد انتقدوا الطغيان و الإستبداد ولكنهم لم يكونوا بمثل وضوح الكواكبي في حملته العنيفة ضدّ كل مظهر يشتم منه رائحة الإستبداد ، بالإضافة إلى أنه لم يهادن الإستبداد يوما واحدا كما فعل الأفغاني أو رشيد رضا. فالأفغاني مثلا لا ينكر أن الحاكم المستبد، يستطيع إذا حسنت نواياه، أن يحقق الكثير من الخير بسرعة، لكن خطر الحكم الإستبدادي في رأيه يتوقف على أخلاق الحاكم، يقول الأفغاني في هذا الصدد:"إن كان حاكم الأمة عالما حازما أصيل الرأي... ساس الأمة بسياسة العدل، ورفع فيها منار العلم.. وإن كان حاكمها جاهلا سيء الطبع.. أسقط الأمة بتصرفه إلى مهاوي الخسران" . أما رشيد رضا تلميذ الأفغاني فقد بقي مهادنا لحكم عبد الحميد بل ومدافعا عن سياسته، داعيا أن يكون الإصلاح من قبل "السلطان كخليفة وفق مشورة مجلس علماء" . ولم ينقلب رشيد رضا على سياسة عبد الحميد الظالمة إلاّ بعد خلعه عام 1908 من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" _ يقول رشيد رضا :" فهذا عبد الحميد قد خان، وأعوانه قد بغوا في الأرض وتركوا السنة والفرض وعطلوا الشريعة والقوانين واستبدوا لجميع العثمانيين وجمعوا القناطير المقنطرة من المال.. فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب" وقال محمد عبده- لرشيد رضا في عام 1897 مبرزا موقفه من الأتراك:"إن العرب إذا حاولوا الإنفصال عن السلطنة، فمن الممكن أن تتدخل أوروبا وتخضعهم وتخضع الأتراك معهم، فالسلطة العثمانية كانت، مع كل نقائصها الشيء الوحيد الباقي من استقلال الأمة السياسي، فإذا اضمحلت، خسر المسلمون كل شيء وغدوا بلا قوة كاليهود". .. أردنا من عرض هذه الآراء لبعض معاصري الكواكبي أن نثبت حقيقة: وهي أن الكواكبي لم يكن ينقد الإستبداد التركي قصد إصلاح السلاطين العثمانيين وإرجاعهم إلى جادة الصواب، ولم تكن تهمه وحدة الخلافة العثمانية بقدر ما كان يهمه خير العرب ودفعهم نحو التقدم الحضاري وتجنيبهم ويلات الإستعمار الغربي الذي أخذ يبسط كلاكله على البلاد العربية ويمهد لاستغلالها سياسيا واقتصاديا، فهو لا يكل عن تبيان أن الأتراك هم بناة مملكة سياسية على أنقاض سلطة العرب باسم الدين..! فقد سبق لبعض سلاطينهم مثل السلطان سليم الفاتح (1512-1520) قتل آلاف العرب في المشرق بينما كان الأسبان يذبحونهم في المغرب ليخلص الملك إليه وإلى ذريته دونهم..! لقد كان الشغل الشاغل لدعاة الحركة السلفية الحفاظ على وحدة الخلافة حتى تستطيع مواجهة الإستعمار الغربي، ففكرة الوحدة الإسلامية أو "الجامعة الإسلامية" كانت طموح البناء السياسي، ومن بداية اليقظة العربية، أما الكواكبي فقد أدرك منذ البداية طوباوية هذه الفكرة في زمن أصبح فيه الغرب يملك كافة وسائل القوة والسيطرة، كما أدرك أن حالة التشتت التي صارت إليها ديار الإسلام لا يمكن تجاوزها بخطاب حالـم ينظر للعالمـية الإسلامية كما كان يفعل الأفغاني وعبده..! فأراد انطلاقا من هذه القناعة أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، والإنقاذ لا يتأتى