العرب الأسبوعي –الصفحات الثقافية-مقال إبداعي.
النهر و الينابيع
البشيرعبيد -
سرب من الحمام يعود إلى حيفا و الفتى يكتب السطر الأخير من رسالته المستعجلة للفتاة العاشقة للكتب و الفساتين. لا مفر من التقاء الجسد و الروح، و إخصاب الأبدان المترهلة و المشاعر المتكلسة بفعل طقوس الحداثة. من لا يعرف بهجة السفر، هذا الأكسير الباعث في النفس حب الرحيل من مكان إلى آخر، من مدينة نائمة حذو الصقيع إلى ضاحية تترقب مجيء السنونو. من لا مبالاة الثلج المذاب بأشعة الشمس إلى ملهاة الخرائط الباحثة عن سلام غائب. لا بد من عبور المسافات و حمل الحقائب و الانتقال من مطار إلى مطار و من تلال إلى تلال و من ضفاف إلى ضفاف. خذ جسدك وامضي إلى ما لا تريدك السيقان أن تمضي. لا مفر من ترك هذا المكان حيث الغمام يبسط جناحيه و الطيور لا تكف عن التحليق و الشحاذين المتعبين ينتظرون المطر فيفرون بأجسادهم العارية نحو الجدران المهدمة و السراب المبعثر في الطرقات. ينامون في الصقيع، و يأكلون فتات الموائد.لاأحد يسأل عنهم عدا السحاب الخريفي و القطط الخارجة من بيوت الترف. تراني طيور النوارس ولدا لا يجامل و طفلا لا يعادي و يمنحني شجر السنديان الهدوء المفقود في المدائن و الصمت الساكن في المقابر. سلام على الموتى و هم يعبثون بالزمن و يسخرون من أموات في الشوارع و يدخنون السجائر و يسمعون الموسيقى و يقرؤون الكتب و الجرائد و إن سألت أحدهم عن معنى السفر، يجيبك فورا:الهروب من زمن الهشاشة إلى طقوس البهجة الفائقة و الدهشة الرائقة، يمرون سريعا قرب حاناتنا و الحدائق، يضعون معاطفهم على الأرائك، و يذهلون لمرأى انقطاع أصوات الجداول و زقزقات الطيور الباحثة عن مدن لا ضوضاء فيها و لا رماد. هل رأيت مرة طفلا يرفع اللافتات في وجه الرياح و يكتب سطورا أنيقة و يرسم سطورا رشيقة على الجدران:لماذا كلما نامت العصافير على أسلاك الكهرباء ترشق بالحجارة، و كلما نامت على شجر الحدائق ترشق بالكلام ، طالما هذا السحاب قابع في زوايا الروح و منفتح على جسد البهاء، ففي المدينة متسع للفرح و الفيافي فضاء الاحتجاج و الانتباه. ماذا لو كتبت يداي ما أعلنته الشفاه من عشق الأصابع للحبر و الورق و الدلالات. ماذا لو حملنا أجسادنا و اتجهنا صوب المدن التي لا تتنكر لأحلام أولادها. كلما سخر العابرون لأزقة الذاكرة من فتيان الضواحي أمطرتنا العواصف بوابل من الكلام الفصيح. لا ترمي بحقائبك على رصيف الحقائق. وحده الصمت يكتب ملحمة لخلود الحجر، أليست حجارة حيفا هي التي أربكت بيض الشمال فسارعوا بغلق النوافذ و الأبواب، مخافة أن يتسرب إليهم فتيان لا يهدأ لهم بال إلا إذا خطت أصابعهم اسم الوطن على توابيت الغزاة. الصورة الآن واضحة. حدقة العين تبصر جيدا ما لا تراه بعض العيون لا شك أن وضوح الفصل الأول من المسرحية يغري بإتمام الفرجة. من قال أن الممثلين المحترفين لا يجيدون اللغة . الأضواء خافتة و الأصوات باهتة و الحركات على درجة قصوى من الحبكة و هذا ما يجعل المشاهد يتابع التفاصيل بلا ملل أو قلق. تجلس في المقعد الأول أو الأخير، يمينا أو يسارا، تدهشك العلاقة ما بين التسكع و الخيال.."