إلا بانفصال العرب عن الأتراك، وسحب الشرعية الإسلامية عنهم في امتلاك أمور المسلمين، فالعرب أصبحوا يمثلون القوة "البديلة الوحيدة" القادرة على تعويض القوة العثمانية التي هي في طريق الأفول والإضمحلال. فعن طريقهم يأتي الإحياء ووحدة الدين. ويعتقد الكواكبي أن العرب من طبيعتهم التأقلم مع المدنية الجديدة، والتاريخ يشهد_ حسب رأيه _ على كفاءة العرب إذا ما هم أمسكوا بدواليب الحكم وكونوا لهم خلافة على طراز حكومة النبي العربي وخلفائه الراشدين. إن هذه الفكرة القائلة بأن آل عثمان ليسوا خلفاء شرعيين وأن الخلافة من حق العرب، فيجب أن تعود إليهم كانت تمثل أولى مظاهر الفكرة القومية عند العرب المسلمين. ولعل هذه الرغبة في الإنفصال عن الأتراك كانت تلتقي مع رغبة الإستعمار الغربي في القضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت تمثل لهم عقبة أمام ابتلاع كافة البلاد العربية. وهو ما تم لهم فعلا ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين.
ب) أسباب الإستبداد:
-1الخوف:
سبق وبينا كيف أن الكواكبي يرى في الإستبداد انحرافًا بالطبيعة البشرية و الفطرة الإنسانية عن مسارها الصحيح، لأن فيه ادعاء للربوبية من قبل الإنسان واستعلاء في الأرض بغير حق، يقابله خضوع الرعية واستسلامها للظلم والتعسف الواقع عليها من قبل المستبد، فهو يعني في نهاية المطاف سلب الذات لدى العبد/ الرعية، وسلب الغير لدى المستبد، فما سبب كل ذلك؟ يجيب الكواكبي: إنه الخوف فهو السبب المباشر والركيزة التي يعتمدها الإستبداد في أي مجتمع من المجتمعات البشرية التي ترتكس تبعا لذلك في مستنقع التخلف الحضاري والإنحطاط المدني. لعل الكواكبي قد استلهم كتابات بعض المتنورين الغربيين في هذا المجال أيضا: فقد سبق "لمنتسكيو" (1748-1803) وهو بصدد استعراض أنواع الحكومات أن قال : إن الفضيلة روح الديمقراطية والأنفة روح الملكية والخوف روح الإستبداد. أما "الفياري" فكان أكثر وضوحا حين قال بعد تحليل معمق لظاهرة الإستبداد:"...من هنا، يتبين لنا أن الخوف حقيقة هو ، الركيزة، والسبب والوسيلة لكل أنواع الإستبداد..: « De la, il prouve que la peur est véritablement, la base, la cause et le moyen de toute tyrannie ».."
إن الخوف في حقيقته مظهر من مظاهر غريزة حب البقاء لدى الإنسان، فكلما تعرض هذا الأخير إلى خطر من شأنه أن يهدد حياته أو يعرضها لسوء أو مضرة إلاّ وغشيه الخوف وانتابته وساوس الرهبة، فالخوف في أصله شيء فطري، إلاّ أنه يتحول في ظل الإستبداد السياسي إلى عقدة ومرض لا ينجو منه إلا القليلون.. لقد عبر الكواكبي بذلك عن الجو الإرهابي الذي كان يحياه المسلمون تحت سلطة آل عثمان، بل لعله كان يصف في حقيقة الأمر تجربته الشخصية وهو الذي قضى معظم حياته مطاردا من قبل السلطات العثمانية.
يحرص المستبد وأعوانه على نشر الرعب والخوف بين أفراد الرعية لأنّهم يعلمون يقينا أن الخوف إذا ما استبد بالنفوس يجعل قابليتها للاستسلام مؤكدة، وسيرها في ركب الإستبداد محتمة.
لقد أبدع الكواكبي إبداعا ظاهرا في وصف الإستبداد ونفسية المستبدين ممهدا بذلك للمدارس السيكولوجية الحديثة.. فهو يرى أن الخوف إذا انتشر بين الناس يولد فيهم الغباوة التي "تملأ القلوب رعبا من لاشيء و تفعم الرؤوس تشويشا وسخافة وفساد الرأي وضياع الحزم وفقد الثقة بالنفس وترك الإرادة للغير".
وهكذا تصبح نفسية المستبد نفسية محطمة، فيسهل انقياده وينحط إدراكه، تعوزه الفكرة وينقصه الحزم والإقدام، ويعيش مرتبكا مذبذبا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، تضيق عليه الدنيا على سعتها، فيصبح كأنما يصعد في السماء، فيتشبث بكل عتيق، ويقلد في كل فكر وعمل، ويفقد المقدرة على التفاعل البناء مع المجتمع الذي يعيش فيه، فيتقوقع على ذاته، ويصبح إنسانا هروبيا من واقعه الحياتي، مستكينا.. فيعجز ضرورة عن مواجهة مشكلات الحياة ومتطلباتها المختلفة، ويتيه في طريق جارفة من الأوهام والسخافات التي تحد من حيويته وتقف في طريق نشاطه كالصخرة الصلدة التي تعطل أهدافه في الحياة، وتختلط عليه السبل وتدلهم الخطوب، فلا يعرف ماذا يريد، أو لماذا يحيى. وإذا عمل فيكون عمله بدون نشاط ولا اتفاق "فيفشل حتما" فيغضب على ما يسميه حظا أو طالعا أو قدرا "ويصبح يسلي نفسه بالسعادة الأخروية" بعدما فشل في نيل حظه من الدنيا ولعل هذا ما ذهب إليه ماركس حين قال " الدين أفيون الشعوب"(أكيد أن ماركس يقصد مفاهيم الدين التي يكرسها رجال السلاطين المستبدين ) وهو ما يدل على أن الكواكبي كان مطلعا على المدرسة الماركسية التي كانت تشن آنذاك حربا ضروسا على كل ما من شأنه أن يصرف الإنسان عن نيل حقه المغتصب من قبل الرأسماليين و المستكبرين في الأرض ولو كان ذلك باسم الدين أو صكوك الغفران الكنسية..! فماذا يحدث لنا أو بماذا نصاب لو فحصنا واقعنا الحضاري/ السياسي اليوم على ضوء هذا التحليل المعمق لنفسية الواقعين تحت هيمنة الإستبداد السياسي !!؟
ثم يضيف كاتبنا عنصرا آخر هاما ورئيسيا قلما ينتبه إليه الدارس للإستبداد والمتمثل في كون المستبد وأعوانه يعانون هم بدورهم من عقدة الخوف التي تبسط نفوذها على كافة أفراد المجتمع..! فتصبح العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكوم علاقة حذر وخشية، علاقة توتر وقلق، لكن تختلف أسباب الخوف لدى الطرفين، إذ تخشى الرعية.. المستبد خوفا من مكره وجبروته وظلمه، أما المستبد فيخشى الرعية لأنه يعلم أنه خائن مغتصب، وأنه لم يحفظ الأمانة التي أوكلت إليه أو اغتصبها غصبا، ولم يقم بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم – مطمح كل النفوس السوية -... بل احتكر السلطة واستولى على خيرات البلاد، وأطلق أيدي أعوانه في النهب والسرقة وترويع الناس وتكميم الأفواه، وإذلال الضعفاء وتعذيبهم وتقتيلهم بغير حساب، وإهلاك الحرث والنسل...! وهكذا يتميز خوف المستبد عن خوف الرعية في أسبابه وجذوره لأن خوفه ينشأ عن علم "من انتقام بحق" أما خوفهم فهو نتيجة الجهل و"توهم التخاذل".