الهروب" من البحر و القرب من الصمت، و الفتاة التي جلست أمامك تعانقك و تدعوك لشرب فنجان شاي على حسابها و لا ترجو منك سوى اللحاق بنزقها اللاهث وراء الغريب من المشاعر و القراءات و إن لم تعرف بعد اسمها و نظرتها للأشياء و الدنيا. انتهى نهار اليوم و لم يبقى من هذا المساء غير دقائق للنوم و الحلم. تداهمك همساتها وأنتما في الشارع وحيدان إلا من عواء القطط و رائحة الفاكهة. بعيدا عن وهج التراب، تتسرب قطرات من ماء التواريخ القابعة في زوايا الذاكرة..هل للمدن تاريخ و ذكرى أم ألق؟.. الحجر لا يساوي شيئا أمام ذاكرة المدن العتيقة و من تمنعه الشفاه من ذكر أسماء العاشقات للشعر و الشواطئ و البساتين و الغمام أن يكون فاتنا إلى حد الجنون فهذا يعني هبوب الرياح مع القلق على تضاريس الصحاري و أن تكون شاردا في الشوارع المكتظة بالدخان و الحجر و العرق، فهذا هو الهروب المفاجئ من اللحظة الهاربة من مرارة الانحسار و الدخول إلى النفق الذي لا ضوء فيه و لا كلام. خريف هو العمر أم ربيع هي الدنيا حين تجيء الحروب هادئة تتباهى بأسماء القتلى و المفقودين و الأسرى الذين غادرهم النعاس ليروا صور الجلادين و السجائر الحارقة. قيل قبيل مجيء الفتاة النزقة أنه يلذ للبعض فيهم أن يرى الأظافر المقلوعة و الأجساد المرهقة. خلت المدينة من المارة و القادمين من الشرق و الغرب بحثا عن فرح غائب و هذه الأرض الممتدة من بدايات المواجع إلى نهايات الشفق، من يمنعها من ذكر الأحباب الذين قضوا حبا في إخراجها من عنق الزجاجة و إدخالها إلى الخارطة الناعمة الحائزة على شبر واحد من الضوء. تشع المدن الدافئة على شقيقاتها الضامئة، هل يكون الدفء خارج إطار اللغة و الظمأ خارج دائرة الرمز؟.. و الدلالات أعوزتها الحروف و إيصال الفكرة، و العبارة خانتها قطرات الحبر. البحر شاهد كل مساء على قبلات العشاق ليس هروبا من حرارة العناق إنما خجلا من بكاء النوارس. هذه التي كلما داهمها مشهد عناق تغرق في البكاء. من قال أن الشموع دليل الخوف و الاغتراب و الانكسار... فصلاح الدين بكى و "لوممبا" قبل أن يغتال بكى، و الذين أنجزوا صحوة يناير بكوا. أجل بكوا، و لم نكن مصدقين أن ماء العين مصفاة للذنب و الخطيئة و الانحدار و ما اللحظة التي تسقط فيها الدمعات إلا دليل النصر القادم. ماذا يفعل الكائن الغريب عن مرايا النفس و المرء كما تراه الحدقة في حدها الأقصى من العذوبة و العذاب، سوى أن يمد يده للنهوض الفاتن و تلملم يداه عناقيد الدهشة و رائحة الشاي. العيون التي بكت صبيحة الخميس البارد، لم تستسلم للغموض و ما داخلها الشك يوما في إمكانية هدم مرتكزات العسف و تأسيس جسور الأمل المفعم بطلاقة اللسان و الأسئلة. لم يغب عن أسلافنا قبس النور المضاء بالمصابيح الفائقة. كأن خيوط الفجر استفاقت على وقع أقدام المخبرين الأنيقين لامعي الأحذية و النظرات، و الجسد نائم على ستائر الغيبوبة، لكنه صبيحة الخميس المفاجئ الباكي دوما على بطولاته السابقة صحا و صار كنخل الجنوب شامخا كصفاء الغروب و كأنه يعلن للعالم: لن يموت الجسد إلا واقفا. لن تموت ذاكرة الواقفين على ضفاف الحدائق و الذاهبين بأحلامهم إلى منتهاها. الطريق الطويل لتخليد ما تبقى من الدفء و العبور الأخير لنهر البهجة و التيه، لا زال هو ذاته الطريق الذي سلكته عربات الأسلاف القابعين في مقابر غرناطة و إن وقفت عجلات التاريخ كما أراد بعضهم أو زعم البعض الآخر فان لها مواعيد مع الشبيبة خلافا للتقارير.. ألم تقل الفتاة التي عانقتك بعد أن جالستك: الغيم يوحي بالانحياز للعيون الشاردة و الطيور الهاربة من ضجيج عابر. أن تقاتل رياح الردة فهذا لا يعني أنك عاشق للسنديان و متيم حد الضحك بماء الطفولة. هل تبادر بمغادرة القاعة و الفصل الأخير لم يكتمل؟.. تفاصيل المشهد لم تصل إلى تجاعيد الحدث. إذا لن تغادر القاعة حتى و إن أرغموك على خلع ثيابك و اتهموا أصابع يديك بالخروج عن مراسم الاحتفال. ربما فاقوا أو استفاقوا على حقيقة كونك من سلالة المتطيرين الآتين من وراء التلال، ماذا لو يكون الاتهام حقيقة و الخروج من أسوار الأنين ذهابا إلى أقصى التفاصيل، و مشاهدة مسرحية صامتة إيذانا باندلاع الأسئلة الهاربة من حدود المكان. تمكن منك الإصرار و عبثا يحاولون إرغامك على الهروب بجسدك النحيل من هذا الخراب المتناثر هنا و هناك. يربكك صخب المقاهي و السجائر لا تبالي بانسداد الأفق و ابتعاد الماء عن الشلالات. و حين تمر أمام الحدائق، لا تراها تجيل النظر في وجوه الجالسين، كأنك الباحث الوحيد عن نشوة اللحظة، واحدا فواحدا تسألهم.. لا إجابة الآن، قد تجيء غدا فلا تجد وقتا كافيا لتحديد الاعتراف و سحب البساط من تحت أقدامهم. صبيحة الخميس التي حاولت نسيانها تحتل موقعا ما في خبايا الضوء. السماء الذي هالتك زرقتها صباح خروجك عن أسوار الغربة..صافية تماما. امرأة النور تقابلك بمحض إرادتها، دامغة العينين مذبوحة الخواطر، و المساء الذي يتفرد بالهدوء و الصمت الأنيق الجليل تشيح بوجهك عن برودة غرابته. تستطيع إذن، أن تقرأ ما بين السطور في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، و تحتسي قهوتك و نظراتك ثابتة في اللوحة المعلقة على جدار المكتب: ولد وحيد و ربما يكون يتيما يحمل في يده اليمنى مزهرية و حمامة في لون الأرجوان تحط على كتفه الأيمن. لكن الفتى يسرع الخطى و كأنه اكتشف مواجع الكون و الحمامة الباهتة في الولد لم تختلس نظرة إلى الوراء..فاجأها التقاء الصوت و الصدى، الجسد و الروح، فأطلقت جناحيها للغناء. النداء الطالع من دهاليز القلب لم يسمعه الفتى، و لم ترهف السمع صاحبة الأجنحة المشاكسة لنداءات الحكمة و التراجع عن عنادها الصارخ..
هل ضاع حبل التواصل مابين أديم الأرض و شفق الغروب؟
-ربما كان بإمكان الفتى أن يمر سريعا أمام الملاهي لعل صديقا قديما يذكره بالجبل العتيق.