فهل كان الكواكبي يلمح بذلك إلى المجازر الرهيبة التي أقامها السلطان عبد الحميد لأعداء إستبداده؟؟!
لا شك أن للواقع التاريخي دخل كبير في الصور التي قدمها الكواكبي لكنه يبقى مفتقدا للدلالة الملموسة المقنعة، وهو أسلوب عودنا عليه الكواكبي على أية حال.
وهكذا لو بحثنا عن عقيدة لمجتمع الإستبداد لقلنا دون تردد إنه الخوف، فعم ينشأ الخوف؟
2- الجهـل:
لم يتوقف تساؤل الكواكبي عن السبب المباشر للإستبداد فقط، بل أراد أن يغوص أكثر في الموضوع ويعرف سببا مقنعا للخوف الناشئ عنه الإستبداد، لأنه يؤمن أن لكل علة معلولا وأن الكون يخضع لقوانين ونواميس محددة و ثابتة، فلكل العوالم قوانينها المخصوصة" فكما للعالم المادي قوانينه فإن للإنسان و الحيوان قوانينهما أيضا فليس " في الكون شيء غير تابع للنظام حتى فلتات الطبيعة والصدف..: هي مسببات لأسباب نادرة".
يجيب الكواكبي إجابة قاطعة حاسمة شان المعلم في دغمائيته أن الخوف "ناشئ عن الجهل" دون شك، فلولا الجهل لما استبد بالإنسان الخوف وبالتالي لما كان هناك إستبداد مطلقا.
إن الجهل بحقائق الموجودات يجعلها تتضخم في ذهن الإنسان فتبسط سلطانها عليه و تكتسب حجما اكبر بكثير من حجمها الحقيقي..! : لم يعبد الإنسان البدائي الشمس والقمر و النجوم.. وبعض أنواع الحيوانات.. إلا لأنه يجهل تركيبة هذه العوالم والكائنات وحقيقتها، فلو عرفها حق المعرفة فهل كان سيعبدها أو يقدسها أو يقدم لها القرابين؟!
وكذلك الإنسان الذي يعيش في ظل الإستبداد، لو كان متنورا بالعلم والمعرفة، لما خاف المستبد وأعوانه فالخوف الناشئ عن الجهل هو الذي مكن الإستبداد من رقاب الناس وحمى دولة الظالمين من الإنقراض.
لا يشك أحد في كون الكواكبي كان مستحضرا فلسفة الأنوار وهو يقرر هذه الآراء، فلقد حاصر الفرنسيون الذين فعلت المعرفة التنويرية فعلها فيهم وغيرت فكرهم ونظرتهم للكون والإنسان والمجتمع- حاصروا- في 14 جويلية1788 حصن "الباستيل" رمز الطغيان والجبروت، وتسلقوا أسواره العالية وسط دوي المدافع وفي جو حماسي فياض، وقتلوا من كانوا يحرسونه، وبفضل هذه الثورة تحولت فرنسا من عهد الإقطاع والإستبداد واستفراد أقلية بالثروة الوطنية إلى عهد الحرية والمدنية الحديثة، فانتصارات أوروبا إنما تحققت بفضل المعرفة وتطبيقها الصحيح وأن ضعف الدولة الإسلامية سببه راجع إلى الجهل والإستبداد.."رأس كل شرّ" حسب تعبير الكواكبي.
إن نشر العلم والتحرر العقلي و الفكري من شانه أن يقضي على الإنحطاط واحتقار رجال العلم وتسليم أمور الدين إلى الجهلة والمنافقين و المتاجرين بالدين!؟.
لقد أدرك الكواكبي كما أدرك معاصروه من"الرواد المصلحين" كيف أصبح العقل و التحرر الفكري هو جوهر الحضارة الإنسانية وأن عليه يتوقف" تجديد الدين" والسير قدما بالمعرفة الإنسانية لتحقيق النهضة والرقي.
ألم يقل جمال الدين الأفغاني :"إن جهل الشرقيين أدى إلى انحطاطهم بقدر ما أن العلم ساعد الغربيين على السيطرة عليهم، وما كان بقدرة الغرب أن يقوم بالفتوحات التي قام بها بدون معارفه.."
ومن قبله أشاد فرنسيس بن فتح الله مراش (1836-1873) - وهو من مدينة حلب التي ولد بها الكواكبي- بدور العلم في توعية الشعوب ورفضها الظلم والإستبداد، فبفضل طلاب العلم ضاء عالم العقل وتمزقت سجون الظلام وانقلبت ممالك الأباطيل وتشيدت عروش الحقائق والهدى وانحطت العبودية في حضيض العدم وارتفعت الحرية على أوج الوجود...
لقد طبعت المبالغة في تقدير دور العلم و دوره الحاسم في القضاء على الإستبداد والإنحطاط وتحقيق التقدم، فكر تلك الحقبة كله بطابعها. حتى كتب صلاح الدين ألقاسمي قائلا:" إن زعماء الإصلاح اليوم احد رجلين، رجل لا يألو جهدا في الدعوة إلى العلم لاعتقاده أن الأمم لا تستتب لها عوامل النهوض ولا يمكن أن تقوى في معترك الحياة بإزاء الأمم المتقدمة وقوى مدنيتها الحاضرة، إلا إذا عم بين طبقاتها العلم... ورجل لا يفتر عن جذب أفئدة الأمم إلى الميل إلى العلوم الإجتماعية وأخذ النفوس البشرية بأهدابها".
على ضوء فكر النهضة يقرر الكواكبي أن الرعية التي تتخبط في ظلام الجهل هي التي يقع عليها الضغط والإعتساف والإستعمار، فتستعبد وينكل بأفرادها. وتنتهب خيراتها، ويخرب حرثها ونسلها، لأنها وهي تعيش في كلاكل الجهل والعمى تفتقد أية حصانة ضد الإستعباد والإستغلال، فتتحمل الإساءات من المستبد وزبانيته بذلة واستسلام.! لهذا تخيف فكرة تنور الرعية بالعلم.. المستبد وتملأ كيانه فرقا وخشية : " فليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم" "بل يسعى جهده في إضعاف نور العلم ومحاربة رجالاته "لأنه سلطان" أقوى من سلطانه.
وهكذا يصبح كتاب "الطبائع" في قسم كبير منه بمثابة "السيرة الذاتية" لحياة الكواكبي المليئة بالصراع ضد الإستبداد العثماني، بالإضافة إلى كونه صدى لجل المدارس الفكرية التي عاصرته، وقد اضطر فيه الكواكبي _ في غالب الأحيان _ إلى أن يسلك نهج الإطلاق والغموض تحسبا من اضطهاد العثمانيين، فكان يطيل الإستشهاد من التاريخ الأوروبي وهو يقصد تسليط الأضواء على مظالم عاصرها بل وكان من ضحاياها.!
ثم يحدد الكواكبي مفهوم العلم مبرزا دوره في محاصرة الظلم بكلمات بليغة فيقول: العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير فاضحا للشر، يولد في النفوس حرارة، وفي الرؤوس شهامة."
إن العلماء بما وهبهم الله من حكمة وسداد في الرأي وسلطة على قلوب الناس وعقولهم، يصبحون أقدر الناس على إرهاب المستبد وتنغيص حياته.. لذلك فهو يكرههم.. ويكيد لهم‘ و يسعى جاهدا لأن يشوه سمعتهم حتى يجد مبررا للرمي بهم في غياهب السجون..! و إن كان لا يعدم وسيلة لنفيهم و التنكيل بهم..! ولقد جاء في الأثر:"إن العلماء ورثة الأنبياء".. فحيازة الفضل والتكرمة في هذا الإرث النبوي، إنما هو منوط بتقفي سيرة الأنبياء في الجهاد الدائب لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، والتأسي بهم في العمل على إشاعة العدل ومطاردة الظلم، والجري على سننهم القويم في تحقيق الكرامة الإنسانية، رفعا للجهل، وتحريرا من العبودية لغير الله، وهذا ما يخيف المستبدين من العلماء ويجعل أفئدتهم هواء ترتجف من صولة العلم، "كأن أجسامهم من بارود والعلم نار".