أتصير الحروب مباهج لإدراك الحكمة و أكداس الجثث مجالا فسيحا لاختراق سقف الكهانة؟..سألته وذابت في تراب الطريق، فصار شبيها بطائر الباشق المشاكس لرذاذ المطر. من الغد ساءلتك الفتاة التي لا تعرف اسمها: "من أين لهم هذا.."، تجيبها و عيناك لا تفارق صحيفتك المفضلة" أغدقته عليهم السماوات حين كنا نياما . و أبعدنا عن القطيع أحد الأولاد ، تبتسم وتمضي ولا تدري أن وراءها أطفالا من زعفران و ماء. تمشط شعرك و لا تنسى أن تسوي أزرار القميص قبيل الخروج، فقد تصادف إحدى صديقاتك المغرمات بالأناقة تقف على مقربة مترين من المقهى، تدخن السيجارة الثامنة و تطلب التاسعة من صديق عابر لزقاق الغيم وخجلا منك لا يرد الطلب، يعطيك علبة سجائر و يهديك كتابا جديدا لكتاب مغمور و يمضي كالسحاب، تعجب بهذا السلوك النادر فتغرق مع المارة في الهذيان. خلت المدينة إلا من صخب المقاهي و انتهى ضجيج المدن. هل غادروا منازلهم شوقا لرؤية الولد الوحيد و أنت لازالت واقفا أمام الحدائق؟.. تراك هناك ، و لا تراها هنا حذو المسرح الذي تفكر في العودة إليه لكن تخونك المسافة و حلاوة الجلوس قرب الشيخ الحكيم. حتما أرهبتك نظراته الشاردة و حكاياه عن الراحلة، فائقة الجمال و العناد ولا تملك سوى أن تهدهد على كتفيه و تقرآن معا قصائد"لبابلو نيرودا". أنك لست الأول و لا الأخير الذي أعلن توبته أمام الجميع، و فر هاربا من الساحة..يؤثثون هروبهم بالكلام الأنيق. كانوا جالسين هنا قبل أيام قلائل، ينظرون للغد الآتي، ماذا بهم الآن؟ أبوصلة الشمال أبعدتهم عن بياض الوضوح وقربتهم من حدود التراجع ربما..ولكن ما ذنب البنات اللواتي جلسن على ضفة الوادي يترقبن مجيء الهلال المطل على التل المتاخم للضياء. سوف أشرب على نخب الفوضى المعاصرة لدهشتنا خمرا عتيقا. لم نكن وحدنا في المشهد فمعنا القليل من الغربان و كثير من النوارس و فتيان لا ينامون إلا إذا فاجأتهم العاصفة. تمر سريعا قرب حانات الضواحي، لا أحد يترقبك، لا امرأة الأربعين و لا أصدقاء الطفولة و العجائز، و يشربون النبيذ المعتق على أنقاض الجثث المتراكمة هنا وهناك.لا أحد يراقبهم سوى صمت العواصم، ولا أحد يباغتهم عدا زفرات أنين الضحايا، أكوام من القتلى و الجرحى قرب الجسر الذي عبرناه صباحا، فجأة يصيح الولد المهاجر : لن يمروا و إن مروا فعلى أجسادنا، لن يناموا حذو حبيباتنا و إن ناموا فعلى نيران الحصار المؤثث بالدموع و الكبرياء"، يأتي أولادنا فرادى و جماعات ليعلنوا فرحتهم برحيل أحفاد الغزاة الهاربين من خطاف القدس. أبعد أحقاب وأتعاب يرحلون و يدخنون سجائرهم و يداعبون حبيباتهم بعيدا عنا. أعرفوا الآن فقط هشاشتهم و خطأ المجيء إلى أرض لاحق لهم فيها؟.. ألم يكن من الأجدى أن ينسحبوا من عقود خلت ليوفروا لنا و لهم الوقت الكافي لبناء ما يجب أن يبنى و تحطيم ما يجب أن يحطم، أكان لابد من اندلاع الحروب ليعلنوا في النهاية رحيلهم من هناك. نجلس في مقاهي الناصرة و نتسكع في شوارعها و ندخل مساجدها و مكتباتها و جنود الضفة الأخرى يبتسمون لامرأة عابرة و يسألون الكتب القديمة ماذا يحمل الزمن القادم. هل سنأكل التفاح و ندخن السجائر و نقرأ"يدعوت احرنوت" ولا يفاجئنا محمود درويش بقصيدة أخرى من سلالة "عابرون في كلام عابر" ولا تغني فيروز عن السلام الضائع و أرض الأنبياء و الأولاد الباحثين عن صباح هادئ و ليل فاتن و الحدائق المؤثثة بالصمت الجليل و زقزقات السنونو. لنا ما يكتبه الحبر الساخن و ما تحمله الأمهات من حنين خرافي للصباحات الدافئة.
كاتب صحفي وشاعر من تونس
E-mail : abidbechir@yahoo.fr
التعليقات (0)