قد يسمح المستبد بوجود بعض أنواع العلوم التي لا تهدد إستبداده في شيء، بل هناك علوم يسعى المستبد نفسه إلى نشرها وتشجيع أهلها وتقريبهم وحتى مكافأتهم مثل "علوم اللغة والعلوم الدينية المتعلقة بالمعاد"..، فمثل هذه العلوم إذا أولت وحرفت وهو ما يقوم به عادة "العلماء المتعممون"(علماء السوء)، من رجال المستبد، فإنها لا تقرب من الواقع شيئا، وتقدم المفاهيم المغلوطة التي تكرس واقع الإستبداد وتديمه وتصوره على أنه " قضاء من السماء فلا مرد له بغير الصبر والرضا "!؟. أما العلوم التي تساعد على النهضة والتحرر، وتنير العقول، وتجعل الفرد محيطا إحاطة شاملة، بمشكلات واقعه، وتساعده على تفهم قواعد الإصلاح وأسسه، وتعرفه بحقوقه وبكيفية المطالبة بها، وتملأ النفس عزة وشموخا وبعبارة الكواكبي تلك العلوم التي "تمزق غيوم الأوهام التي تمطر المخاوف" فترتعد فرائص المستبد منها ويجند لها كل الوسائل كي لا ترى النور ولا تسمع بها رعيته أبدا إلا بصورة مشوهة أو منقوصة.
فإدارة المستبد "تسعى جهدها في إطفاء نور العلم" وتفريغه من محتواه والتنكيل برجالاته، وإلهاء الناس بتوافه الأمور.
لقد نجحت الإدارة التركية التي يحاربها الكواكبي آنذاك في تحقيق هذا الغرض، وهو ما أقلق الكواكبي وأقض مضجعه، فقد أجمعت جل المصادر التاريخية التي وصفت تلك الحقبة الزمنية التي عاش فيها الكواكبي على أن درجة التخلف والإنحطاط والجهل قد بلغت النهايات القصوى، ولم يعد هناك علماء ومفكرون إلاّ قليلون، وقلّت الرغبة في البحث والتنقيب عن الحقائق، لأن الدولة لا تشجعها، فليس إلاّ ترديد لبعض الكتب الفقهية والنحوية والصرفية ونحوها، وقد زار السائح الفرنسي "ميسيو فولني": « Volney » مصر وبلاد المشرق العربي، وخاصة الشام .. ثم كتب رحلته وضمنها وصفا للحالة الفكرية والعلمية في هذه البلاد فقال:"إن الجهل في هذه البلاد عام.. شامل، مثلها في ذلك مثل سائر البلاد التركية، يشمل الجهل كل طبقاتها، ويتجلى في كل جوانبها الثقافية، من أدب وعلم وفن..."
كما سادت الخرافات، وانتشرت الأوهام وأصبح التصوف ألعابا بهلوانية.. بسبب استعلاء الدراويش وسيطرتهم على حياة الناس، مما أضعف من قوة الجوانب العقلية في عالم الفكر، ذلك لأن الفلسفة التي غرستها الفرق الصوفية في أعماق القلوب والعقل كانت سلبية جبرية تدفع إلى الزهد والإنقطاع، والإنصراف عن العمل والبناء وقوامها الترغيب في الفقر والمسكنة..!!
والحاصل أن السر كل السر في بقاء الإستبداد وتمكنه من النفوس، هو الخوف نتيجة الجهل، وبمجرد انتشار المعرفة الصحيحة بين الأفراد والجماعات.. تتمزق غيوم الخوف وتنقرض دولة الإستبداد بانقراضه.
التعليقات (0)